خليل صويلح
اختزل الشاعر الراحل محمود درويش الصورة بقوله: «وصف حالتنا يضيف إلى الميثولوجيا أكثر مما يقتبس منها». في جغرافيات مستقرة، لن نقع على كلمات من نوع: تهجير، وتطهير، ومنفى، ولجوء، ونزوح، وتدمير، وشتات، وإبادة، وإبعاد، وطرد، ومخيّم، وجدار فصل عنصري، وأسلاك شائكة، وحواجز، لكن فلسطين وحدها ستعيش هذه المفردات جميعاً، تحت وطأة احتلال جهنميّ لا يشبه سواه في التاريخ المعاصر
«ليس للفلسطيني إلا الريح والمنافي»! كأن هذا ما عملت إسرائيل بدأب على تحقيقه طوال تاريخها الملطّخ بالعار، كبند أول في اقتلاع السكّان الأصليين، كما لو أنهم هنود حُمر. وكان علينا أن نؤرّخ للمكان الفلسطيني بعدد المذابح التي ارتكبتها إسرائيل في مسعى من سلطة المحتل لتعميم سردية توراتية للنكبة الفلسطينية، وإعادة الاعتبار إلى أسطورة «أرض الميعاد»، والعبث في المعجم باستبدال كلمة «مستعمرة» بكلمة «مستوطنة». في جغرافيات مستقرّة، لن نقع على كلمات من نوع: تهجير، وتطهير، ومنفى، ولجوء، ونزوح، وتدمير، وشتات، وإبادة، وإبعاد، وطرد، ومخيّم، وجدار فصل عنصري، وأسلاك شائكة، وحواجز، لكن فلسطين وحدها ستعيش هذه المفردات جميعاً، تحت وطأة احتلال جهنميّ لا يشبه سواه في التاريخ المعاصر. في هذا السياق، نبّه محمود شقير (القدس- عمّان- براغ- القدس) إلى غياب السرد الفلسطيني المتعلّق بالقرية كمكان، معلّلاً ذلك بقوله «إن محو مئات القرى الفلسطينية، ألغى النص المواكب لها، فنحن لا نستطيع الكتابة عن قرية لم تعد موجودة في الواقع»، لكنه في المقابل سيستعيد تاريخ مدينة القدس والقرى المحيطة بها في معظم أعماله الروائية والقصصية.
في روايته «فرس العائلة»، يوثّق تاريخ العشائر البدوية الفلسطينية مطلع القرن المنصرم وما تلاه، وكيفية استقرارها في تخوم المدينة، فتتشابك المرويّات باطّراد، نظراً إلى الانتقال من المكان القصي المفتوح على الخلاء إلى المكان الضيّق، بالتوازي مع التحوّلات السياسية التي طرأت على البلاد. إذ ينشأ جيل جديد على مقاومة الانتداب البريطاني، ومشاريع الوكالة اليهودية، وهجرة اليهود إلى فلسطين، فتحضر أسماء شخصيات وطنية أدت أدواراً مؤثرة في الوعي الفلسطيني. كما أن تفكّك المكان الأول بأساطيره وأضرحته وغزواته وانكساراته، سترمّمه إحداثيات مدينة القدس بشوارعها وأسواقها وأماكنها الدينية، وتعددها الثقافي، وهو ما انعكس على سلوكيات البدو، الذين انخرطوا في مشروع التمدّن، وإن ظلت القيم البدوية حاضرة في وجدانهم الجمعي. نحن إذاً، إزاء مدوّنة ضخمة برواة متعددين، يتداخل في نسيجها الحكي الشفوي مع الوقائع التاريخية، كأن محمود شقير أراد أن يكتب «مئة عام من العزلة» فلسطينية، لكن من موقع مختلف. هكذا تتواتر سرديات المكان في عناوينه الأخرى مثل «القدس وحدها هناك»، و«القدس مدينتي الأولى»، و«تلك الأمكنة» مزاوجاً بين الفقدان والعناق، الغياب والحضور، نظراً إلى إبعاده القسري سنوات طويلة خارج البلاد، ستكون مبتدأَها وخاتمتَها القدسُ، فهو يختزل هذا التشظي المكاني بقوله «أبواب القدس تظلّ مشرّعة في الليل، لأنّ الغزاة أصبحوا في الداخل»، مؤكداً أن لا فرق بين غزة، ورام الله، والقدس، ما دام جحيم الاحتلال هو نفسه في كل الأمكنة: «كانت شواهد القبور تحكي كل شيء عن وطني. شاهدت كل القرى والمدن، بيسان، يافا، الناصرة، غزة، القدس»، و«نريد صباحاً هادئاً خالياً من الطائرات التي تزرع الموت والدمار، خالياً من الجنود، ومن المستوطنين والمستوطنات، تتجلى في فضائه حرية بكر لا تعرف الانكسار. قلنا قولنا هذا ونمنا على أمل، واستيقظنا على آمال». من جهته، عالج إدوارد سعيد (القدس- القاهرة- بيروت- نيويورك) مفهوم المنفى باعتباره شبكة فكرية ولغوية معقّدة، وحالة ناتئة في معنى الإلغاء والنبذ، والإقامة والعبور، والاغتراب والقسوة، وتالياً لن يكون مكاناً «لرثاء النفس والانطواء على الذات»، في حال خلق المنفيُّ لنفسه «فضاءات من الرؤية المتوازنة للذات والآخر وللمنفى والوطن»، من دون أن نتجاهل فكرة جوهرية هي «أنّ المنفى يبقى محنة وخسارة فادحة لا تعوّضها لذائذ البيئة الجديدة وبدائلها». في «تأمّلات حول المنفى»، يفكّك المفكّر الفلسطيني جغرافية الارتحال وكيفية نشوء «هوية مضطربة / قلقة»، ذلك أنّ «المنفى هوّة قسرية لا يمكن تجسيرها بين الكائن البشري وموطنه الأصلي، وبين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلّب على الحزن الناجم عن هذا الانقطاع. وأياً كانت إنجازات المنفيّ، فإنها خاضعة على الدوام لإحساس الفقد».
وعليه، ستتجاذب المنفيّ «تيّارات عديدة من دون أن ينتمي لأيّ منها»، لكنه سيعوّض «المكان الخطأ» بمكان متخيّل، وهو ما أنجزه في سيرته الذاتية «خارج المكان»، محوّلاً نوستالجيا المكان وقلق الهوية إلى سردية فاتنة في مراجعة الذات وألم المنفى «الأرضُ كلها فُندق، وبيتي القُدس» يقول. غادر إدوارد سعيد القدس عام 1947، وعندما عاد إليها في أوائل التسعينيات، سعى إلى زيارة منزل عائلته، ولكنّه لم يتمكن من تحقيق هذه الأمنية المؤجّلة، إذ احتل ساكنون جدد المنزل، و«تذرّعوا بأسباب عاطفية كابحة جداً ومبهمة جداً لعرقلة دخولي إليه مرة ثانية، بل لمنعي عملياً من الدخول، ولو من أجل إلقاء نظرة خاطفة»، فاكتفى بتأمّل المنزل من وراء السور الخارجي لا أكثر. يقول ساخطاً «يبدو وكأننا أيتام، كأنه ليس لدينا أصول، ولا حكاية، ولا سلالة كشعب». بهذا المعنى، فإنّ صاحب «تمثلات المثقف» يعوّل على تأصيل المكان من داخله بوصفه حكاية حقيقية ينبغي أن تُروى على الملأ بلسان الضحية لدحض سرديات الآخر المزوّرة. سؤال الضحية ستطرحه سوزان أبو الهوى (القدس- مخيّم جنين- الكويت- بنسلفانيا) باستعادة الأمكنة المسلوبة، والبناء على نصوص أقدم في تظهير المأساة الفلسطينية عبر أجيال متعاقبة، ففي روايتها «بينما ينام العالم»، تستحضر ما سبق أن رواه غسان كنفاني في روايته «عائد إلى حيفا»، عن طفل فلسطيني عثرت عليه أسرة يهودية في منزل استولت عليه عام 1948، وتولّت تربيته، لكن النسخة الجديدة من الحكاية تقوّض الأصل بأن يستولي جندي إسرائيلي بالقوة على طفل من حضن أمه ويهديه إلى زوجته العاقر، ثم يتشظّى النص إلى خرائط متعددة في تفسير مفردات مثل النكبة، والنكسة، والشتات، والمخيّم، والكوفية، عن طريق مزج الوثيقة بالمتخيّل السردي والمشاهدات الشخصية للكاتبة، وهي هنا تلتقي مع إدوارد سعيد في أنها تكتب بالإنكليزية، وتحاور الآخر بشجاعة، كما في كتابها «صباحات جنين»، إذ تقول: «الحقيقة التي لا مناص منها أنّ الشعب الفلسطيني دفع ثمن الهولوكوست».
وتضيف: «منحتني الفظائع التي رأيتها الرغبة الشديدة في البوح، وكان صمود سكان مخيم جنين وشجاعتهم وإنسانيتهم مصدر إلهامي». وتضيف: «سعيت دوماً كي أجد المكان الذي أنتمي إليه. وحين بلغت السادسة عشرة، أدركت أنني تنقلت وقتها بين11 مكاناً، موزعاً على أربع دول مختلفة… كأن اسمي «ابنة الريح» تحوّل إلى نبوءة تحقّق ذاتها». في الرواية، يقول الجدّ متحسّراً وهو يتأمل أشجار الزيتون التي تقع وراء خط الهدنة: «اللعنة.. هؤلاء لا يعرفون شيئاً عن الزيتون. إنهم غرباء، ولا يربطهم بالأرض شيء. لو كان عندهم انتماء للأرض، لأجبرتهم الأرض أن يحبوا الزيتون». ستغلق صاحبة «الأزرق بين السماء والماء» قوس المأساة الفلسطينية بعبارة حاسمة: «نظر في صمت إلى الدليل الذي صار الإسرائيليون يعرفونه، وهو أن تاريخهم مصنوع من عظام الفلسطينيين وتراثهم. لم يعرف الأوروبيون الذين جاؤوا لا الحمّص ولا الفلافل، لكنهم قالوا في ما بعد إنها من المطبخ اليهودي العريق».
على المقلب الآخر، سنقع على سرد هجين للمكان يحمل تواقيع كتّاب عادوا إلى فلسطين بعد هجرة قسرية، في زيارة أو إقامة، أو عبورٍ خاطف.
هكذا وجد مريد البرغوثي (رام الله- القاهرة- عمّان) في السرد ملاذاً متأخراً لكتابة سيرته، وإذا بكتابه «رأيت رام الله» يضعه في مقامٍ آخر، فقد ذهب إلى مسقط رأسه شاعراً وعاد روائياً. في هذا الكتاب السيرويّ، أعاد كتابة الأرض الأولى، من دون أن يتخلّى عن نبرته الشعرية، وإن بجرعات مضبوطة. كتاب يعيد ما هو غائب طوال ثلاثين عاماً من المنفى إلى صاحبه بمرايا مختلفة، وإن بزيارة موقتة، زيارة الغريب لا العائد، أو كما يقول: «يصاب المرء بالغربة كما يصاب بالربو. ولا علاج للاثنين. والشاعر أسوأ حالاً». سيستعيد أولاً، جسر نهر الأردن الذي عبره نحو البلاد في صورتين: الأولى حين اجتازه للدراسة، ولم يتمكّن من العودة، بعد هزيمة حزيران 1967 واحتلال الضفة الغربية، والثانية باتجاه الداخل. اختبار قاسٍ لمعنى اللجوء والاقتلاع والمنفى وفكاهة العودة الموقتة أو كما يقول إدوارد سعيد: «إن التميّز الأساسي لكتاب «رأيت رام الله» هو في كونه سجلّاً للخسارة في ذروة العودة ولمّ الشمل. سيحضر المنفى لا العودة». هوية سردية عن أوجاع الفلسطيني المنفيّ عن أرضه، ذلك الذي «لا يقيم في الأماكن وإنما يقيم في الأوقات». بالنسبة إلى شخص مثل مريد البرغوثي، سكن 45 منزلاً، وتنقّل بين ثلاث قارات، ماذا تعني له العودة، وهو يرى جندي الاحتلال، بعد كل هذا الترحال القسري؟ يجيب: «هذا الجندي ذو القبعة ليس غامضاً على الإطلاق. بندقيته هي تاريخه الشخصي. هي تاريخ غربتي. بندقيته هي التي أخذت منّا أرض القصيدة، وتركت لنا قصيدة الأرض. في قبضته تراب. وفي قبضتنا سراب». العودة إلى رام الله إذاً، هي تأكيد عملي لسجلّ المفقودين: غسان كنفاني، وناجي العلي، وأسماء من العائلة، لكنه لن يجد المذاق الأصلي لتلك الأيام، وتالياً فإن هذا الكتاب ليس عن الحنين كما يتهيأ لبعضهم: «الحنين يتضمن مشاعر كسولة رخوة لا تحثّ على عمل شيء لمواجهة الخسران. إنه جزء من الركون للهزيمة والتحسّر على المفقود (مكاناً) والمنقضي (زماناً)، أنا لا أستسيغ رخاوة كهذه» يقول. ستجذبه لعبة السرد مرّة أخرى في «ولدتُ هناك، وُلدتُ هنا» (2009)، في رحلة عائلية بصحبة رفيقة عمره الراحلة رضوى عاشور وابنه تميم، بقصد تثبيت هوية الابن كفلسطيني، كما سيكتشف من كثب حجم الدمار العمراني والنفسي الذي خلّفه الاحتلال في حياة الفلسطينيين، معوّلاً على قوة الإرادة، والمراوغة في صناعة فن العيش والغضب لا الاستسلام، حتى إنه يلجأ إلى سيارة إسعاف للعبور من حاجز إلى آخر. يقول بأسى وهو يرى نفسه موزّعاً بين هنا وهناك: «الغُربةُ كالموت، المرءُ يشعرُ أنّ الموتَ هو الشيء الذي يحدث للآخرين. منذ ذلك الصيف أصبحتُ ذلك الغريب الذي كنتُ أظنّه دائماً سواي».
في «منازل القلب – كتاب رام الله»، يمزج فاروق وادي (رام الله- لشبونة) سيرته الذاتية بسيرة المدينة بعد حصوله على تصريح دخول إلى بلاد ما بعد اتفاقية أوسلو. هكذا يكتشف المكان بتحديقة مختلفة، إذ يباغت بمشهد المدينة فتنتابه أحاسيس متضاربة تتراوح بين بهجة اللقاء – بعد نحو ربع قرن من المنفى- وصدمة العودة إلى المنزل الأول، مستنجداً بمطلع بيت شعر للمتنبي: «لك يا منازل في القلوب منازلُ». لا يسجّل صاحب «رائحة الصيف» وقائع زيارته كسيرة ذاتية أو مذكرات، إنما كمرثية تفترق عن سواها في النبرة بما يتوافق مع جرعة الأشواق ولوعة الغياب، والتحوّلات التي طرأت على المكان «ها أنت في المنارة… ولا منارة! ها أنت في قلب رام الله.. ولا قلب للمدينة. لا حضناً يستقبلك… ولا أحد. لا أيدٍ تلوّح لك… ولا هاتف يهتف بك. لا أحد. حشد، زحام، رماد… ولا أحد. زحام مبهظ، غير مألوف لذاكرتك التي زرعت حنطتها في هذه الأرض، وشرعت تتأهّب الآن لاستعادة مكانها الأليف بعد أكثر من ربع قرن تبدّد في الغياب. زحام مقفر، فلا حبيبة ولا صديقاً. بشر كثيرون يتحرّكون… ولا من يؤنس وحدتك، أو يكسر غربتك. كلّ شيء كان يلتقي في ذلك المساء الرمادي الزاحف بعتماته، ليؤجّج فوضى الروح الموزّعة بين غبطة العودة وصدمتها الأولى»، وفي تجوال آخر يرصد ما طرأ على المكان في غيابه عنه «تستدرج السائق لمشاركتك انكساراتك وغبطتك، تسأله: منذ متى أصبحنا نصل إلى (قلنديا) دون المرور من القدس؟ فيجيبك بسخرية ودون تحديد للتواريخ: منذ أن شقّوا هذا الطريق، ثم يضيف بلكنة موشاة بحزن وانكسار: نحن نسير على الطريق التي رسموها لنا على الخرائط من زمن طويل».
أما محمد القيسي (مخيّم الجلزون- بيروت- طرابلس الغرب- دمشق- عمّان)، فيحيلنا إلى عذابات العيش في مخيّم، فهو نشأ يتيماً في «مخيّم الجلزون» شمال رام الله، وكان على والدته «حمدة البيك» أن تعتني به وتواجه مصاعب العيش وحيدة، إذ تمكّنت من تحويل الخيمة إلى غرفة من الصفيح، ثم «أضافت قبل تهجيرها الثاني سقفاً من الإسمنت وباباً وحوشاً ضيقاً، لقد استغرقها الأمر طويلاً، وعندما أغلقت الباب خلفها للمرة الأولى اكتشفت أنها تأخرت كثيراً، فجأة انتبهت للعتمة، وتحت ضوء شحيح تحسّست التجاعيد تحت عينيها ورأت يدين مشققتين». في هذا المناخ، لجأ الفتى لكتابة الشعر كملاذ من البؤس، وسوف يستعيد تلك المناخات الكابوسية في «كتاب الابن: سيرة الطرد والمكان»، ويروي رحلة عودته المتأخرة إلى المخيّم بعد ترحال بوهيمي بين مدن كثيرة وكيف زار بيت الأم، ولكنه وهو يخطو عتبة الحوش سيفاجأ بوجود عائلة بائسة استولت على البيت بغياب أصحابه «هزمتني تلك الكومة تماماً، توقفت بعد العتبة بخطوتين، ولم أتقدم إلى أبعد مما وصلت، كانت غرفة أمي خلفهم، وكانوا يتجمعون أمامها مثل متراس لا يمكن اختراقه، لقد غيّروا لون الباب، وأضافوا غرفة على سطحها وما يشبه دورة مياه في نهاية الحوش، قلت للرجل وأنا أحاول أن أبتسم لأبدّد قلقه:
فقط جئت للزيارة.
بينما كانت المرأة تواصل اعتذاراً مشوّشاً وعنيداً
– كان مهجوراً، ولم نكن نظنّ أنكم ستعودون… ليس لدينا مكان نذهب إليه…
قاطعتُها، وأنا أفكر بأمي «حمدة البيك» وقبرها الفقير على تلك التلة في «الرصيفة»:
معك حق، نحن لم نعد.
كان المنفى يواصل طحن أرواحنا جميعاً، العائلة وأنا وشقاء «حمدة البيك» الطويل». وتتخذ رحلة يحيى يخلف (سمخ- عمّان- دمشق- رام الله) مسلكاً آخر في تشريح «النسيج المسمّى وطناً» نظراً إلى التناقضات التي خلخلت معنى الإقامة، ففي روايته «نهر يستحمّ ببحيرة»، لم يجد المنفيّ العائد إلى غزة اسم بلدته «سمخ»، إنما «تسيمخ»، كما سيتعرّف إلى نموذج فلسطيني جديد هو «المتأمرك»، ولكنه سيأنس إلى البحر من دون تماسيحه «إنه بحر غزة المتوسط الحنون الذي لم يستطع أحد أن يبعده عن مكانه، وعلى الرغم من سبعة وعشرين عاماً لم يستطيعوا أن يأخذوا معهم البحر. سحبوا معداتهم ودباباتهم وأسلحتهم الثقيلة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يسحبوا معهم البحر». ويحذّر أخيراً من انفجار مقبل: «القنبلة موجودة داخل صدري… في أعماقي… حذار من الاقتراب فقد تنفجر بين لحظة وأخرى».سيعود أحمد دحبور (حيفا- مخيّم حمص للاجئين- بيروت- تونس- غزة- رام الله) إلى المكان الأول بتصريح يتيح له أن يزور بيته في حيفا.
كان البيت أطلالاً، لكن أشجار الكينا ما زالت على حالها «حين وصلت إلى الجزء الـمتاح من الوطن، أقصد الضفة وقطاع غزة، اكتشفت أنّ أهلنا يستطيعون اجتراح الـمعجزات والتمكّن من رؤية بعض وطنهم ولو بصعوبة». سيصف المخيّم الذي نشأ فيه بأنه «يشكّل مجسّماً مصغّراً لفلسطين»، في إشارة إلى اشتباك أمكنة النزوح واللهجات والأعراف في جغرافية واحدة، قبل أن تتمزّق الخريطة إلى كانتونات منفصلة تحيط بها مستعمرات إسرائيلية من كل الجهات. «البيت هو ركننا في العالم وفردسونا الدنيوي» وفقاً لما يقوله غاستون باشلار، لكن ما اكتشفه العائدون إلى الوطن المحتل أنّ «الطريق إلى البيت أجمل من البيت» وفقاً لما قاله محمود درويش إثر عودته إلى رام الله، فالحلم أقوى بمراحل مما تراه العين، وبهذا المعنى، كما يوضّح حسن خضر «يمكن القول إن في الطريق إلى البيت بيوت، فالوصول إلى البيت يعني النفي من بيت سبقه، لذلك يصبح آخر البيوت ما لا يمكن الوصول إليه، وينفرد الطريق بجماليات يستمدها من استمرارية تستعصي على الانكسار، لا من نهاية محتملة. وهذه لعنة المنفى ونعمته الفائقة. وبهذا المعنى، أيضاً، تكتسب عبارة محمود درويش دلالة كونية، تتجاوز خصوصية المنفى في سياقه الفلسطيني: «لستُ من هنا ولا من هناك. يصعب على بني البشر، بالتأكيد، ألا يكونوا من هنا أو من هناك».في وصف أحوال المكان، يختزل محمود درويش الصورة بقوله: «وصف حالتنا يضيف إلى الميثولوجيا أكثر مما يقتبس منها، لذلك أرى أنّ قصص السبي والتيه والخروج، مجرد حكايات مؤلمة من الماضي، إذا ما قورنت مع التراجيديا الفلسطينية المعاصرة التي تفرم اللحم والروح فينا».