عبد العزيز دياب
لم يكن بمقدور السيد “فرانز كافكا” أن يحدد صاحب اليد التي سحبت جسده الأهيف وأجلسته على كرسي عرش ملكي، خطفته كما تخطف يد القدر الروح من الجسد، وجد أن الحرس. الجنود. الحاشية يحفونه في البهو الواسع، جاءه صوت غليظٌ له دوى أحدث ذبذبات هائلة: أنت هذه الساعة ملك… ملككك.
ساعة لا ينبغي أن يكون فيها كرسي المملكة- كما تصور أحد الحكماء- شاغرًا-بهدف تماسك المملكة- حسب معتقد قديم- إلى أن يتم تنصيب ولى العهد ملكًا.
قالوا أول شخص يمر أمام القصر هو من يستحق الجلوس على كرسي العرش هذه الساعة، فكان السيد “فرانز كافكا” يمر هائمًا، يشحذ قريحته ربما لكتابة قصة قصيرة، في الخلفية كانت قهقهات تتناوب وراء بعضها كموج البحر، تلفت عَلَّه يستطيع تحديد مكانها، ألبسوه بدلة التشريفة، والتاج على رأسه من الذهب الخالص، والصولجان بيمينه، وهو يردد: يا عالم أنا لا أصلح لهذه الوظيفة.
جاءه صوت يلومه برقة فقد أصبح بالفعل هو الملك: أتعتبرها وظيفة؟!
بحث عن صاحب هذا الصوت ليقدم اعتذاره: أقصد أنني لا أصلح لهذه المهمة سواء كانت ساعة واحدة، أو كنت سأشغلها طوال حياتي، أنا فقط أكتب القصص والروايات.
كان ذلك الحدث بحسب ما جاء في مذكرات السيد “فرانز كافكا” المجهولة- أعرف أن ذلك سيكون صدمة للجميع- التي تم العثور عليها مؤخرًا في أحد الكهوف- ولَدَىَّ الشهود على ذلك- بجبل “بترين”، ولا تختلف هذه المذكرات مع نسخة المذكرات التي أودعها لدى صديقته “ميلينا” ويُحْتَفَظْ بها الآن بمكتبة “جامعة أوكسفورد”، لا تتناقض أو تتقاطع معها بأي شكل من الأشكال، إنما هي تتوازى في الأحداث معها، وإن كان ذلك بشكل مختلف، ربما كانت هي الوجه الآخر الميتافيزيقي لها.
لم يتوقع السيد فرنز كافكا أن يكون ملكًا لمدة ساعة واحدة، تأمل الحرس، والوزراء والحاشية، سأل باهتمام بالغ: أنا الآن ملكًا؟؟
أجابته صَيْحَةُ الحرس العفية عند أقواس البهو الملكي، قهقه من هم في حضرته، هو لا يدري إن كان ذلك سخرية أم أنه شيء طبيعي أن يقهقه الحرس والوزراء والحاشية في حضرة ملك، حاول أن يقنع نفسه بأنه في حلم، كل ما شعر به تلك اللحظة أنه خارج الزمان والمكان، أشار لصاحب اليد التي خطفته في البداية وأجلسته على كرسي العرش، قال: إليكم قراري الملكي.
الملك- المتوج لمدة ساعة- بدأ يمارس مهامه الملكية، مع دهشة من هم في حضرته من الوزراء والحرس والحاشية، يريد أن تُسَجَّلْ هذه الساعة من حُكْمِه في تاريخ البلاد، هكذا اعتقدوا وتهامسوا.
أعتمد قرارًا ملكيًا بمقتضاه يمثل المدعو “كافكا” للتحقيق معه بشأن ما اقترفت يداه من كتابات لم تكن خالصة لوجه الكتابة نفسها، كان الهمس الذي دار بين الحضور أكثر ضجة من قرع الطبول، أوضح الملك “فرنز كافكا”، قال: كتابات المدعو “كافكا” يا سادة ما هي إلا شفرات ينبغي البحث وراءها وحولها، أمامها وخلفها، ربما كانت في داخلها فَضْحٌ لأسرار هذا الوطن، هي شفرات يا سادة تتضمنها على سبيل المثال قصة “شعار المدينة”، وقصة “خبطة على بوابة السّراي”، وقصة “في الحلبة”، وغيرها من أعماله السردية التي ينبغي التحقيق معه بشأنها.
تسلم كبير الشرطة الأمر الملكي، كلف رجاله بمهمة القبض على المدعو “كافكا” قبل أن تنتهي الساعة، بالفعل مَثُلَ المدعو “كافكا” أمام الملك “فرانز كافكا”، أمر بأن يساق للتحقيق معه بشأن ما هو منسوب إليه حسب القرار الملكي، كان يشيعه بقهقهات مجنونة ساخرة لا يعرفها إلا أمثاله أهل الكتابة والأدب.
مضت الساعة الملكية للسيد “فرانز كافكا”، لم يعد بعدها ملكًا، مضى إلى حال سبيله وكأنه ما جلس على عرش هذه المملكة، حتى لو كان ذلك لمدة ساعة واحدة، أما المدعو “كافكا” المتهم والمحال للتحقيق كان يتم استجوابه بشكل بشع بعد أن سحبه حارسان في طرقات رطبة ومعتمة، تتفرع إلى طرقات أشد رطوبة وأشد عتمة، ظل الحارسان ينحرفان به يمينًا وشمالًا إلى أن استقر بهم المقام في قبو ضيق أكثر رطوبة وعتمة يسأله شخص لا يراه عما هو منسوب إليه، في البداية أتعب “كافكا” رجل التحقيق، وأتعب رجل التحقيق كافكا بوسائل لا تخفى على الكثيرين، وكانت براءة المدعو كافكا واضحة جلية، أثبت التحقيق أن كتاباته هي لوجه الكتابة نفسها، لا أكثر من ذلك.
حالة من التوجس لازمت المحقق، رغم إطلاق سراح المدعو كافكا، لم يستطع أن يخرج منها إلا بعد أن أمر بخمسين جلدة لكتبه.
بمجرد أن غادر “كافكا” بوابة القصر الملكي كانت في انتظاره أسماء كثيرة من السابقين واللاحقين: ماركيز. نجيب محفوظ. إيتالو كالفينو. خوان خوسيه مياس…، تأملهم في ذهول ودهشة، تجاهل نداءهم له، أطلق لساقيه العنان غير مصدق أنه تم إطلاق سراحه، فيما كانت طرقعات السياط على كُتِبِه هناك في القبو العميق المظلم شرسة وقاسية، تطارده ويشعر معها بالألم الرهيب، في الوقت الذى تأتيه قهقهات ساخرة للسيد “فرانز كافكا” الذى كان ملكًا.
ورد ذلك الحدث بتاريخ 19 أكتوبر 1921م ضمن نسخة المذكرات التي عُثِرَ عليها بكهف جبل “بترين”، تلك المذكرات التي أخذت على عاتقي- أنا الراوي- أن أجمع نسخها- دون أن يكون في ذهني هدف واضح لذلك- التي لا تزال في حيز ضيق ولم تتناثر بعد.