هداية شمعون*
لقد نبت لهم جناحين، يطير الأطفال الآن في غزة يطيرون كالحمام، يحلقون عاليا بعد أن فقدوا حضن أمهاتهم وفقدوا سند آبائهم، وفقدوا دعم أعمامهم وعماتهم، حلقوا بعد أن فقدوا حب خالاتهم وأخوالهم، رفرفوا بعد أن فقدوا جيرانهم فقدوا أصحابهم، وانطبق البيت بجدرانه الأسمنتية على قلوبهم فأصبحوا يهرولون إلى السماء فزعين من هول الفاجعة، نبت لهم جناحين أبيضين كأجنحة الملائكة في القصص والحكايات التي طالما قرؤها وحلموا بها، إنهم يحلقون الآن في سماء غزة لا يزعجهم إلا بشاعة وضخامة الطائرات الحربية الإسرائيلية التي تزاحمهم السماء الأولى، تقذف المزيد من الموت لأبناء مدينتهم..!! يحدقون من علو لبقايا مساكن حيهم، مدرستهم المدمرة، حديقتهم المتواضعة أصبحت قاحلة لا أطفال أحياء فيها…!!
أكثر من سبعمائة طفل فلسطيني يرفرفون بأجنحتهم في السماء الأولى، يحدقون وقد باغتهم الموت وانتزعهم من الحياة على حين غفلة من الجنيات، لازالوا يحدقون مذهولين من هول يوم القيامة الغزاوي، كانوا ينتظرون صباحا آخر…!! نفس آخر.. لكن طائرات الاحتلال الإسرائيلي وصواريخها لم تترك لهم خيارا حولت بيوتهم إلى مقابر، كل طفل شهيد يبحث من الأعلى عمن تبقى من أهله، خمسون عائلة فلسطينية مسحت من السجل المدني لم يتبق منها أحدا…!! هل حقا هذه العائلات التي فازت نعم، لقد فازت بأنها ذهبت كلها بمن فيها بأحلامهم بذكرياتهم بحكايتهم، لم يتركوا أحا خلفهم احتضنوا بعضهم بشدة فرفرفوا في لحظة واحدة واستشهدوا معا…!!
تتكدس جثامين أكثر من مئة شهيد في ثلاجات مستشفى الشفاء في مدينة غزة، بعضهم لم يتبق أحد من عائلاتهم ليتعرفوا عليهم، بعضهم لم يعرف جيرانه بعد أنه شهيدا، بعضهم أشلاء اختلطت أيديهم بأقدام شهداء آخرين، بعضهم لازالوا يحلمون بأنهم على قيد الحياة/الموت، الموت أصبح قاسيا جدا في غزة، الزميل الصحفي علي جاد الله يحمل جثمان والده الشهيد في سيارته الخاصة وحيدا تحت سوط القصف المتواصل ينشد دفنه لا أحد معه، لا اسعاف ولا جيران ولا أصدقاء لا أحد فالكل من حوله إما شهيدا او مصابا أو تحت الأنقاض لازال أو نازحا أو راكضا ..دفن والده وحيدا، حفر قبرا لوالده وحيدا، لم يجد وقتا كافيا للبكاء أهال التراب على أبيه ورفع يديه للسماء..!
مقبرة جماعية
إنه الموت تنتشر رائحته في كل شارع من شوارع غزة، مقبرة جماعية قام الأحياء بحفرها وسميت مقبرة الطوارئ فأحد لم يأتي من عائلاتهم ليتعرف على الجثث وأقصد من ظل ناجيا أو على قيد الحياة، في غزة احتفظت المشفى بأخذ وتوثيق لعلامات مميزة في الأجساد الملفوفة بالكفن الأبيض، عل أحد في يوم ما يمكنه أن يتعرف عليهم؟! كم أصبح الموت قاسيا على الأحياء…!
في غزة لازال هنالك أحياء تحت الأنقاض يسمع البعض أصواتهم، صراخهم ثم يخبو الصوت، وفي غفلة من الحياة يأتي الصوت من ركام البنايات الشاهقة والتي تكومت كرضيع في حضن أم، طبقات طبقات هوى على ساكنيه، هنالك أكثر من ألف مفقود من نساء وأطفال ورجال وشيوخ تحت الأنقاض المدمرة، منهم من أسلم الشهادة ومنهم من لازال يعاني الألم والعتمة والعطش، يعلم من هم فوق الأرض أن هنالك أحياء يركضون لطلب النجدة لكن المعدات للإنقاذ تتناقص ولا يوجد آليات كافية أو جيدة يمكنها أن تنقذ حياتهم.. هل تدركون كم أن الموت قاسيا في غزة حين يقرر الأطباء أن هنالك جرحى أكثر أولوية للعلاج أو من هم يشارفون على لفظ الشهادة؟؟!! هل تدركون معنى أن يفاضل الطبيب المتبقي واقفا لسبعة أيام متواصلة يعالج على مدار الساعة الجرحى والمصابين؟ كيف يمكن انقاذ آلاف الجرحى في ذات اللحظة وبطاقم طبي يفقد شيئا فشيئا أطباؤه باستهدافهم ويتقصد قتلهم وعائلاتهم أيضا..
عن أي موت يمكن أن أحدثكم، عن موت الروح أم موت الجسد.؟!
غزة تعيش نكبة أكثر شراسة وبشاعة من نكبة الثماني والأربعين مع فارق أن العالم في هذه النكبة يقف إلى جانب القتلة السفاحين…! إبادة جماعية وعلى شاشات التلفزة نزوح في كل مناطق غزة أكثر من مليون نازح داخل غزة، قتل وتعمد قصف الشاحنات المفتوحة التي تقل النازحين فيسقطون شهداء في شوارع المدينة، عشرات الشهداء ومئات الإصابات في صفوف المدنيين الفلسطينيين…!
عن أي موت نتحدث عن ابن ينقل جثمان أبيه الشهيد على عربة يجرها حصان ينقله، وقد استشهد بعد اصابته فلا اسعافات تصل منطقته في الشمال، ولا مركبات ولا أي وسيلة مواصلات لنقل الجريح الذي أصبح شهيدا في طريق الحياة/الموت، إلى أي حد يمكننا البكاء على قسوة الموت الذي كان رحيما في وقت ما، تعبنا من كثرته في الطرقات والبيوت والمدارس، لم يعد هنالك مقاهي كي يغطيها الموت بالدماء، لم يعد هنالك بيوت مأهولة بالسكان فقد نزحوا إلى أقاربهم، فقفز الموت إليهم حيثما رحلوا…!!
غزة بيت عزاء كبير لكنها لم تقم عزاء واحد
الموت في غزة لا يشبه الموت المرفه في مكان آخر، فلم يقام بيت عزاء واحد في غزة رغم استشهاد أكثر من ألفين وسبعمائة شهيد، منهم أكثر من 700 طفل نبتت له أجنحة الملائكة، لم يقم أحد في غزة بيت لعزاء أحبابهم فهي دوما استثناء حتى في موتها، لم يقم أحد بيت عزاء لأنهم لازالوا يركضون من القصف، ولأن لا وقت لديهم للحزن، لا وقت للبكاء، لا وقت ليحتضن الأحياء بعضهم، فكل منهم تغيرت معالم وجهه، ومعالم بيته، ومعالم مدينته…!!
أحاول التواصل مع الأصدقاء والصديقات والأهل فأعرف أن صديقة عزيزة لقلبي قد وهبت الحياة من الحياة، إلا أن عائلة أخيها الكبير وزوجته وبناتهم وأطفالهم قد استشهدوا في غمضة عين بعد أن نزحوا من مكان لمكان علهم يجدون الأمن والأمان لكن عبثا.!! لا أجد أي إنسانية فيما نعيشه الآن لا أستطيع مواساة صديقتي، ومن قبلها لا أستطيع أن أرثي أي أحباء وأقارب قد غادرونا، قتلوا بينما لا أستطيع حتى أن أرثيهم لأن آخرين منهم لازالوا تحت الردم، وآخرين لازالوا تحت قسوة الموت الذي فتح أنيابه وبات يمضغ لحمنا ببطء ودون توقف منذ ثمانية أيام متتالية بليلها ونهارها، يالله كم أنت قاس أيها الموت لما لست رحيما بنا كي نعد أنفاسنا، لقد حفرت قسوتك في أيدي أطفال غزة فباتوا يكتبون أسماءهم كاملة على أيديهم، ينقشونها بدل الحناء فإذا ما استشهدوا أملهم أن يتم التعرف عليهم..!! هؤلاء الأطفال كبروا ألف عام فأنت لم ترحم كبيرهم ولا صغيرهم…!!
لقد غدونا نسأل الأهل والأصحاب كل ساعة ذات السؤال هل أنتم على قد الحياة؟ أنتو عايشين فتأتي الإجابة في أوقات متباعدة لسة عايشين.! تقتلنا الإجابات أكثر، بل تقتلنا الأسئلة أيضا كيف يمكننا أن نفكر في دفن شهداءنا.!! أيها الموت كن رحيما بالأحياء والأموات فإن قلوبهم الراجفة لم تكف عن ذكر الله في السماوات الأعالي، حيث يحلق الأطفال الذين نبتت لهم أجنحة الملائكة…!
……………….
(*) إعلامية وكاتبة من قطاع غزة