د. نعيمة عبد الجواد
تعدّ الرموز والأساطير التي تختص بها كل حضارة مصدر أمتاع لا ينضب، مهما تعاقبت الأزمنة، بالرغم من جميعها تقريبًا تنطوي على حكايات لا يمكن قبول حدوثها بالفعل. ومن ناحية أخرى، بالتأمل في حقيقة تلك الأساطير ومع محاولة فهمها، يلاحظ أنها وسيلة لفهم طبيعة البشر. وعلى هذا، دراستها تتيح التعرُّف على الكون وعلى فهم أنفسنا بشكل أفضل.
وتعدّ الأساطير اليونانية القديمة من أكثر أساطير العالم القديم جذبًا وإمتاعًا على مرّ العصور، ولربما السبب هو استحالة حدوثها على أرض الواقع. لكن المميز فيها، هو ذاك النسيج الدرامي المثير الذي يفتن القاريء بمدى تشابكه وتعقيده، ويجعله يحاول أن يفهم المغزى الحقيقي الكامن وراء تلك الحكايات الغريبة. ويعتقد بعض الباحثين أن الأساطير الإغريقية مصدرها ليس إلهام مؤلفها الغير معروف، بل هي حكايات قام من ألَّفها بتجميعها من أساطير لحضارات أقدم، ولقد سهَّل هذا كون اليونان القديمة كانت محطة هامة لسبل التبادل التجاري البحري. ومن الجائز أن البعض يستند على تلك الفرضية بسبب تشابه بعض القصص والأسماء في الأساطير اليونانية مع بعض أسماء وحكايات أبطال أساطير حضارات أخرى سبقتها.
وواحدة من غرائب الأساطير اليونانية هي حكاية الإله “هيفاستوس” Hephaestus، أو بالأحرى نعته باسم الإله المبتكر. فعلى غير عادة الآلهة الإغريق المتبطِّلين الذين يزجون وقت فراغهم الهائل على ساحة جبل الأوليمب في المشاحنات وحياكة المؤمرات، كان الإله “هيفاستوس” هو الإله الوحيد الذي يتمتَّع بموهبة فذَّة في الابتكار، وكان هدفه هو تغيير العالم ليس بقدرات سحرية أو خيالية، ولكن بعقله وقدرة ساعديه على التصنيع والابتكار. وعلى هذا، يمكن نعت “هيفاستوس” بالإله المخترع. ومن الجدير بالذكر، أنه كان يتم عبادته في اليونان لكونه إله الصُنَّاع والحرفيين والحدَّادين الذي نقل لهم أسرار الصناعة والحدادة، أضف إلى كونه إله النار والبراكين. ويعدّ معبده المشترك مع الإلهة “أثينا” Athena في جزيرة لمينوس الواقعة في شمال شرق بحر إيجه من أكثر المعابد التي تحتفظ بحالتها بين آثار اليونان القديمة، ويحتوي المعبد على ثلاثة عشرة عامودًا متراصة على الجانبين، وستَّة في الواجهة. ويؤكِّد المؤرِّخون أن المعبد كان يحتوي على تماثيل برونزية ضخمة لهيفاستوس والإلهة أثينا.
أمَّا المدهش في هذا الإله الأكثر نفعًا وخدمة سواء لآلهة الأوليمب أو للبشرية أنه الإله الوحيد الذي لا يتمتع بالكمال أو حتى الجمال. فلقد ولد أعرجًا بشع المنظر. وتروي الأسطورة أن أمُّه “هيرا” Hera زوجة كبير آلهة الأوليمب “زيوس”Zeus ، عندما فاض بها الكيل من خيانات زوجها المتلاحقة، قررت أن تلد طفلًا بنفسها دون تدخُّل ذكر باستخدام عُشبة سحرية.
وعلى هذا، أصبح “هيفاستوس” أول إله نتيجة تزاوج لا جنسي. إلا أن النتيجة لم تكن مُرضية على الإطلاق؛ فعلى عكس الآلهة التي تتصف بالكمال، ولد هيفاستوس مشوَّهًا وأعرجًا. ومن ثمَّ، قامت “هيرا” بإلقائه من قمة جبل الأوليمب أملًا في أن يلقى حتفه. وتروي الأسطورة أن في طريقه للسقوط، الذي استغرق عدَّة أيام، صدمه بركانًا، فحرق نصف وجهه. إلَّا أنه عندما سقط في البحر، تلقفته الحوريات الأقيونوسيات بعد سقوطه في الماء، ووضعوه في كهف حيثما تعلَّم كيفية تطويع وسبك المعادن لعمل مصنوعات رائعة. وكانت “ثيتيس” Thetis هي من عملت على تربيته.
ونظرًا لذكاءه الفذّ وقوَّته البدنية، فلقد تغلَّب على عرجه بأن صنع كرسيًا معدنيا متحرِّكًا. ولقدرته الخارقة على تطويع المعادن لتطيع إرادته، صنع خادمتان ذهبيتان لتساعداه.
واللقب الجدير ب”هيفاستوس” هو إله الدهاء والمكر الحقيقي على عكس آله الأوليمب ونزواتهم الطفولية. فلقد استطاع أن ينتقم ممن يسيء إليه ويصل لكل ما يصبو له بالحيلة. فمن أجل أن يستعيد مكانته بين آله الأوليمب، وانتقامًا من أمُّه “هيرا” التي هجرته، وحتى ينال التقدير الذي يستحقُّه كإله وصانع ماهر، صنع ل”هيرا” عرشًا ذهبيًا وقدَّمه لها كهدية. لكن حالما جلست فوق العرش السحري، تم احتجازها ولم تستطع النهوض. ولم تجدِ محاولات إله الحرب “إيريس” Ares بسهامه المسوَّمة معه. وحتى وساطة إله الخمر “ديونيسوس”Dionysus الذي صعد به إلى جبل الأوليمب بعد أن جعله ثملًا، لم تثنيه. ومن موقف قوَّة، ساوم “هيفاستوس” على حريَّة “هيرا” بزواجه من “أفروديت” Afrpdite إلهة الجمال، مع الاحتفاظ بمكانه في بانثيون الآله.
واستمر “هيفاستوس” في انتقامه الناعم ومساوماته للآلهة، ولم تمنعه عاهته من التخطيط للحصول على مبتغاه. ومن ناحية أخرى، عَلم أن عدم طرده مرَّة أخرى من الأوليمب مرهونًا بكونه نافعًا للآلهة. بل واستطاع أيضًا شق طريقه لقلوب البشر من خلال تقديم الخدمات لهم، وكأنه يطبِّق مبدأ “سيِّد الكون خادمهم”. فتقرَّب ل”زيوس”، وصنع له معبدًا رائعًا، وصولجانًا بديعًا، وخلَّصه من صداع رهيب بأن شجّ رأسه بقوَّته الفائقة، فخرجت منها “أثينا” إلهة الحكمة مكتملة النمو. وصنع له أيضًا السلاسل الخفية التي قيَّدت “برميثيوس” Prometheus العاصي إلى جبل، وكان أيضًا صانع النسر الذي عذَّب “بروميثيوس”. وأطاع “زيوس” بأن صنع له أنثى كاملة من طين لها هيئة الآلهة.
وردَّا للجميل، حمى “أخيل” Achilles ابن الحورية “ثيتيس” التي ربَّته، بأن صنع له خوذة ودرع وفَّرا له حماية مطلقة في المعركة. ويقال أيضًا، أنه علَّم البشر أسرار الحدادة والصناعة، ولهذا تمت عبادته كإله الحرفيين.
ويلاحظ من الأسطورة، أن قصَّة “هيفاستوس” المُبْتَكِر تضم مجموعة من التنبؤات التي لم تكن تخطر على بال البشر. فولادته، تشبه ولادة أطفال المختبر. والكرسي المتحرِّك، هو اختراع حديث. أمَّا الخادمتان الذهبيتان فهما نموذجًا للروبوت المزوَّد بالذكاء الاصطناعي. وناهيك عن أدوات الحرب المبتكرة، فالعرش السحري والسلاسل الخفيَّة على شاكلة وسائل التواصل الاجتماعي وعالم الإنترنت اللذان يسيطران على العقول. والدليل، الشبكة الخفية التي ألقى بها على زوجته وعشيقها “إيريس”، مكَّنته أن يعرض الخيانة على الآلهة وكأنه يذيعها على الهواء، وهذا تنبؤ ليس فقط بسطوة الآلة الإعلامية، بل بقدرة وسائل التواصل الاجتماعي على التجريس الفوري. والأغرب من كل هذا وذاك، فإن “هيفاستوس” يعدَّ من أوَّل من أبرزوا مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة” قبل ميكيافيللي، فكل انتقام أو حتى صنيع قدَّمه كان وراءه غاية شخصية. ولعل قصَّة زواجه من “أفروديت” خير دليل.
الإله الأعرج المُشوَّه “هيفاستوس” يضاهي البشر في عدم وصولهم للكمال. ولهذا، فيمكن القول إن وجوده رمزًا لمحاولة البشر بالتمتُّع بقدرات خارقة. أمَّا العجيب في تلك الأسطورة هو احتوائها على إشارات عجيبة لمستقبل الابتكارات والعالم الرقمي والنواميس الحديثة المشوَّهة التي تحكم الإنسان الحديث.