حاوره: صبري الموجي
أكثرُ من نصف قرن قضاها في محاريب البحث والدرس، اقترنتْ فيها المشقةُ بالراحة، والمغامرةُ بالمسرة، والقراءةُ بالكشف، والكتابة بالتنوير، أفرزت نتاجا ثريا، استحق عليه تكريمَ العديد من الدول والمؤسسات.
ورغما عن هذا ظل تكريمُ بلده الجائزةَ الكبري التي رنا إليها بناظريه، ولم تغب عنه طويلا، فجاءته “التقديرية” مُنقادة تُجرجر إليه أذيالها عن مئات من المقالات والأبحاث، وعشراتٍ من الكتب منها : ( قراءة النص دراسة في التراث النقدي والبلاغي، مفهوم الشعر عند الشعراء، وميض الفكر، نظرية الشعر : رؤية لناقد قديم، في صحبة القرآن، أم كلثوم الشعر والغناء وغيرها )، وصفتها لجانُ التحكيم بـ(عصرنة القضايا)، وعمق الفكرة، ووضوح العبارة، وسلاسة الأسلوب، أبحر خلالها في شتي فنون العربية، حتي القرآن، غاص في لُججه، فدغدغ مشاعر النفس الإنسانية، وتفادي الوعظ والتفسير.. مع أ د. أحمد يوسف علي أستاذ البلاغة والنقد بجامعة الزقازيق يجري هذا.
طفتْ علي السطح كتاباتٌ غثة تفتقر إلي المضمون وتصدَّر المشهد كتَّابٌ أشبه بفقاعات عديمة الجدوي.. فبرأيك ما هي صفات الكتابة الجيدة ومقومات الكاتب الناجح؟
فن الكتابة فنٌ قديم عرفه الإنسان منذ فجر التاريخ بأشكال مختلفة وأدوات متباينة، فالكتابة تسجيل للزمن وقيد للخواطر، وتدوين للعلم، وركنٌ من أركان المدنية والعمران، لذلك لم يكن غريبا أن يرد عن رسولنا الكريم: ” قيدوا العلم بالكتابة”، فالكتابة فن من الفنون، وللفن وظائفه وأدواره التي تنشأ وتستجيب لحاجات التطور الاجتماعي وما يصحبه من تغير في الأذواق، واختلاف التوجهات من زمن إلى زمن.
وتاريخ الكتابة عندنا تاريخٌ طويل صحبَ الإنسان المصري منذ القدم ” الكاتب الجالس”، وصحبَ تطور المدنية والعمران في كل عصر، والكاتب الحق لا يصدر في كتابته إلا عن علم ومعرفة لأنه عقل أمته ورائدها والرائد لا يكذب أهله.
لقد كان طه حسين على صواب في كتابه حديث الأربعاء حين أدرك أن اللون الذي يمثله الجاحظ في الكتابة يناقضُ أرباب السلطان، فالجاحظُ حين يكتب عن المغمورين يكتب عنهم بلغتهم كما يتحدثون ويتبادلون الكلمات مُعتمدا على أسلوب الحكاية مُعلنا اعتدادهم بلغتهم وما فيها من وضوح وانكشاف وبراءة من التجمل والنفاق والبعد عن حيل التستر بالفضيلة باستخدام التكنية والإخفاء والإشارة والرمز، ونفرٌ من الكتاب اليوم لا يكتبون عن دراية وتجربة، ولا يصدرون عن رؤية يريدون نشرها، ولكنهم يكتبون تلبية للعابر والوقتي، وذيوع الصيت، وهؤلاء مثل النار التي تشتعل في الهشيم تعلو سريعا ثم تخمد، وتخلد إلى الأرض فتكون ترابا تذروه الرياح، وتأمل قول “صبح الأعشى”: ” وما يتطلبه كاتبُ الإنشاء من الاختصاص بالسلطان وقربه منه وإعظام خواصه، فالكتاب كالجوارح كل جارحة منها ترفد الأخرى في عملها بما به يكون فعلها، وكاتب الإنشاء بمنزلة الروح المُمازجة للبدن المدبرة لجميع جوارحه وحواسه، فكاتب الإنشاء هو حلية المملكة وزينتها لما يصدر عنه من البيان الذي يرفع قدرها ويعلي ذكرها، ويعظم خطرها ويدل على فضل ملكها، وهو المتصرف عن السلطان في الوعد والوعيد والترغيب والإحماد والإذمام “.
رغم تنوع نتاجك النقدي والفكري ورصانته، أعطتك الجائزة ظهرها طويلا ثم التفتت إليك بالتقديرية فما تقييمك لمعايير التكريم وما الذي تُمثله لك التقديرية؟
الكتابة عندي هي أسُّ الوجود، وجوهر حياتي، ولا أحتملُ الحياة بدونها، ولذلك أكتب لأني موجود، ولأني حيٌّ فاعل ومتفاعل، والكتابة هي قول وفعل وأثر يبقى للكاتب، كما يبقى في عقول الناس وقلوبهم، فهي لونٌ من محاضراتي التي أُلقيها معظم الوقت على طلابي وغيرهم ممن أحاضرهم، وهي فعل أراه قائما في كتبي ومقالاتي وحواراتي، وهي أثرٌ دالٌ على صاحبه في حياته وبعد رحيله، ولم يكن في خلدي أني أكتب لنيل جائزة، ولم أفكر في كتابة مقال، أو بحث، أو كتاب وعيني تطل على غرض خارج الكتابة، وكنتُ على يقين بأن العمل الصالح يبقى، ويمكث في الأرض، وأن الزبد يذهب جفاء، فالبحر يطفو فوق سطحه جيفُه، ويرسب في أعماقه لؤلؤه كما قال ابن الرومي، فجائزة الدولة التقديرية التي نلتُها هذا العام لم تتأخر عني ولم تسبق وقتها لعلمي بأن كل شيء بقدر، وما كان لك لن يخطئك، فكم من الناس نالتهم الجوائزُ وكانوا وبالا عليها، وكم من الناس لم تنلهم وكانوا شرفا للعلم والكتابة، وحقا إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
تجربة قراءة الشعر.. نحو محاولة للفهم” أحد مؤلفاتك المهمة.. فهل تقصد به أن هناك أسسا وقواعد صماء لابد منها لمعرفة تجربة الشاعر وفهم عالمه؟
هذا الكتاب الذي صدر عام 2021 أحد أهم كتبي، وإن كنت أرى أن كلَّ كتبي على قدر متساوٍ من الأهمية، ففي هذا الكتاب التفتُ إلى الشعراء المعاصرين وهم كثيرون في بلادنا وفي البلاد العربية، ومن هؤلاء عزت الطيري، وعيد صالح، وإبراهيم داوود، عبدالله الشوربجي، وحسن شهاب الدين، وأحمد بلبولة، وفتحي عبدالله، ومن الجزائر ناصر لوحيشي، وغير هؤلاء من الشعراء، فالشعر لغة التأويل الهاربة من حدود القارئ، ومن حدود الأطر المرجعية في كل عصر، لذلك نجد قراءات لا حدود لها ولا نهاية عبر العصور لمقروء واحد من أهم وجوهه التخفي وراء الأقنعة، وأساس التفاضل بين قراءة وقراءة ليس ما تقدمه من قول نهائي، فلا قول نهائي، ولكنه القول الناتج عن الاهتداء بمفاهيم واضحة، وأسس مُعلنة، ونتائج منطقية، والكتاب الذي بين أيدينا يحاول انتهاج هذه القراءة التي سماها ” تجربة قراءة الشعر ” وفسرها بالهدف المرجو منها وهو” نحو محاولة للفهم ” ويضم مجموعة كبيرة من القراءات كلها قائمة على النصوص الشعرية المتعددة والمتنوعة من حيث الزمن، ومن حيث الرؤية” الشعر الصوفي، والشعر العذري “، ومن حيث الكم القصائد المفردة والدواوين أو المجموع الشعري، فالكتاب تجربة في قراءة النص الشعري لا قراءة ما حوله.
“أم كلثوم الشعر والغناء” عنوانٌ يشي بأنك لبست فيه ثوب المحاماة للدفاع عن كوكب الشرق التي تربعت بالفعل علي عرش الغناء.. ما الدافع وراء إصداره؟
عُرف عن كبار المغنين في حياتنا المعاصرة أنهم يؤدون ما يوضع لهم من ألحان لكلمات يكتبها الشعراء الذين يكتبون بالفصحى أو بالعامية، وأن تدخل هؤلاء المغنين فيما يغنون تدخلٌ محدود في قبول النص الشعري أو رفضه، أو في تعديل طفيف لكلمة هنا أو هناك من كلمات النص، ولكن لم يكن مألوفا ولا معروفا أن يُعلن المغني موقفه الصريح فيختار من النصوص ما يختار، ويقبل منها ما يقبل وفق رؤية فكرية واجتماعية تُحدد علاقته بمجتمعه وبقضاياه، وعلاقته بمجتمعه العربي، ومجتمعه الإنساني، فقد مارستْ أم كلثوم هذا الدور بوعي ورؤية واقتدار في كل ما قدمته من القصائد، فغنت أولا من عيون الشعر العربي منذ القرن الثالث الهجري حتى وقتنا الراهن، وغنت لشعراء مصريين، وعرب، وشعراء من خارج الثقافة العربية، وثانيا غنت لشعراء اختارت أن تغني لهم بعد رحيلهم واستدعت شعرهم، وكأنه بعثٌ جديد، ولما لم تكن قصائد هؤلاء الشعراء مكتوبة للغناء أو لقالب القصيدة المغناة، فقد بزغت رؤيتها الفنية في اختيار النص وتكوينه وبناء وحداته من بين عشرات الأبيات التي كتبها الشاعر في قصيدة مثل ” نهج البردة ” أو” النيل” أو” ولد الهدى” أو ” الأطلال” أو غير ذلك، ومن ثم فإن أم كلثوم غنت القصيدة وهي شكل من أشكال الغناء كتبها هذا الشاعر أو ذاك للغناء، وغنت القصيدة التي لم يكتبها صاحبها للغناء، وكونت أم كلثوم نصها ووفرت له وحدته من حيث التماسك النصي، ومن حيث الموضوع والرؤية، وهذا ما دعانا إلى البحث في هذه المسألة، وهي لماذا غنت أم كلثوم القصيدة؟ وما عدد هذه القصائد؟ وما أشكالها؟ وما موضوعاتها؟ ومَن الشعراء الذين غنت لهم؟. والشق الثاني من هذه المسألة هو لماذا اختارت ما اختارت من نصوص القصائد الكبرى وكيف كونته؟ وماذا توافر فيه من الشروط النصية؟ ولماذا استدعته وكيف أدته؟ والشق الثالث هو الخطاب الشعري والأيديولوجيا، ويدور حول كمون الأيديولوجيا في النوع الشعري الذي اختارته للغناء، وصلة الخطاب الشعري بالعالم والرسالة التي يبثها، ومن ثم فإن موضوع هذا الكتاب هو أم كلثوم ودورها النقدي في غناء القصيدة، وفي اختيارها وتكوينها، وبناء وحداتها، وفي رسالتها إلى المتلقين، فالكتاب فتحٌ جديد في هذا المجال البيني.
“التنوير الأعور” مقال أشبه بسوط ألهبت به ظهور وجلود من يمموا وجوههم نحو الغرب طمعا في الكنز المفقود فهل أنت من أعداء التغريب جملة وتفصيلا أم أنك تأخذُ منه وترد.. وما موقفكم من قضية الأصالة والمعاصرة؟
هذا المقال “التنوير الأعور” عنوان تبدو فيه المخالفة الدلالية، فالتنويرُ ينير ويضيء ويُحاصر مساحات الظلام في الواقع الاجتماعي، ويُصحح مسارات التاريخ، ولكني شعرت بل تيقنت أن وظيفة التنوير الآن قد تعطلت وأصابها العطب، ففقدت عين البصيرة، وراح من يزعمون أنهم ورثة شعلة التنوير يهدمون ويطبلون ويصرخون ويشوهون، فصار التنوير أعمى لأنه فقد هدفه وضاعت منه بوصلة الطريق الصحيح، وكنتُ ومازلتُ أخشى من متاهة المفاهيم، فقد نتحاور سويا في موضوع ما مثل الحرية أو الحب، أو العدالة، وكل منا ينطلق من مفهومه الخاص الذي قد يكون فارغا ولا صلة له بالمنطق ولا بالعلم الاجتماعي، فينشأ عن ذلك التضليل والإرهاب وهو رمي المخالفين بالباطل والتخلف والرجعية لمجرد أنه لا يُشبهني ولا يسير على منوالي. لذلك كتبتُ هذا المقال واستهللته بقولي: ” التنوير في بلادنا تنوير أعور وأحول، له أذنان واحدة منهما بها صمم، فأما أنه أعور فلأنه غير بصير بفقه الواقع الاجتماعي الذي يعمل من أجله، ولا بفقه تراثنا الفكري واللغوي والأدبي، وعينه مصوبة نحو الآخرين من أبناء أوروبا وأمريكا، يأخذون عنهم، ويحتفون بهم، ويعيشون في جلبابهم، ويلوكون كلامهم كما لوكان كلامنا، ولا يدركون أن الأفكار والمذاهب والمناهج المهاجرة لا تنبت زرعا، ولا تؤتي ثمرا، وأن الطيور المهاجرة في ارتحال دائم من الشمال إلى الجنوب، ولا أفراخ لها إلا في موطنها الأم، وأما أنه أحول، فلأن عينيه زاغت وضلت، فأخطأت الهدف وحسبته أهدافا مع أنه واحدٌ لا غير، وإذا كان هذا حاله، فلا مفر من الصمم الذي أصاب إحدى أذنيه كما أصيب بالحول، فلم يعد يسمع إلا صوته، وينفر من الأصوات الأخرى، فقد مضى على التنوير في بلادنا ما يقرب من قرنين من الزمان، ومازلنا نراوح في مكاننا، لم نحسم موقفنا من العلم، ولا من العقل، ولا من الوجدان، ولا من الدين، ولا من تطوير المجتمع، ولا من تراثنا الممتد عبر القرون إن كان عربيا، وعبر آلاف السنين إن كان مصريا، ولا من كيفية قراءة هذا التراث، ولا من أدب الحوار، ولا من احترام ذوي البصائر والمواهب الكبرى، فليس النقد مسبة ولا منقصة، بل هو أداة علمية للإثراء وتراكم المعرفة التي ينتج عنها التطور المادي المنشود، ولكنه عندنا بابٌ من أبواب القدح، واشتعال النيران “.
“العربية مُحاصرة” عنوانٌ ينم عن خطر مُحدق بلغة الضاد.. ما مظاهر هذا الخطر وسبل التغلب عليها؟
كتبت كثيرا عن اللغة العربية، وعن موقعها من الهوية والوجود، وتحدثت في أكثر من مناسبة عن مشكلات التعلم، وعن مستقبلها، وعن ضرورة الالتفات إلى هذا الخطر المحدق بنا، فاللغة العربية في بلادها من المحيط إلى الخليج تُحاصَر وتُسجن فيما يسمى تحديد الإقامة، فإن ذهبت إلى منصة التعليم، وجدت كل لغات العالم الحي باذخة في مدارسنا، والعربية بين هؤلاء تمشي على استحياء وهي الغريبة في بيتها، لها حصة محدودة داخل الفصل، وليس لها نصيب في الأنشطة اليومية، ولا في لغة العلوم، ولا في الاحتفالات، وإن ذهبت إلى سوق العمل، فإن أصحاب العمل يطلبون لغة أوروبية ولا يطلبونها، وإن وليتَ وجهك شطر منصة من منصات قضاء الحوائج اليومية، وجدتَ لغة أجنبية في انتظارك، وإن مضيت إلى مجامع العربية، فقد خاب قصدُك لأن هذه المجامع مجامع تاريخية مثل “توت عنخ آمون” لا دخل لها بسياسات تعليم العربية.
أما إن شئت أن تُصغي إلى الإذاعة أو تشاهد التليفزيون، فقد اخترت المؤلم والمُمض وكل ما يذهب بحلم الحليم، ماذا بقي للعربية في بلادها إذن؟ بقي لها خطباء المساجد، ووعاظ الكنائس، وهؤلاء إن أقاموا جملة أسقطوا أختها.
لك دراسة بعنوان” د. محمد شحرور: القراءة والتأويل” تُعيد فيها قراءة منهجه في تأويل التراث استنادا إلي مفهوم التجديد.. فما موقفكم من قضية التجديد والجمود؟
هذا العمل دراسة شغلت ما يزيد على أربعين صفحة، كتبتها بعد قراءتي المتمهلة للكتاب المؤسس لمنجز محمد شحرور وهو منجز تجديدي جريء بامتياز، استغرق عشرين عاما من حياة شحرور العلمية حتى خرج إلى النور، ويقع فيما يزيد على 850 صفحة، وقد جرَّ هذا الكتاب على صاحبه وبالا كثيرا، فلم يرض عنه الأصوليون والسلفيون، ولا الحداثيون، والرجل يلخص مشكلة التجديد في عبارات محدودة.. أن كل معرفة لها وظيفة تنهض بها، فلماذا لم تنهض هذه المعارف والعلوم المنقولة بوظيفتها في تحقيق التقدم العلمي والاجتماعي للعرب والمسلمين، ولماذا ظل هؤلاء الناس في معزل عن العالم الذي يعيشون فيه وفي حالة صدام دائم معه أو في حالة تبعية مهينة على الرغم من أن القرآن الكريم الذي نؤمن به لا يرضى لأتباعه التخلف والمهانة ولا يرضى لهم الصدام الدائم مع غيرهم من الأمم؟ أين العلة إذن؟ هل هي في القرآن مع أنه وحي السماء؟! أو هي في اتباع المعرفة والعلوم المنقولة التي تمثل اجتهادا بشريا مستنبطا منه؟ أو هي في المنهج العلمي الذي اتبعوه، وتجاوزته المناهج العلمية المعاصرة، وأصبح لزاما علينا أن نعود لهذا الكتاب الكريم بما نمتلك من أدوات جديدة وعلوم جديدة لنستنبط منه معرفة جديدة ورؤية مناسبة لزمننا وما يطرحه علينا من أسئلة تختلف عن الأسئلة التي شغلت أسلافنا واجتهدوا في صياغة إجابات لها نفعتهم ولم تعد قادرة على أن تنفعنا.
“في صحبة القرآن” كتاب بعدتَ فيه عن الوعظ والتفسير وقصدت به ماذا؟
هذا الكتاب قراءة علمية لعدة مسائل تشغل بال من يقرأ القرآن الكريم مثل الحرية والعدالة الاجتماعية والجمال والقبح، ومسألة الإعجاز التي تتناول جانبين : تصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإعجاز بالصِرفة، والجانب الثاني ماذا نقول في إعجاز القرآن اليوم، كما تناولتُ في هذا الكتاب الذي يقترب من 300 صفحة مسألة الأنبياء يوسف وموسى في مصر من زاوية الاجتماع والثقافة، وتناولت سيرة الشجرة، والصور التمثيلية لها وموضوعات أخرى كثيرة يصعب سردها في هذا الحيز المحدود، مثل تاريخية القرآن، والمعرفة والتمثيل، ونظرية الصوم والسجود.
لم يطغَ تعددُ المهام علي العطاء والإبداع.. كيف حققت هذه الموازنة وماذا عن البدايات؟
حين بدأتُ حياتي العلمية في جامعة القاهرة أيقنتٌ أن الطريق طويل وشاق، ولكنه طريف وممتع، ومن هنا استرحت إلى اقتران المشقة بالراحة، والمغامرة بالمسرة، والقراءة بالكشف، والكتابة بالتنوير، فكانت كتاباتي على تعددها وتنوعها ترجمة لكل هذه الثنائيات التي ذكرتها، ولم أشعر في يوم ما أني احترفت العمل بالكتابة، بل مازلت الطالب المبتدئ الذي يجذبه الجديد، وتسره الفكرة، وتشغله هموم الناس، فلم أجد انفصالا بين حياتي الخاصة وبين عملي، أو بين عملي في الجامعة وانشغالي بمسائل الهموم الاجتماعية، وحين سافرت إلى بلاد غير مصر وعشت فيها لم يشغلني المال عن كتاباتي ولا عن طموحي المتجدد، ولو عشت مائة عام، فلا أتصور أني أنصرف عن هذا التوجه.
فقد أمضيت عمري كله في طلب العلم وتعليمه ونشره والبحث في موضوعاته المعروفة والمجهولة، وبدأت هذه الرحلة في مصر في الجامعة والمجتمع المصري، وتفاعلت مع مسائل العلم والفكر والثقافة على امتداد الساحة الإنسانية عامة، والساحة العربية على وجه خاص، فكان لي حضوري الفعَّال في الشأن الثقافي العربي، وفي الجامعات العربية إما بالكتابة في المجلات العلمية والثقافية، وإما بالتدريس، وإما بالتحكيم العلمي، أو المشاركة في المؤتمرات، وقد تبلور كلُّ ذلك في كتبي المنشورة، وفي أبحاثي، وفي مقالاتي العديدة، وأحسب أنني قدمت مشروعاً علمياً في البحث النقدي والبلاغي، يقوم على مراجعة المعلوم المتواتر في الفكر العربي، ووضعه في سياقاته التاريخية والاجتماعية الصحيحة، ووصله بقضايا الحاضر، ومستجدات البحث العلمي المعاصر، واتسعت الدائرة لتبحث عن المجهول، وغير السائد والمألوف في ثقافتنا العربية الممتدة في رصد القضايا، وهو ما أنجزته في البحث عن تصورات الشعراء للشعر من بشَّار إلى أبي العلاء المعري، ثم الانتقال إلى بيئة الأندلس للكشف عن نماذج أخرى من الشعراء أمثال ابن خفاجة الأندلسي، وما أنجزته في رصد زاوية المبدع في الاختيار والتأليف في كتابي (أم كلثوم الشعر والغناء) المنشور مطلع العام الجاري 2023 م في مركز اللغة العربية بالإمارات. ومن دائرة غير المألوف رصد تصورات نظرية واضحة المعالم عند الباقلاني، وهو ما اقتضى تتبع كل مصادره وترتيبها وإعادة قراءتها لتخرج في كتاب (قراءة النص دراسة في الموروث النقدي)، ومن رصد غير المألوف ما قدمته عن الاستعارة المرفوضة التي تبلورت في موازنة الآمدي في كتابي (الاستعارة المرفوضة في الموروث البلاغي والنقدي). وقد شُغِلْت بتتبع النص الأدبي وصور تغيره شعراً وسرداً، فبحثت في دراسات تطبيقية العديد من النماذج عبر مراحل تاريخ الأدب العربي المختلفة، وتبلور ذلك في كتابي (تجربة قراءة الشعر)، ودعمت ذلك بمجموعة من الدراسات النظرية التي تكشف عن مفاهيم مُغايرة لنظرية الأدب، ورصد علاقات الأدب بالعلوم والفنون المختلفة. وتوفرت على قراءة النص القرآني قراءة مغايرة، ورصدتها في كتابي (في صحبة القرآن).