بسمة الشوالي
تمطر..
يسري في شعاب الحدس دفق الشّوق يحمل إليّ وجهه كزهرة اللّوتس على قارب الماء. أغرق فيّ بحثا عنّي. لا أجدني. أنا في مكان آخر. أمسح وجه ذاكرتي المضبّب، يضبّب الدمع صفحتها أكثر. أراه طيفا يقترب، لمسة ترعش وتر الرّوح، صوتا يرتّل اسمي في استغراق المبتهل يتناهى إليّ من ركن من العالم عميقا مغرورقا عاشقا: حليمة..
هو بخير، يذكرك الآن، يحدّث عنك شخصا ما بوَلَه وندم وحيرة أسئلة تخشى أجوبتها، تقول لي عرّافة القلب عن حدس عن حنين عن رغبة جارفة في تصديق أصغر كذبة عنه فأصدّقها. فهل ترى يحدس بعْد أنّي ما أزال حيّة أحرس جيناته الوراثيّة الثريّة من التبديد الذاتيّ والسّطو الخارجيّ؟ أنّي أتحسّس يوميّا وليليّا رعشة كفّيه في منديل أمّه الذي ينعقد على الصّدفات ووعده لي بالعودة إليّ ولو في النّزع الأخير من العمر..؟ أنّي كذبت لأحمي من تاريخه ولديْه، وفررت منه إلى استمراره الآخر فيهما وفيّ..؟
صار ولداه التّوأم، مروان ونوري، اليوم بعمر الحادية عشر، ويشبهانه جدّا.. فهل يحدس؟
تمطر. يضوع التراب برائحة جسده.. يتهيّأ لي أنّه هاهنا، ملء شوقي، يضمّني من خلف، يسرّح أنفه شرِها في الشّعر ونهر العنق فيما أدّعي الانشغال بقطيع أحلامي المتقافزة على شاطئ الأمنيات.. يهمس مقتبسا عن رينيه شار: “يا فتاة، إذا ما طاب لأحدهم أن يوشوش في أذنك ذات يوم أنّ النّهر نجيَّك ومرآةَ نظرتك الحزينة والفرِحة لم يعد قائما فلا تصدّقي. ليكن هذا الإنذار مناسبة لأن تهرعي إليه مرّة أخرى وتتلقي انْثِيالَه. ولدى العودة لا تتعجّلي في مغادرة الحقول التي يسقي. اُدخلي كلّ منزل يُلمح حضوره فيه. تسكّعي في سيرك.. أو قفي للحظة تحت الشّجرة الأكثر خضرة، على مقربة من القصب. عمّا قريب لن تعودي وحيدة..”
فأفرح وأغضّ الطرف عن طيف امرأة أجنبيّة تتجوّل في دمه، كنت أظّنها، خطأ بريسكا مدبّرة منزل رينيه بو.. لم أكن حينها، سنة اثنتين وتسعين من القرن المنقضي، قد عرفت ألين..
تمطر. ترسم الشّمس ابتسامتها الملوّنة قوس قزح على خدّ السّماء. يمرّ بـ”بلاّعة العرايِسْ”[1] موكب عرس “الذّيب” في مخيّلة الأطفال وحكايا الرّعاة. لم يقصّ أحد أنّ الأرض الموحلة ابتلعت عروس ذئب ما كمثل ما ابتلعت هذه الأرض فاطمة تلك.. ليست الذّئبات كفواطم القرى البعيدة عن مجال رؤية الحاكم حين يعنّ له أن يرى وطنه..
البياض الحافّ بالقوس السّماويّ الملوّن هو ضحكة كومبا البيضاء.. كان يخشع برهة من صلاة وشكور حين يراه، يلتمع الرّضا في ماء عينيه:
” اُنظري عربيّه، هذا قوس الله وميثاقه. بعد الطوّفان، كلّم الله نوحا ومن معه من بنيه قائلا:” وضعت قوسي في السّحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض، فيكون متى أنشر سحابا على الأرض وتظهر القوس في السّحاب، أنّي أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كلّ نفس حيّة في كلّ جسد فلا تكون المياه طوفانا لتهلك كلّ ذي جسد” فلا تهلكي جسدك الحبيب بطوفان الموج، يغضب منك الرّبّ وينكسر قلبي من بعدك عربيّه، عديني بذلك..”
لم أعِدْه. ظلّ كومبا نوحا آخرَ، يصنع لي من ذراعيه فلكا ينجيني كلّما ألمّ بي داعي الطوفان.
يقول النّاس إنّ جنّيا أسود ضخما شوهد يتجوّل ليلا في السّاحة الخلفيّة لفيلاّ عيّاش منذ أشهر، وسُمعت أصوات عويل وصراخ تنبعث من قبوها كأنّما الشّياطين تصلى الجحيم.. سجنته العجوز بالقبو ولا شك. هي لا تزيح أحد أشرس عملائها وأبرعهم في التّهريب والتخفّي عن عيون الأمن والوشاة إلاّ لخيانة لا تغتفر.. فماذا تُراك اقترفت يا صديقي..؟
عذرا كومبا، كان لا بدّ من فرار حاسم ونهائيّ. لم أقطّع شريان المعصم جدّيّا لأنزف حدّ الموت كما أوهمتك، ولا حقنتُني بسمّ الريسين كما أخبرت نوري.. كبر ولداي حينها، وآن أوان العودة إليهما دون أن أدع لك أو له أملا في العثور عليّ..
كنتُ حاملا بتوأم لمّا توفّي رينيه بو فجأة، لأكتشف أنّه لم يكن رينيه، وأنّي كنت زوجة كذبة مرعبة. عدت إلى أهلي بصفة أرملة رجل أجنبيّ لكن بثروة مغرية وسيّارة فاخرة اشتريت بهما زوجا يمنح اسمه لولديّ: مروان ونوري. حظّي العاثر كان كاتبا فاشلا كلّما أجدبت مخيّلته قتل شخصيّات قصّته ليخلوَ له وجه السّرد بلا عقد. مات زوجي الثّاني فجأة أيضا. أنتِ “عتْبة”، قالت أمّي وخشيت أن تفقد أبي جرّاء طالعي المنحوس. وكان لا بدّ من لابدّ ما..
تركت طفليّ في عهدة والديّ وعدت أدراجي إلى فيلاّ رينيه لأتحوّل تحت سامي إشراف ألين إلى راقصة في AlinaCasino“، سوق المتعة العالميّ المزركش بالأضواء والنّساء، المفعم بالغواية والعطور والموسيقى والمرح الضّاج.. أبيع الهوى المشحون بنثار المخدّرات ومياه السّكر وعرق الأجساد المعدّة للسّباق في حلبة الشّهوات المتلاطمة، وأشتري الذّمم والأسرار والأعراض والأراضي والفتيات والفتيان.. من يوقّع قبلة على جسدي يوقّع قبل ذلك على عقد بيع ما.. سَلّمْ تسْتلمْ..
ما أسرع ما كانوا يبيعون لقاء متعة لا يبقى منها عند الصّباح سوى كلام مائع دُهن ليلا بالزّبدة فأصبح يقطر من أطراف ألسنة توشك لا تذكر شيئا ممّا لعقت.. أقول كان وكان فيصدّقون.. للاسم سلطانه، وعربيّه كان اسما آسرا، قطعة فنيّة جميلة ونادرة تفوز بأعلى سعر كلّما انتصب لأجلها بيع بالمزاد العلنيّ..
“عربيّه يا دولة..”، يهتفون..
يا لَهوْل ما كانوا يبيعون من الدوّلة في هذه الـ “دولة”.. ! ما أكثر ما خسرت.. ! وما أدهى ما قد أخسر لو علم ولداي يوما ما بالذي كان.. !
تمطر..
ينجرف السّيل المثقل بالأوشاب والأوساخ وبقايا الحياة المتقصّفة إلى المصبّات البعيدة والضّفاف القاصية.. تنظف المجاري وتظلّ الأوساخ روائح وصورا تنبض في ذاكرة الأمكنة..
……………………………..
[1] – منطقة ريفيّة ب قرية “دار فاطمة” من مدينة عين دراهم – تونس. يروى أنّها سُمّيت كذلك بعد موت عروس تسمّى فاطمة ومن يرافقها في الموكب غرقا في بركة موحلة أثناء سفرها إلى بيت زوجها.