أحمد عبد الرحيم
حسنًا، أنت تعرف رقابة القنوات التلفزيونية، تلك العين الثانية التى تعيد مراجعة الأفلام بعد رقابة السينما، كي تحذف أو تجيز، التى تختلف أجندتها من قناة لأخرى، لاعتبارات سياسية، أو دينية، أو غيرها. فى البداية لم يكن هناك إلا رقابة التلفزيون المصرى الحكومى، التى اعتادت قنواتها حذف جملة مثل “2 ديابة محطوطين فى قفص واحد، لازم حد فيهم ياكل التانى” من الفيلم المصرى (ملف سامية شعراوي – 1988)، التى قد تلمِّح لصراع بين ناصر وعامر عقب هزيمة 1967 لا يقتنع التلفزيون به، أو جملة عاطفية مثل “أنتِ تحركين فىَّ أمورًا لم تتحرك منذ زمن”، التى يقولها قس عجوز لغجرية حسناء فى الفيلم التلفزيوني الأمريكي (The Hunchback أو الأحدب – 1997) شكًا فى إنها قد تُفهم على منحى جنسى، أو الربع الساعة الأخيرة من الفيلم السينمائي الأمريكي ( The Band Wagonأو عربة الفرقة – 1954) كى يُعرَض البرنامج الإخباري للقناة فى موعده!
مع مرور الزمن، وتعدد القنوات، الأرضية والفضائية، القومية والخاصة؛ تعددت الأچندات، والحذوفات أيضًا، ولا شك أنك اعتدت على هذه الإجراءات، وتقبَّلتها باعتبارها جزء من تقبَّلك للقناة التلفزيونية، كآخر يُدخِل الفيلم السينمائي فى مقاييس قناعاته، كي يقبل أشياء، ويرفض أشياء، ثم يعرضه عليك وفقًا لهذه القناعات؛ ليتراوح رد فعلك ما بين التأسى على “قصقصة” الفيلم السينمائى، بأشكال متنوعة، تختلف وكل قناة، أو الضحك لأن الفيلم صار متاحًا فى بعض القنوات الأخرى بدون أى حذف. والحق أن الرقابة – مع تضاؤلها– ستبقى موجودة، وسيبقى الصراع معها أيضًا. فى الخارج، لديهم نظام Ratings أو تصنيفات تحدِّد مُشاهِد الفيلم وفق سنه، وطبعًا يتم اختراقه بكل الوسائل؛ من أول قنوات التلفزيون المفتوحة للجميع، وصولًا إلى مواقع الإنترنت التى لا يحكمها أى سن. وفى الداخل، حتى لو ارتضت رقابة السينما للمبدع تقديم ما يريد، فإن ملّاك القنوات التلفزيونية يخضعون لأفكار معينة، أيًا كانت، ويعرضون ما يتوافق مع هذه الأفكار، أو يشوّهون عملًا فنيًا كى يخضعوه لهذه الأفكار.
إذًا نحن أمام قضية مشتعلة عالميًا ومحليًا، وستظل مشتعلة، لكن هناك قضية جديدة، قد تضيف نارًا أعتى وألعن!
الآن – أيها السادة – لم تعد القنوات التلفزيونية تمس العمل الفنى برقابتها فقط، وإنما هناك أدوات تشويه جديدة؛ غريبة ومبتكرة، وإذا ما سلّمنا أن شخصًا ما حذف مشهدًا يحوى عبارات، أو لقطات، أو أحداث، على نحو قد يؤذى الرؤية الفكرية أو الفنية للفيلم، ويمحو جزءًا من تكوينه؛ فماذا بشأن شخص آخر غيَّر فى “صورة” الفيلم؟ ألا يؤذى هذا رؤية الفيلم، ويمحو جزءًا من تكوينه أيضًا؟!
إليك مثال، عند مشاهدتي للفيلم المصرى (أحب الغلط – 1942) إخراج حسين فوزى، عبر قنوات “روتانا زمان”، و”روتانا كلاسيك”، و”الأوربت سينما 2″، لا أقابل إلا عجبًا، ففي المشهد الذى تعود فيه تحية كاريوكا إلى منزلها، لتقابل أمها فردوس محمد وأنور وجدى وخطيبته أمينة شريف، تدخل كاريوكا مذهولة، ثم تعلن للجميع أنها اُختيرت بطلة لفيلم سينمائى، لنرى zoom out ناعم على وجه فردوس محمد تتعجب قائلة: “يعنى ح تبقى يا بنتى زى المعلم بحبح؟!”. هنا لابد أن يصيبك الذهول أكثر من البطلة وأمها وأنور وجدى وخطيبته، فاستخدام عدسات zoom، سواء للابتعاد التدريجى zoom out، أو للاقتراب التدريجى zoom in، لم تكن معتادة فى السينما المصرية ذلك الوقت، ولم تظهر إلا بعدها، وعلى نحو نادر، منذ نهاية الخمسينيات؛ مثال: اقتراب تدريجى على وجه توفيق الدقن بعد أن أصابه الثراء فى فيلم (سر طاقية الإخفاء– 1959) إخراج نيازى مصطفى، وابتعاد تدريجى من على عماد حمدى بعد إبلاغ حسين رياض بحالة ابنته المرضية فى فيلم (هدى – 1959) إخراج رمسيس نجيب. إذًا، هل ما رأيناه فى (أحب الغلط) هو أول zoom out فى تاريخ السينما المصرية؟
يتكرّر الـzoom out مرة أخرى، فى النسخة المعروضة نفسها، عند لقاء حسين صدقى بتحية كاريوكا فى إحدى الحدائق، خلال جملتها “يا سلام يا علوى، ما تتصوّرش أنا سعيدة أد إيه النهاردة!”، ليتكرّر معه السؤال المحيّر: هل حسين فوزى هو أول مخرج مصرى يفعل ذلك؟ إنه كان أمرًا غير مألوف إطلاقًا، كما أنك لن تلمحه فى أفلام أخرى، لاحقة وعديدة، للمخرج عينه. أظن أنك لو شاهدت نسخة أخرى، أقدم، للفيلم ستكتشف أن هذه الزوومات لا وجود لها، وأن الأمر لم يكن إلا “حركة” بأحد برامج الكومبيوتر الحديثة، التى تتيح إجراء اتجاه تدريجي من عمق الكادر إلى محيطه، أو العكس، لتسأل هذه المرة فى ألم ومرارة: من يفعل ذلك؟ ولماذا؟ وبأي حق يتدخل فى رؤية المخرج؟ وكيف يُعبَث بتراثنا بهذه الحرية؟!
مفارقة أخرى، لا أعلم إن كانت أكثر طرافة أم سخافة، تحدث مجددًا مع (أحب الغلط)، حيث كنت أتمتع بالتقاط خطأ سينمائى يقع – بالضبط – فى الثانية العاشرة التى تلى الدقيقة 38 بعد الساعة الأولى من الفيلم، عندما يقنع منسى فهمى ابنه حسين صدقي بالزواج، وخلال نهاية المشهد، مع التعتيم التدريجى، يظهر على شريط الصوت صيحة المخرج حسين فوزى: “إستوووب!”. هذا الخطأ الطريف متاح فى نسخة العرض الخاصة بقناة “الأوربت سينما 2″، لكنك لن تجده فى نسخة قنوات “روتانا”، فهل رأت القناة أن حذف الصيحة نوعًا من إصلاح صناعة الفيلم؟ إنها جزء من حقيقته، وهفوة صارت مع الوقت مدعاة للابتسام، ومثالًا سلبيًا قد يستخدمه أساتذة السينما لتحذير مهندسي الصوت من تكراره. باختصار هذه الصيحة تاريخ، فمن أذن لكم بإعادة كتابته؟!
أما فى الفيلم المصرى (بين القصرين – 1964) للمخرج حسن الإمام، فهناك ذلك المشهد الذى نرى فيه لأول مرة شخصية زوزو نبيل، كالأم التى يزورها ابنها عبد المنعم إبراهيم لإثنائها عن قرار زواجها من شاب يصغرها سنًا. يتميز هذا المشهد بتصويره عبر long take أو لقطة مشهدية، بمعنى أن الممثلين يتحركون داخل الكادر، مع إلقاء حوارهم، بينما الكاميرا تتابعهم، بدون قطع مونتاچى واحد على أى شىء آخر طوال المشهد. إنها تقنية صعبة تحتاج خطة معقدة لحركة الممثلين والكاميرا، و”نَفَس طويل” فى البروفات والتنفيذ، ولا يتَّبعها، قديمًا أو حديثًا، إلا مخرجون معدودون، كان منهم حسن الإمام، الذى قدم مشاهد شبيهه فى أفلام أخرى له؛ مثل مشهد لقاء أنور وجدى بحسين رياض كى يطمئن الأخير أنه أخرج ابنته من المدرسة الداخلية، شاكيًا له خطأ ظنها أنه أبوها فى (قلوب الناس – 1954)؛ حيث المشهد عبارة عن لقطة واحدة لا تنقطع طيلة دقيقتين و48 ثانية، أو مشهد صدام عماد حمدى مع ولديه حسن يوسف وعبد الحليم حافظ حين قرّر تزويج الأول من نادية لطفى رغم حب الثانى لها فى (الخطايا – 1962)؛ حيث المشهد عبارة عن لقطة واحدة مدتها 3 دقائق و5 ثوان. فى المشهد المذكور آنفًا من فيلم (بين القصرين)، تستمر اللقطة المشهدية إلى مدة تصل إلى 3 دقائق و55 ثانية، لكن يبدو أن هذه التقنية لم تعجب شخصًا ما، قام فى النسخة التى تعرضها قناة “الحياة 2” من الفيلم بإجراء قطع مونتاچى على زوزو نبيل، وذلك عند جملتها: “هو ده إللى جابك؟”، لتتحطم تقنية المشهد، ويتقلّص فجأة حجم الكادر من اتساع الصالة؛ وفيه الابن عبد المنعم إبراهيم واقف يمينًا، والأم زوزو نبيل جالسة على أريكة يسارًا، إلى كادر مقرَّب لزوزو نبيل على الأريكة فقط، مع العودة للكادر الأول الأصلى، بعدها بقليل. مجددًا، من فعل ذلك؟ وما الداعى؟ وكيف يُعاد إخراج المشهد على هذا النحو؟ وكيف يتشوّه تراثنا بهذه الطريقة؟!
وكما يقول المثل الشعبى “كل ده كوم، وإللى جاى كووووم تاااانى خاااالص!” تابع جيدًا قنوات التلفزيون المصرى الحكومى، ومنها نايل سينما (التى لن تعرف أبدًا لماذا لم تُسمَى “سينما النيل”، بدلًا من تسميتها بمنطوق الترجمة الإنجليزية للكلمة، على هذا النحو الركيك، مبهم الفرنجة؟!) وستكتشف أنها تعيد إخراج أفلامنا المصرية على نهج المخرج الأمريكى كوينتن تارانتينو!
عند متابعتك لفيلم (عريس مراتى – 1959) للمخرج عباس كامل على “النايل سينما”، أو أى من بقية قنوات النيلة، أقصد النايل، الخاصة بتلفزيوننا العريق؛ ستجد أن فصول الفيلم غير مرتبة على نحو صائب؛ لتشاهد هرب البطل إسماعيل ياسين مع زوجته، عقب تزييفه لانتحاره، وتنكره كشخص سورى، ثم تشاهد – بعدها– تزييفه لهذا الانتحار، وتصديق زوجته لموته، وظهوره ليعترف لها بالحقيقة! لا يا عزيزي القارئ، هذا لم يكن flash back أو عودة للماضي، أنت فقط لم تشاهد الفيلم فى قنوات أكثر احترامًا، حيث ستدرك أن هناك فصلًا متقدمًا معروضًا قبل ميعاده، وأن التلفزيون المصرى نسى الترتيب الصحيح، ليذاع الفيلم، على امتداد سنتى 2014 و 2015، بهذا الشكل العجيب، مما يدفعك إلى أن تضرب كفًا بكف سائلًا: هل البشر هناك نيام؟ أم يعتبرون ملايين المشاهدين نيامًا؟ وفى جميع الحالات، صارت نسخة الفيلم هكذا عملًا ينتمى لعالم ما بعد الحداثة، مماثلًا أسلوب تارانتينو فى عرض فصول القصة على غير ترتيبها الزمنى فى فيلمه الفائز بأوسكار السيناريو (Pulp Fiction أو قصص شعبية رخيصة – 1994)!
يظل تأثير تارانتينو على التلفزيون المصرى قويًا وعنيدًا، فعند عرض الفيلم التلفزيونى (أيوب – 1984) للمخرج هانى لاشين يحدث الشىء نفسه (أه والله العظيم!)، لتشاهد حفل خطوبة آثار الحكيم، بحضور صديق والدها فؤاد المهندس، ثم تشاهد – بعدها– محاولات أمها مديحة يسرى كى تقنعها بالخطوبة (!)، وسعى والدها عمر الشريف للبحث عن كتبه القديمة التى ستذكِّره بصديقه فؤاد المهندس الذى لم يره منذ سنين (!!)، الفكرة ليست أن جريمة مثل ذلك تحدث، الفكرة أنها تحدث منذ زمن، ولا أحد ينتبه أو يحقِّق، يعتذر أو يصحِّح، وربما مع الوقت سيظهر علينا باحث مغمور ليخبرنا أن السينما المصرية سبقت تارانتينو فى إبداع تقنيته، وحينها – أرجوكم – لا تلوموه وحده!
إذًا لم تعد الرقابة التلفزيونية هى اليد العابثة الوحيدة التى تلهو بأفلامنا، وإنما صارت هناك أياد أخرى، صحيح لن تعلم أهدافها، وإنما بالتأكيد ستجرحك أفعالها، وسواء كان الفاعل فنانًا مكبوتًا، أو متلاعبًا جاهلًا، أو مجرد مجنون، فإن ما يحدث جريمة كاملة تمسخ تراثنا السينمائى، وتشوّه تاريخه، وعدم إيقاف هذه الفوضى ستؤدى قريبًا إلى ظهور نسخة من فيلم (الناصر صلاح الدين – 1963) ينتصر فيها الصليبيون، ونسخة من فيلم (الشموع السوداء – 1962) تحب فيها نجاة روى كلب صالح سليم بدلًا من صالح سليم ذاته، ونسخة من فيلم (حياة أو موت – 1954) نرى فيها الأحداث معكوسة، على غرار فيلم كريستوفر نولان (Memento أو تذكار – 2000)، ليُنقَذ عماد حمدى فى البداية، ثم نتابع المحاولات المستميتة لإيجاده بعدها!
…………………
*نُشرت فى مجلة أبيض وأسود / العدد 38 / فبراير 2015.