بسمة الشوالي*
يَضْرِبون شهوة الطّعام عرض الرّفض فيشهق الجوع جدارا من ضباب يتكثّف يوما عن يوم، ومدى لحظات ما فتئت تتلبّد كلقمة عسيرة الهضم جافّة..
تراودهم فتنة الولائم عن ضعفهم الفطريّ، فثير شهيّة الخيال، فتُرى الأطعمة تتغنّج في سُمُط الطاولات وانثناءة المناديل، في لمعة الملاعق واشتباك الشّوكات، في الصّحون باذخة متبرّجة.. يحمرّ الخوخ على خدود الخيال الشّبعان، وتتجشّأ معدته من تخمة فيُهيّج الشّبع الوهميّ الأمعاءَ في البطون، الرّغبةَ في الأعين، الفتكَ في الفكوك، الماءَ بين دفّات الطّواحن، قشعريرةَ النّشوة تحت الجلد، والمكرَ الخافق في المجاري المستنفرَة.
تنزاح حينها اللّقمة الفقيرة التي تُقدّم لهم عن تفاصيلها المنفّرة إلى وعد مرهف مزركش متخم بالرّغد، والجسد الذّبلان ينحرف عن مسار الفناء التلقائيّ، وتمشي فيه الحياة مجدّدا على وجل حينا، وحينا على أطراف الحذر كأنّما على أرض معارك طاحنة ملغّمة تمشي.. ينقشع ضباب الوهن عن سقف الإدراك المهزول قليلا قليلا.. تتزايل عنه سَوْرة الهذيان، فيعقل مقدار ما يعقل الشّباع وأزيد بوعي رجِف متشنّج مخفوق كبيضة، وأعصاب مرهقة مرتخية كشرائح لحم متبّلة معدّة للشوّاء.. ويُضْرِبون..
تنمل في الدماغ الحاجةُ المستفحلة إلى الأكل حشدا من سوس يقرض عصا الصّبر الأخيرة يتوكّأ عليها الجسد قبل انهياره الأخير.. تُجنّ الطبيعة البشريّة، تعصف، تصوّت، تنوح، تخمد، تموء كقطّة جريحة، تعوي كجرو وليد جوعان، تهن، تذِلّ.. ويُضْربون يوما فيوما فيوما..
ثلاثون أيّاما مضربين، شهر صياما ولا عيد للفطر ووشوشة القبل على خدود الأحبّة المتوهّجة، وجباه الآباء المرْضييّن.. صوم كأنّما دهرا يمتدّ لا تفلق عتمته ضحكة هلال، ولا تؤثّثه خشخشة ورق الهدايا، ولا سكّر الحلوى دبِقا تعلق حلاوته بين الأصابع وعلى الشّفاه الوالهة.
– متى العيد يا أمّي..؟ ألا يولد هلال في السّجن حيث يسكنون؟
– تولد الأحلام والأهلّة في السّجن كذلك يا ابنتي.
– اِختفت الدّمية التي أحببتها من واجهة المحلّ بالشّارع الذي خلفنا. سيأتون بغيرها وربّما أجمل كما تقولين لي دوما، صحيح؟
– بلى، حين يعود..
تبتر الجملةَ بتر أسى يخجل من كذبه. قد لا يعود.. وقد..
ما يزال الشّارع الخلفيّ نفسه يمتدّ طوليّا في ذاكرة الأمّ الشّابّة، والدّمية التي طالما حلمت باحتضانها لا تفارق، في ذهنها، الواجهة البلّوريّة للمحلّ الذي كان الوحيد في طفولتها يبيع العرائس والدّمى.. كانت ماء طفلة مهرّب في برّاد طبّيّ من السّجن، لم تر والدها قطّ خارج القضبان، لم تختبر حضنه بما يكفي ولكنّها أحبّته كأب يعد دوما بالرّجوع وبالدّمية ثمّ إلى اليوم لم يأتِ.. قضى في إضراب للجوع ولم تفلح جهود المفاوضات في إغراء السّجّان بإطلاق سراح بقاياه قبل أن تخمد..
قد.. يا ابنتي.. قد..
– لكن.. متى العيد يا أخي في الجوع؟ سمعت أنّ إخوتنا في الخارج يفاوضون الأيّام لتقصّر نفسها فيخفّ الوطء علينا ريثما يرقّ قلب السّجّان.
يُقال عقدوا موائد كثيرة مستديرة أو مستطيلة أو مربّعة.. لست أذكر تحديدا، لكن أذكر أنّ عليها أطعمة خرافيّة ومشاريب عالميّة لذّة للمجتمعين على قضيّتنا.. وفي رواية أخرى قيل إنّها قِصاع رحيبة لا قِبل لك ولي برسمها في حيّز خيالنا ضيّق الأفق الآن، عليها أضؤن تامّة الدّسم، محمّرة، طريّة، شهيّة تسرّ المترفين، والفواكه نثر لؤلؤ مكنون، والحَبّ فريك مشبعا بهارات.. أردفوا، ولذاذة فاتنة تُنسي الطّاعمين ما يُطعَمون فيه.. قيل.. وحكايات أخرى تفوق الوصف.
لأجلنا كلّ هذا، صحيح؟
يلقي المُضرب السّؤالَ لا يعْبأ عمّن قد يقع. كان لفرط ما أكل جسمُه جسمَه يعجز أن يحوّل عينه عن وجه السّقف العائم في أخيلته.. منذ أيّام لم يعد يرى السّقف مزرعة معلّقة يقوق دجاجها بمستقبل المُحمّر ودوائر اللّيمون خلاخل في القوائم، وشرائح الطماطم التي كخجل الحبيبة تسوّر حدودها الشهيّة، والحملان ترتع جذلى تعد بلذّة الشّواء، والأرض جنّة طرحها فاكهة لا معدودة ولا ممنوعة.
منذ مدّة لا يراه سوى طريقا منذورة للجنازات ومحمل جسمه الخشبيّ في طرف المنتظرين على باب المقبرة.
– صبرا يا أخي في الجوع وابني في الأسر، عِدّة الأيّام هنا لا تمشي على خطى شمس ولا قمر.. هاهنا الشّمس والقمر والبوصلة..
ومدّ – في رجف الحمّى تجتاح الجسد المجدِب حتى من عروشه وسكّانها الأوائل- إصبعا ناحلا، ناصلا، كسنّة رمح يدقّ الصّدر المبرّز فينتأ عظم القصّ أكثر، وتنفر الأضلع عن حدّ الجلد الموغل في النّشف، فيرى رفيقه في الصّوم الاحتجاجيّ سمْعا، بل وتوشك أذنه ترى قلبه ينبض في رهق وفتور، لكنّه لا يقطع بصاحبه الطّريق، فيفعل ما يفعل السّائل والسّامعون من حولهم: يستمرّ مضربا عن طعام فقد كلّ إثارته، ونضبت آخر قطرة من لعاب قد يسيل لصورة شعريّة عن أكلة مثيرة للحياة، أو مزحة قاذعة عن ميولها المنحرفة..
كانوا مُضرِبا جارَ مُضْرِب قريب مُضْرِب ابن مُضْرِب.. أمعاء خاوية تملأ قلوب الأشدّاء عليهم رعبا منهم، فيُولّون شِباعا متخمين إلى المنابر يتجمّلون بالكذب.. أجسادا شبعت جوعا حتى اشتعلت على هياكلها المُذواة نار الحياة تضيء دروب السّائرين في مفاوز الظّلمة، وعابري سبل الوطن المنهوب زيتا في كوكب درّي يلتمع في زجاجة والزّجاجة مصباح معلّق بسقف الزّنزانة تتدلّى تارة تفّاحة، تارة خبزة، وأطوارا سيور أكفان للرّحيل الشّهيّ، يفوح متبّلا بإكليل الجِبال الشُّمّ، وزعتر البراري الخصيبة، في قدور عيد الفطر الذي ينبت خارج حقول الشّمس والقمر وما يسطرون في التقارير الأمميّة، ويزدهي في أحلام أطفالهم بالدّمى والكُسى وحكايا الآباء قبل النّوم عن فارس الجوع الذي لا يُقهر.
يرتبك السّجان يوما عن يوم، يهن بطشه، يضمر، يضؤل كضبع عجوز.. يصير السّجينَ لدى الجياع تحبسه محاجر العيون الغائرة، يخنقه عطن الأفواه الرّاكدة، تغلّه حبال من الأعصاب المرتخية.. يقتحم أحياء، يفجّر مباني، يعتقل عشوائيّا مشتبهين فيهم على وجه الاستباق، يجرّف أراضي أخرى، يُهجّر أطفالا آخرين.. لكن..
ماذا لو استمرّوا الدّهر على الجوع..؟ يسأل، يتساءلون.. يأتمرون، يتآمرون..
– سمعت أن الجياع صار عددهم أكبر من الشّباع خارجا أصحيح ما يقولون يا شقيق الجوع؟
– ذلك أنّ الأكَلَة تعدّدوا.. البحر آكلهم، والبرّ، والحرب، والسّلم، وذَوُو القربى، ومن تكلّم باسمهم عنهم في الدّين والدّنيا وما بينهما.. يا ولدي.. أتسمعني..
يتلقّى الجوابَ صمتا أبيض ناعما مرفرفا في فضاء السّجن العفن كفرخ حمام يضرب القضبان مزهوّا بجناحيه..
كانت بهرة نور تعتمل إلى جانبه فيما حوافر أفراس الجوع تخمد نفَسا تلو نفس، وكان صدر الأفق قد انشقّ بابا للعبور الأخير تطلّ منه طفلته جذلى بأربتين ورديّتين ودمية تنام في الحضن الصّغير..
اِبتسم خياله لمّا لم تستطع شفتاه الابتسام، وخفق صوته الدّاخليّ الواهن يودّع صاحبه ويهمس لصغيرته: أنا الموالي له في الترتيب يا ابنتي، سنلتقي حتما ذات يوم، فلا تكبري بسرعة يا صغيرتي.
……………………………..
[1] – كتب ج. ك. تشسترتن «حكاية شجر الطاووس»، وفيها شجرة تفترس العصافير التي تعشّش على فروعها، وحين يأتي الربيع يغطّيها ريشٌ متنوّعُ الألوان والأشكال بدلاً من الأوراق.. – عن جولان حاجّي، “الجرح الحكيم” موقع مجلة “رمّان”
*كاتبة من تونس