محمد جبريل
الجملة مكونة من كلمات، والكلمات قوامها حروف. المعنى يأتي من تشابك الحروف والكلمات بما يصنع جملة لها معني. تظل الكلمات بلا معنى، ما لم نفطن إليه.
أعرف ذلك كله، وأحسنه. ما يشغلني، ويؤلمني، أن الكلمات تخرج من فمي دون أن أفكر فيها، لا تعبر عن المعنى الذي أريده. لا تستوقفني الكلمات: معناها، وما تقصده. أشعر أن ما قلته ليس هو ما ينبغي قوله، ربما استطردت فتشوش المعنى.
الصوفي ابن عربي نفى أنه كان يختار مفردات كلامه. الله هو الذي يملي عليه ـ على لسان ملك الإلهام ـ ما يقول.
من الذي يملي على لساني ما أقول؟
الكلمات تجري على لساني، تنطق بها شفتاي، لا أعرف كيف تشكلت. هل هي عفو الخاطر، وليدة اللحظة، أو أنها موصولة برؤي سابقة؟
يربكني نطق أول ما يأتي على لساني، أتنبه إلى خطأ الكلمات وأنا أنطقها، أصمت، أو أبدّل المعنى. انعكاس الفهم في الملامح يربكني، لن أستطيع كر الخيط من أوله. أستعيد العبارات، أفكر فيها، أقلبها. أعتذر للملاحظة بإقحامي عبارات ركيكة، أو نابية، في سياق الكلمات، أو أني أنطق بعكس ما أريد قوله.
لا أذكر متى التقت أعيننا، متى نظر إلى، ونظرت إليه:
ـ أنت؟
وضغط بيده على كتفي.
ـ أين أنت؟
داريت فمي بعفوية. أدركت أن المعاناة في داخلي خلفت تأثيراتها، ربما الخطأ في كلمات الود والمؤانسة.
أحاول الاستطراد لتوضيح المعنى، فتنطبق شفتاي، تغيب الكلمات التي أردت قولها. تؤلمني النظرة المشفقة وأنا أتكلم، وأشرح، وأوضّح. تجد في ما أقوله ما يفيض عن الوقت.
أعدت النظر فى الملاحظة أنى أتحدث بلساني وفمي، لكنني لا أعي ما أقول، مجرد كلمات مبعثرة لا معنى لها. وجدت أني ـ في أحيان قليلة ـ أقول ما لا أريد أن أقوله، أبدل ما كنت أعددته في نفسى. لم يكن الخوف هو الدافع، ولا أني أنسى الكلمات التي كنت قد تهيأت لقولها.
أزمعت أن أنتقي المفردات، أضمنها جملًا تعطي المعنى الذي أقصده. أحرص على فهم العلاقة بين الكلمات والحروف والأرقام. أستخدم كلمات أخرى غير التي اعتدتها، كلمات دقيقة، منضبطة، سهلة الفهم، تعبر عما أريد قوله.
ربما أخذني الحرص على عدم قول الخطأ، نطق الكلمات بعفوية تخطئ المعنى. يدهمني ارتباك، يزل لساني، أو تخطئ أفكاري. أكتفي بالإيماءة، وهز الرأس، وبحلقة العينين، لا أقول كلمة واحدة.
أعدت النظر في الملاحظة أني أتحدث بلساني وفمي، لكنني لا أعي ما أقول، مجرد كلمات مبعثرة لا معنى لها. أدركت أن الكلمات ليست هي ما أردت قوله. لم يكن ينبغي أن أنطقها. بدلت ما كنت أعددته في نفسى.
شغلتني المحاذرة في اختيار الكلمات، أجيل الفكرة فى ذهني، ألوكها في فمي، قبل أن أنطقها. ربما أحدثت تأثيرًا لم أكن أقصده. أحاول أن أتحسس الكلمات، أفتش عن الكلمات الصحيحة، والمنضبطة، والمناسبة. تؤدي المعنى الذي أريده، الكلمات التي تنعكس قبولًا في أعين من يكلمونني. لا أنطق بما لا يعجب، أو يحمل تلميزًا، أو إشارة لما قد يعكس المعنى. ربما يلوي عنق كلماتي، يفسرها على نحو مغاير، يذهب إلى معنى يختلف عن المعني الذي أقصده.
يطول الصمت باستغراقي في البحث عن الكلمات التي أريد أن أعبر بها، الكلمات الواضحة، وذات التأثير. أحاول تجاوز الانزلاق في الخطأ، ألجأ إلى التورية والرمز حتى لا تفضحني الكلمات الصريحة. أسقط ما أستعمله من كلمات ملمزة، وساخرة، وقاسية. تبدّل السحنة يشي بالقبول أو الرفض. ألجأ ـ ما أمكن ـ إلى العبارات التي أستمع، ويستمع الناس، إليها، لا تستوقفهم بما يضايقهم، أو يرفضونه، عبارات من التي تلوكها الألسن. ربما قلت كلمات مقتضبة، وينقصها الترابط. أعاني في محاولة التعبير عن المعنى الذي أريده. أفكر في غير ما أتكلم عنه، ما أقوله لمجرد الكلام، حتى أرتب ما ينبغي قوله. وربما قلت ما لديّ دون أن أنطقه.
تصمت الكلمات تمامًا، تتحول إلى جدار من الصعب القفز عليه، أو اختراقه. ينبغي أن ألتزم الصمت في الوقت الذي قد يأتي الكلام بما لا أريد قوله. أصمت، أو أستغني عن الكلمات بالنظرة والإيماءة. كلما احتفظت بالصمت غابت احتمالات الخطأ.
أهز رأسي مؤمنًا على ما قيل، أصدّق الكلمات، لا أعيها جيدًا، وقد لا أحسن فهمها، لكنني أتظاهر بالمتابعة، والفهم. أتردد في الإجابة عن السؤال. تتوه الكلمات، فأصمت، أو أكتفي بالإيماء والإشارة والتلويح.طال الشرود. حدست أنه يفكر في شيء يختلف عما يدور حوله الكلام. باح الإشفاق في عينيه بأني لا أعي ما أقوله، لا أفهم معناه جيدًا. وضع إصبعه على فمي: فكر جيدًا قبل أن تفتح فمك، راجع كلماتك.
لاحظت أني قلت ما لا أريد قوله، ما كنت أعددته في نفسي. أجريت حوارات بيني وبين نفسي في سيري المنفرد على الكورنيش الخالي، أدير فى ذهني ما ينبغى قوله، إذا كانت الكلمات تحتمل القبول، أم أن الاستياء هو ما قد تعانيه.
نزلت الشوارع والميادين والساحات والحواري والأزقة المسدودة، ترددت على المساجد والزوايا والمقاهي والأركان المظلمة، ملت إلى كثرة الاقتباس والتضمين والجناس والتشبيه والكناية والاستعارة والتورية والمجاز، إضافة إلى الجناس والطباق والاستطراد والاستدراك وغيرها من المحسنات اللفظية. حفظت الأمثال والتعبيرات، ألتقط مفردات الحوار، أتأمل المعاني، تتراوح نظرتي بين نطق الشفاه وانعكاسات التلقي. حفظت التعبيرات والحكم والأمثال وسيم المهن والحرف ونداءات الباعة، شاركت في هتافات مشجعي كرة القدم، طالت جلساتي في مقهى الفنانين، آخر شارع إسماعيل صبري، أصغي إلى مفردات التخاطب، يزيل غموضها ما قد ينشأ من خطأ الفهم. يغيب المعنى المحدد، أو أني لا أجد كلمات أنطقها فتعبر عما أريد أن أقول.
ابتسم الريس حامد العطيفي شيخ الصيادين لملاحظتي. قال إنه يحتمى بشعره الأبيض وشيخوخته، ليقول ما لا ينبغى قوله.
تأملت نصيحة فريد قادوس سكرتير الجلسات بالمحكمة الوطنية، المطلة على الكورنيش:
ـ تكلم بلغة البيانات الرسمية.. كلامها الكثير بلا معنى.
أصخت سمعى حتى لا يفوتنى أى جزء من كلام الرجل. استهوتنى العبارة، استعدتها. عرفت أنه يحذرني من أن أفعل ما يجر علي المتاعب.فى نفسي ما أكتمه، أخشى أن أفصح عنه.
أطيل التفكير قبل أن أسأل، أو أرد عن سؤال، أو أشارك برأي. أعد ما أريد أن أقوله. أنتقى كلماتي، أختصر مفرداتها. الكلمات عادية، لكن الذهن اللاقط يغربلها، يحورها، يجد فيها المعنى الذي يرفضه، يريد الكلمات التي تروقه. أدير الكلمات في فمي، قبل أن أنطقها.
إذا شعرت أني لن أحسن الكلام – بالحرج أو الحذر أو الخوف – فإني ألجأ إلى الصمت، أكتفي بالإنصات، يتحرك في داخلي ما أريد نطقه، لكنني أظل مغلق الشفتين.
مسالك الصوفية سعي إلى اليقين، مسلكي يميل إلى شوارع جانبية، مفروشة بالعثرات، وتحفها الظلمة وغياب الملامح.
كالمفاجأة، تملكتني رغبة في القول. لدي أفكار، أريد أن أعبر عنها بكلمات، هي ـ في تصوري ـ مدخل إلى أفعال. أتجاوز الشروط والمحاذير والنواهي. أغالب الانفعال والخوف، فلا تواجهني الأسئلة التى تطلب التبرير والمداراة وتبرئة القصد.
لم أتدبر وقع الكلمات، ولا رد الفعل. أنطق بما يجري على لساني، لا أختار الكلمات، ولا أرتبها، ولا أحدّس وضعها في نفس محدثي. أتغافل الريبة في وجهه، وما يداريه الحذر أو الخوف.
ثار في نفسي البركان الخامد، أطلق حممه، تكلمت، وتكلمت، كي أصل إلى نهاية ما أريد قوله. أفلتت الكلمات من فمي دون تدبر، دون أن أفطن إلى وقعها. لم يعد يشغلني إن قلت هذه الكلمات، أو فعلت ما يعبر عن المعنى.