د. ناصر الرباط
شكل تقى الدين المقريزى، مؤرخ مصر الأهم، مصدر إلهام بالنسبة لجيل أدباء وشعراء ما بعد هزيمة ١٩٦٧. وأصبح بفضل تحليله التاريخى العميق ونفسه الوطنى العارم والمبثوث فى تضاعيف كتبه، وبخاصة كتابه الأهم، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، نموذجًا للوطنية الحقة ودليلًا هادياً للبحث المؤلم عن الهوية ومثلًا عن مقاومة الفساد والقمع عن طريق الكلمة الجريئة والحس الأخلاقى الذى لا يساوم.
وقد امتد تأثيره إلى عدة أنواع أدبية تتراوح بين الرواية التاريخية والسيرة الذاتية الخيالية إلى السفر عبر الزمن والإرهاصات الشعرية الجريئة. وهو يظهر شخصيًا فى بعض هذه النصوص كشخصية نموذجية تمارس الإرشاد والتعليق وتصحيح الأخطاء فى التاريخ، وحتى التحريض على التمرد ضد الاستبداد والقمع، وهو مالم يفعله مباشرة خلال حياته وإن كان نقده اللاذع لسلاطين وأمراء عصره يقارب التحريض. وقد حقق المقريزى هذا الانتقال من التاريخ إلى القص التاريخى والتعبير الشعرى من دون أن يفقد أى من السمات التى جذبت المؤرخين المصريين إليه فى المقام الأول. فقد حافظت «مصريته» و «وطنيته» على أولويتها فى الاقتباسات الخيالية كما كانت فى الاقتباسات التاريخية التى عبَّر فيها هذا الرائد الوطنى عن انتمائه وبنوته لمصر فى القرن الخامس عشر قبل أن تصبح المصطلحات نفسها مؤشرات ذات مغزى للهوية.
ولج المقريزى المجال القصصى والروائى على يد روائيين كبار على رأسهم المرحوم جمال الغيطانى الذى ولد فى قرية جهينة من صعيد مصر لكنه نشأ فى حى الجمالية القاهرى الذى خلدته ثلاثية معلمه نجيب محفوظ. لم يغادر الغيطانى فضاءات المدينة القديمة حتى عندما انتقل إلى الجزء الحديث من القاهرة. ظلت لديه أماكنه المفضلة فى قاهرة الفاطميين والمماليك- الأزقة والمنازل التاريخية والمقاهي، التى عاد إليها مرارًا وتكرارًا. أثرت هذه الأماكن، وعبق تاريخها، على كتابات الغيطانى الإبداعية بعمق، وتحول بعضها إلى إشارات مفعمة بالرسائل الانتمائية والحضرية والمعمارية الخالصة استخدمها الغيطانى لتأطير الكثير من رواياته فى المكان والزمان. علاوة على ذلك، لجأ الغيطانى، ربما كمظهر من رد فعل جيله على صدمة هزيمة ١٩٦٧ وتعثر مشروع النهضة والتحديث قبلها وبعدها، إلى التقاليد الأدبية العربية الكلاسيكية والتراث الصوفى. فهو، بجانب الإلهام التاريخي، كان يبحث بشغف عن نماذج من أساليب الكتابة الصوفية الإشراقية التى كان يمكن له أن يتبناها والتى سيزداد تأثيرها على أسلوبه فى التعبير والكتابة لاحقًا. كان الغيطانى، على حد تعبير المترجم الشهير همفرى ديفيز الذى ترجم نصوصًا لكل من محفوظ والغيطانى، رائدًا فى ابتكار «نوع من الواقعية السحرية ولكن من الطراز المصرى المكثف، له جذور فى تاريخ الأدب العربى ولكن أيضًا فى مجالات التصوف والغيبيات وماشابهها». كان نوع الخطط، بتركيزه الشديد على مصر، أحد الأشكال الأدبية التاريخية الرئيسية التى جذبت الغيطانى. وهى قد أثرت على مشروعه الروائى على مستويين: كدليل هادٍ لتاريخ وجغرافيا المدينة التى تؤطر بنية العديد من رواياته، وكأساليب نصية أصيلة تصلح للكلام عن الأماكن والمبانى التى احتلت حيزًا مهمًا فى سرد الغيطانى.
طور الغيطانى مفهوم الخطط مبكرًا فى رحلته الروائية ليطبقه على رواية الخيال العلمى خطط الغيطانى (1980). هذه الرواية الديستوپية من الطراز الأول تعكس حالة القلق واليأس التى عاشها جيله إثر تحطم أحلامهم بعد هزيمة ال ٦٧ وانهيار نظام عبد الناصر واستبداله بكوابيس الانفتاح. يستخدم الغيطانى كلمة «الخطط» كاسم لمدينة متخيلة، هى القاهرة المعاصرة والمستقبلية فى الواقع، تجرى فيها أحداث الرواية ضمن فصول معنونة بأماكن فى المدينة كما فى كتب الخطط التقليدية. الرواية سوداوية بامتياز وهى تتبع تحركات قائد غامض وعصبته الذين يسيطرون على المدينة عبر سيطرتهم على الإعلام والأخبار والرقابة. مركزهم فى مبنى يسمى «الأنباء» فى إشارة واضحة لوزارة الحقيقة فى رواية جورج أورويل الديستوپية 1948 التى لابد وأنها كانت النموذج الذى بنى الغيطانى عليه روايته. ثم يتحول السرد إلى أرباض مدينة «خطط» قبل أن يتركها إلى الصحراء حيث تتجمع العناصر التى هجرت المدينة فى محاولة لاستعادة السيطرة عليها. فى هذه الأثناء تتدهور مدينة «خطط» فى رمزية شفافة لما كان يحدث فى مصر نفسها فى تلك الفترة. هنا لابد لنا من الانتباه إلى وجود تأثير ابن خلدونى قوى على تركيبة الرواية يبدو من تركيزها على صعود وهبوط المدينة ودور الصحراء فى دورة التاريخ تلك.
خطط الغيطانى هذه تؤرخ لقاهرة موازية بأسلوب فرداني، يتمحور حول علاقة الكاتب نفسه الحميمية والخاصة بالقاهرة الشعبية المعاصرة، وحول رؤيته السياسية النقدية لتغير ملامح المدينة وطبوغرافيتها بتغير رموز وأشكال السلطة فيها وتطور وسائل قمعها وسيطرتها على الرأى العام. استقى الغيطانى موضوع وشكل ولغة نوع الخطط من اثنين من أسلافه العظماء، المقريزى وعلى مبارك (رغم أنه كان ينتقد التحديث الإكراهى الذى اعتمده مبارك). ولكنه وسع حدود النوع الزمنية، التى كانت تقليديًا محصورة بالماضى والحاضر بسبب قيود الكتابة التاريخية، لكى تشمل إسقاطات على المستقبل أو تخيل لمآلاته. وهو قد قام أيضًا بتوسيع وتعزيز وإعادة تخيل الواقع الاجتماعى فى خدمة السرد الخيالى جزئيًا، معتمدًا فى ذلك رخصة الخيال فى دفع السرد خارج حدوده الواقعية، وخاصة من خلال الواقعية السحرية (magical realism) التى كان الغيطانى يجربها. لكن، وكما لاحظت سامية محرز، فإن الغيطانى باستخدامه لمنهج وإطار نوع الخطط كان يخلط عمدًا بين التاريخ والخيال أو الخيال والواقع. بل إنه كان فى الواقع يخطط لفوق-واقعية (hyperreal) أخرى، مشوشة عن قصد: مألوفة وغريبة بالنسبة لأى شخص يعرف القاهرة، موقع أحداث الرواية الذى لم يذكره الغيطانى ولكن الذى يمكن التعرف عليه من خلال كم الرموز العمرانية والمعمارية الهائل – المبانى والشوارع والمساحات المفتوحة – الذى يبثه فى أرجائها.
سعى الغيطانى، من خلال هذا الخلط بين مناهج وأغراض خطط سابقيه، الحنين إلى الماضى المزدهر للمدينة فى العهدين الفاطمى والمملوكى المبكر فى حالة المقريزى والاحتفال بالتغيير التحديثى المعاصر للمدينة الخديوية فى حالة على مبارك، لصياغة ما يمكن تسميته بالحنين إلى مستقبل خيالى ومثالى يوتوپى محتمل، ولكنه متجذر جدًا فى الماضى. تحول الغيطانى هنا فعلاً إلى النموذج الحداثى للمقريزي، كلاهما مسكون بحب مدينته ومهموم على مستقبلها الذى يرهنه حكامها لمصالحهم الضيقة. لكن الغيطانى، الروائى المتمرس، سمح لخياله بتصور مستقبل أفضل فى نهاية روايته بالاعتماد على إشارات غامضة إلى مفاهيم عودة الروح والقيامة والبعث لمدينته المنهارة رغم أن الأمل لا يزال واهياً. هذا الحنين متعدد الاتجاهات مثّل بالنسبة للناقدة الأدبية وين-شين أويانغ Wen-chin Ouyang أسلوباً للتعبير يمكن ملاحظته فى الكتابات الحداثية العربية بشكل عام. فهو، كما تكتب، اقتباساً عن المنظرة والكاتبة الناقدة سڤيتلانا بويم Svetlana Boym
ليس مجرد تعبير عن الحنين للمحلى أو للتصور الوطنى للمجتمع أو حتى توطين للحداثة، بل هو أيضًا تمرد ضد النظرة الحداثية للزمن، زمن التاريخ، وتحويله إلى أساطير خاصة أو جماعية، هو أيضاً محاولة للعودة للماضى كما لو كان مكاناً يُزار، لرفض الاستسلام لاستحالة عكس الزمن الذى ابتليت به الحالة الإنسانية، وكذلك ضد التاريخ الغربى للحضارة. إن [هذا الحنين] هو توق عاطفى إلى جماعة ذات ذاكرة جماعية، وتوق إلى استمرارية ما فى عالم مجزأ، وهو آلية دفاعية ليس فقط ضد إيقاعات الحياة المتسارعة والانقلابات التاريخية التى تشكل الحداثة، ولكن أيضًا ضد الوجود الساحق للآخر الثقافى فى الحداثة العربية.
إن التناص فى نص الغيطانى، على الرغم من تعدد طبقاته، يعتمد على نفس المجال العاطفى الذى طبع كتابة المقريزى ضمنيًا. الإحساس الأول هو التماهى البنوى مع القاهرة، والذى تم تقطيره فى خطط الغيطانى مما تبقى من عادات وأنماط حياة وأجواء القاهرة القديمة، حيث تجول الغيطانى نفسه فى العصر الراهن فى الحوارى والأزقة باحثًا عن الإلهام والسلوان. الإحساس الثانى هو القلق الذى شعر به جيل ال١٩٦٧ بأكمله من التغيرات السريعة فى صورة مصر، وآفاقها المستقبلية، والتزامها بتراثها العربى والإسلامى بعد الانفتاح الاقتصادى والسياسى والثقافى على الغرب الذى أرسى قواعده الرئيس أنور السادات ابتداءاً من عام ١٩٧٦. من بين كل أدوات التذكر والحنين، يشكل البحث عن موئل فى أثار الإنجازات المعمارية التاريخية والتماهى مع المدينة بكل ما تمثله، رد فعل لا يختلف كثيرًا عن رد فعل المقريزى الذى يستعيد فى خططه ذكرياته عن الحياة السعيدة فى شوارع القاهرة العامرة التى عاشها فى شبابه عندما يصف الخراب الذى أصاب المدينة نفسها فى كهولته. من المحتمل أن يكون الغيطانى قد صاغ حنينه على مثال حنين المقريزى لنفس السبب الذى جعل المؤرخين المعماريين والحضريين المصريين يبنون تحليلاتهم على غرار خطط المقريزى. فكتابه يوفر الرابط الأصيل والمعمق مع كل ما هو سابق للانهيار العمرانى فى القاهرة، أى عندما كانت المدينة قاهرة فعلاً قبل أن يتم تحويلها إلى عاصمة إقليمية عثمانية ثم استنزافها فى العصر الحديث.
ارتبط الغيطانى أيضًا، باعتباره روائيًا تاريخيًا بالمقام الأول، بأسلوب ابن إياس، المؤرخ المملوكى لنهاية سلطنة المماليك وبداية الحكم العثمانى فى مصر الذى أولى اهتمامًا أكبر من أقرانه بالأحداث اليومية. استخدم الغيطانى ابن إياس كمصدر للأحداِث والشخصيات فى عدد من أعماله المبكرة الشهيرة، لا سيما فى رواية الزينى بركات (١٩٧١)، التى عرض من خلالها آمال وأهوال وتناقضات عصر عبد الناصر عبر استعارة تاريخية، لا تخفى رمزيتها على أحد، وإن كان قد وضعها فى الفترة التاريخية البعيدة التى غطاها ابن إياس، أى أواخر القرن الخامس عشر. فى وقت لاحق من حياته المهنية تحول الغيطانى، تحت تأثير صدمة الموت المفاجئ لوالده فى عام ١٩٨٠، إلى الكتابات التصوفية الإشراقية القروسطية، وبخاصة فلسفة عبد الكريم الجيلانى ومحى الدين ابن عربى وأتباعه. تفاعل الغيطانى مع هذه الكتابات وأعاد صياغتها روائياً وتعبيرياً فى روايات عدة، أبرزها ثلاثيته التجليات (٣٨٩١-٧٨٩١) التى تتمحور حول سيرة حياته فى طفولته وصباه وبداية شبابه. يظهر ابن عربى نفسه (من بين شخصيات تاريخية أخرى أهمها ربما جمال عبد الناصر) باعتباره المرشد الروحى المتعالى للراوى المسمى، فى لفتة حنين واضحة.
وقد خطا الغيطانى خطوة جريئة أخرى فى كتابه سفر البنيان (٧٩٩١) حيث تماهى مع العمارة نفسها وأحياناً مع عناصرها المكونة، محولاً إياها إلى أدوات تعبيرية عن فلسفته الوجودية التى طورها بشكل حثيث من خلال تواصله مع الكتابات التصوفية القروسطية. لكن افتتانه المستمر بخطط المقريزى دفعه إلى اجتراح مزيج من الأسلوب المعماري/الطبوغرافى المتصوف لمعالجة القضايا الفلسفية والتأملية بعد أن عانى من أزمة صحية مخيفة فى منتصف التسعينيات. أصبح الحنين إلى الماضى إثر نوبة القلب تلك استراتيجية للبقاء الشخصى بقدر ما كان استراتيجية لإعادة سرد التاريخ الجماعى فى رواياته السابقة
فى سفر البنيان يقدم الغيطانى سلسلة حكايات أبطالها أبنية وبناؤون ولحظات حاسمة فى تاريخ مصر العمرانى أو تاريخ الغيطانى الذاتى تتخللها ومضات قصيرة يشرح فيها مصطلحات معمارية بتعبير رمزى وبنفس صوفى يرى الشيء وانعكاسه ويفتش عن المعنى ونقيضه. تمتد أغلب الأبنية تاريخياً من العصر الفرعونى إلى بداية القرن العشرين، عدا مسجد عقبة بن نافع فى القيروان والمستشفى الأميركى فى كليڤلاند حيث خضع الغيطانى لجراحة دقيقة فى القلب يبدو أنها أثرت فى نفسيته وفى نظرته للوجود والعدم.
ولكنه مع ذلك يطّوع فى هذا النص تجاربه المتتابعة التى أودعها معظم كتبه التى نشرها فى الثمانينات وبدايات التسعينات، لكى يستلهم من العمارة الكثير ويحملها من المعانى ما يتجاوز المباشر والصريح إلى «بث لرسائل خفية يصعب التصريح بمضامينها لصعوبة العوامل المدبرة للوقت» حسب تعبيره، فيما ولابد كان سيفهمه المقريزي، عاشق القاهرة النموذجي، الذى حمل خططه أنواعاً مشابهة من الرسائل النقدية والمعنوية الخفية.
……………………………
*فصل من كتاب “المقريزى: وجدان التاريخ المصرى| الذى يصدر قريبا للدكتور ناصر الربّاط أستاذ كرسى الآغا خان ل العمارة الإسلامية فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT