محمد بركة
أتذكر جيدا كيف كان حال الأدباء والشعراء في نهاية عقد التسعينيات بمصر، حفنة بائسة من أصحاب المواهب الذين يئسوا من وجود قاعدة قراء حقيقية واستسلموا لما ظنوا أنه قدر مكتوب ولعنة أبدية: لا يوجد قارئ حقيقي وكتابك لن يوزع سوى عشرات النسخ يقوم المؤلف بتوزيعها بيده على بعض زملائه الفضوليين وحفنة من النقاد الذين تفيض ملامحهم بالتخمة والصحفيين الذين يتعامل معظمهم مع كل شيء باعتباره حقا مجانيا مكتسبا.
طبعا كثير من دور النشر التي يتصرف أصحابها وفق سيكولوجية “اللص الوقح” كانت تشجع على تعميق تلك الخرافة تمهيدا لابتزاز الأديب بالشاب والسطو على حقوقه بل ومطالبته بأن يتحمل نفقات طباعة العمل بالكامل.
اختلف الأمر في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة مع نشأة المكتبات الملحق بها “كوفي شوب”. الآن يمكن شراء كتاب وقراءته على وقع مشروب ساخن في مشهد يجمع بين الثقافة والترفيه. مكتبات “ديوان” ساهمت في تعميق حالة القراءة ودفعها إلى الأمام ولكنها ظلت حالة شبه نخبوية بحاجة إلى جهد إضافي. جاءت مؤلفات أحمد خالد توفيق الذي تعرفت على مقالاته مؤخرا ولم تستهوني إبداعاته لتستعيد حالة نجومية الكاتب وبريق المؤلف التي انتهت برحيل إحسان عبد القدوس ويوسف إدريس ثم نجيب محفوظ. واكتملت الحالة بظاهرة “حفلات التوقيع” التي مثلت متغيرا صحيا و تقليدا جديدا لكنها سرعان ما تحولت إلى نوع من الديكور الذي يخلو من مضمون قوي بسبب ضعف الحضور غالبا.
وانتظرت الساحة الثقافية طويلا حتى جاءت المرحلة الأهم والأخطر في انتعاش سوق القراءة. كان ذلك في عام 2018 حين لاحظت “سارة إبراهيم” وهى فتاة مصرية نهمة للقراءة تملك وعيها الثقافي الخاص في زمن السوشيال ميديا أن مشاعرها نحو الكتاب ليست نزوة عابرة ولا يمكن أن تكون ابدا علاقة ” توكسك”. بادرت على الفور إلى إنشاء جروب bookmark الذي تجاوز عدد أعضاءه 60 ألف عضوا في أقل من 4 سنوات.
ويأتي جروب “فنجان قهوة وكتاب” الذي تديره دينامو الوسط الأدبي “شيريهان محمد ” بحماس وطاقة لا تصدر إلا عن العشاق المخلصين باعتباره فاكهة الثقافة المصرية حاليا.
أما جروب “نادي القراء المحترفين” الذي أطلقه المبدع والناشر د. عاطف عبيد، مدير دار “بتانة” قبل سنوات وتشرف عليه “مرام شوقي” فتميز بالجدية الشديدة في التعامل مع الشأن الثقافي وتجاوز فكرة أن يكون مجرد ذراع شبابية لدار نشر جادة وانفتح على قضايا الإبداع مصريا و عربيا.
تلك الجروبات التي تديرها جميلات العقل والثقافة والوعي ليست الوحيدة في حياتنا الثقافية لكنها الأبرز من حيث الحضور والتفاعل ومتابعة الإصدارات الجديدة بشغف وحب. آلاف القراء يدلون بانطباعاتهم حول أحدث ما قرأوه مفتونين بفن الراوية لكنهم أيضا يبدون بعض الاهتمام بكتب علم النفس والفلسفة وهذا الوافد الذي اختلط فيه الحابل والنابل والمسمى بـ “التنمية البشرية”. ويمتد نشاط الجروبات إلى استضافة نجوم الكتابة وإجراء حوارات معهم حول أحدث إصداراتهم، سواء أون لاين أو وجها لوجه.
الحق أني فخور بهذا الحماس النسائي الهادر الذي أنعش لحياة الثقافية وأثبت لكل ناشر كسول أو فاشل أن جيل الشباب في مصر متعطش للقراءة ويتعامل مع الكتاب باعتباره سلعة نفيسة تضيء روحه وتغذي عقله.
