عاطف محمد عبد المجيد
ما من شكٍّ في أن الكتابة الإبداعية الفلسطينية تختلف عن مثيلاتها في بلدان الوطن العربي الأخرى، لا سيما وأن المبدِع الفلسطيني يعيش حياة غُربة إجبارية لا تبدو في الأفق نهايةٌ لها، سواء أكان في الداخل على أرض وطنه المحتَل، أو كان في الخارج على أرض المنافي في شتى بقاع المعمورة.
نعم يعيش المبدع الفلسطيني هذه الغربة، أو هذا الاغتراب، نتيجة للقهر الواقع عليه من قِبَل العدو الصهيوني، وكذلك نتيجة لتخاذل الكيان العربي الذي يكتفي، في أحسن أحواله وأقواها، بالشجب والإدانة لما يقوم به العدو الصهيوني. وعلى الرغم من أن الكيان العربي يرى بأم عينيه تمثيل العدو بجثة الوطن الفلسطيني المغلوب على أمره، إلا أنه لا يُبدي أيَّ حِراك تجاهه سوى الكلام ومن بعيد.
مراعي الكلأ الافتراضي
في أحد نصوص كتابها النثري الصادر عن مجلس الثقافة العام الليبي، الذي أسمته “مراعي الكلأ الافتراضي” تقول الشاعرة الفلسطينية وجدان شكري عياش: طوبى لمن يتصدى لطلقة حاقدة تنوي إبادة شعبنا، بيدٍ مجاهدة يقذف حجر المقاومة وباليد الأخرى يرسم إشارة النصر، ليغني غيري للسلام، فأنا ما زلتُ أوقد الجمر وأحتمي بلهب الثورة، والحرف المناضل المشتعل يساندني ويؤازر مسيرة الرفض التي ترافق خطواتي. أنا ابنة الشتات والآخرون يَحْنون الهامات خوفًا ريثما تمر عاصفتي. أنا ابنة الشتات، لغيري يثمر بستان بلادي، لغيري يزهر الياسمين ويصرخ بذلةٍ واحتراق.
أما الكاتب سالم العبار فيقول في مقدمته لهذا الكتاب: سر الإبداع أن تكتشف عمق الأشياء بذاكرة طفل وقلب أنثى. أن تجعل هذا الظاهر المخفيّ ساحة خصبة لاكتشاف الذات في أدق تفاصيلها. أن تُعيد ترتيب الكون وفق سؤال ملحاح لا يسلم بالجاهز المقولب المؤطر بالإحاطة والشمول.
ويضيف أن سر الإبداع هو أن تكتشف من أنت وأن تعيد النظر في تراتبية حروف الهجاء من الألف إلى الياء، وأن تجعل الذاكرة في نقطة الصفر متوهجة متوثبة مشاكسة. حينها ستكتشف أن الحواس تفوق الرقم المغلق، وأن في الحروف خصوبة لا تحد، وأن الذائقة الجديدة نزوع إلى الخلق على غير مثال.
وهذا ما فعلته الشاعرة التي لم تقف موقف المنقاد للجاهز والمتكرر بدءًا من حروف اسمها وانتهاءً بأدق تفاصيلها الحياتية بإيقاع دراماتيكي بين المأساة والملهاة التي تختزلها لفظة واحدة من لغتها المتوقدة بحرارة العاطفة والذاكرة الخصبة القادرة على التقاط الهامشي وإحالته إلى سؤال متحفز يقودك، أنت القارئ، إلى مناجم من الأسئلة السهلة العصية. وفور انتهائنا من قراءة هذا الكتاب الذي يحمل بين دفتيه مجموعة من النصوص النثرية نجد أن لغة الشاعرة لغة ساحرة ومراوغة معًا، كما تبدو هذه النصوص وكأنها إيقاع موحد من القدرة على تأجيج لحظة الكتابة من المبتدأ إلى منتهى مشروع على بدايات جديدة. ذلك لأن الشاعرة تعرت من كل شئ وتجاوزت كل الخطوط الحمراء فجردت كل الأشياء من دلالاتها القديمة لتقود قارئها إلى دلالات جديدة يقف إزاءها موقثف المندهش، لأنه حينها يطالع ذاته بوضوح. كذلك تؤكد الشاعرة في كتابها النثري هذا أنها تمتلك مقدرة خاصة على الإدهاش والبوح.
متعة لا حدود لها
ليس هذا وحسب، بل إن الشاعرة رأت في تفكيك مفردات اللغة وأعادت صياغتها من جديد بطريقة تجعل القارئ يقف أمام تراكيبها موقف المتأمل المنبهر، مثلما تنتقي مفرداتها بعناية فائقة وتقوم بترتيبها بسلاسة، مما جعل عباراتها رقيقة، تفوح عذوبة ورقة تضفي على قارئها متعة لا حدود لها.
إضافة إلى هذا ترفض الشاعرة استخدام العناوين الجاهزة والمعلبة التي لاكها آلاف الكتَّاب من قبل، ولا أبالغ حين أقول إن معظم عناوين هذه النصوص تصلح وحدها لأن تكون قصائد نثر قصيرة ومكتملة: وهْمٌ يتوسد ذراع القلق، نهر ينسكب في متاهات الروح، أنثال بهدوء شرس على طفولة روحك، سأفتح الباب لذئب الكتابة، كقصبة جوفاء تسكبين لحنك الشجي، لماذا تهوى إسدال اليباس على خضرتي؟، هل ترتكبين معي حماقة العيش في أرض بور؟، أفكر في الاستحمام بماء حروفك، دعي ماء بوحك تعانقه حجارة شكي.
هذا وعلى الرغم من أن لغة هذه النصوص تبدو في ظاهرها وكأنها لغة مفرحة تحمل بين طياتها الآمال العريضة والطموح إلى غد مختلف وأحلى، إلا أن المتأمِّل المدقِّق يجد أن الحزن يُبطِّن أرضية هذه اللغة من الداخل، وقد يكون ذلك إثر جرح غائر ولَّده حرمانٌ ما تعيشه الشاعرة سواء أكان على المستوى الإبداعي أو على المستوى الإنساني.
وها هي الشاعرة تقول في أحد نصوصها: فأي صياد تكونين أنتِ؟ صياد الحكمة والشِّعر أم الوصل لغرقى لجة الحرمان وبحار العطش، أم الشعور بخناق الحياة في صورها المجحفة. فلا مفر ولا مهرب إلا إلى سمكة الوقت تطعمنا من لحمها الطري لعلَّ يكتب للصياد الحياة من فتك جوع روحي. لا تشبعه إلا أسماك البحر الميت.
كذلك تقول: وجدان، واو ثملة بتعاستها تقف كحارس النار بفمها الشهي. تمد أناملها. تتحسس جمر الجيم التي تنتفض ولهًا. كلما بأنفاسها اللاهثة احتضنت مساحات البوح لدالٍ تمارس سبق خيالها باستحياء أمام الألف المنتصبة والنون التي تضاجع خيال الحرف وتستحلم وما من نطف تدّعي أحقية أبوتها في هذا الإرث المجنون.
لن أتوقف عن الكتابة
ونظرًا إلى أن الشاعرة تعيش في غربة بعيدًا عن وطنها الأم منذ سنوات طويلة فقد فاض شوقها إليه: ألملم أوراقي وأمتعتي. فقد حان الرحيل وأي رحيل أجمل من أن يُيمِّم المرء صوب الأحباب. صوب الوطن. صوب الحنان المبعثر في الشوارع بكل بؤسه وصفائه.
وعن علاقتها بالكتابة تقول: لا شئ يمنعني من الكتابة طالما هناك الاستعداد وهناك الوقت وهناك الوسيلة التي تهدر وقتي وقتًا طيبًا. وسيلة تسفح دماء أيامي على مذابح التواصل. لا شئ يمنعني من الصمت…
وهنا ربما تكون ثمة إشارة إلى القيود التي تفرضها التقاليد في بعض البلدان العربية على الأنثى من تحجيم لحريتها ومنعها من ممارسة ما تحب، وتكمل هذه الفكرة في نص آخر فتقول: لن أتوقف عن الكتابة. ما دامت رائحة النعناع الجاف تتضوع في أرجاء المكان.
كذلك تقول: الكتابة لديّ حالة فوضى وجدانية تضطرب في أتونها مشاعري وتشتعل حواسي كلما لاح في الأفق ذلك الخيال الذي يدفع بوحشتي بعيدًا.
أما عن علاقتها بالنقد فتقول في أحد نصوصها: أنا حينما أكتب لا ترتسم في خيالي صورة الناقد الذي لا يتعاطى مع همي اليومي. فأنا أكتب قصيدة النثر مأخوذة بلهب نار قلبي التي تؤجج مفردات لغة غافية في حضن الصمت وتمنح لرؤى جنوني بعداً إبداعيًا..
ولحظة أن تشعر الشاعرة أنها لا تتعاطى حريتها كما ينبغي، وأنها تعيش أسيرة تقاليد وأعراف قد عفا عليها الزمن تقول: هذه أنا أطلق عصافير عمري للمدى الملعون الذي يؤطر حياتي بصفعة على خدود الورد آه، إنه خدي، صفعات تصلب أحلام قلبي وتريق دمي على أرصفة الحياة التقليدية الخالية من هذياني. هذيان يجعلني أسمو كالملائكة. ومن قال إننا لسنا بملائكة..؟!
ويحلو لي أن أختتم هذه السباحة الخاطفة في الكتاب النثري “مراعي الكلأ الافتراضي” للشاعرة الفلسطينية وجدان شكري بهذا المقطع من نصها المعنون بـضبابية الشجن، إذ تقول: يحلو لي أن أخاصم ذاتي، وأعيد صياغتها. أنزعها قهرًا من عالم لا تستوي الأشياء بين أحضانه. يحلو لشفتي أن تتلذذ بلعق دم تناثر شهوةً على حواف صمتي وعزلتي. يحلو ليدي أن تقبض على جمر انتشاء حروف تهيم على دفاتري. متلذذة بحيرة قلمي.