محمد الفخراني
لماذا نحب مَنْ يخسرون كل شيء؟
ما سِرّ حُبّنا لهم؟ لماذا نحمل لهم هذا الحب الغامض والإعجاب الخفي.
ربما لأننا بداخلنا هذه الرغبة الغامضة في خسارة كل شيء، والتي تعني التَخَفُّف من كل شيء.
لماذا نَغْبطهم على خسارتهم كل شيء، ونندهش أننا فِعْلًا نَغْبطهم، ربما لأنهم تَخَفَّفوا، تركوا كل شيء، مثلما كنا نحلم أو نتمنى في صِغرنا أن نكون بلا أهل أو أُسرة، كي لا نُحَمِّلهم عبء أخطاءنا، ولكي نفعل ما نريد دون أن نكون مسئولين عن أعمالنا تجاههم.
المَكْسَب له وجه واحد، ذلك الوجه المُتباهي المُعْجَب بنفسه، أما الخسارة فلَها هذا الوجه المندهش، المُدْهِش، الساخر، المُتسائل، اللامبالي، يمكن الرقص مع الخسارة والغناء لها.. رقصات وأغنيات غير اعتيادية.
كُلّ مَكْسَب هو بطريقةٍ ما مُقدِّمة لخسارة.
الخسارة، ليست كلمة سيئة، لا تعني الفَقْد أو التقليل، كل ما في الأمر أننا لا بد أن نعطى الأشياء مُسمَّيات: هذا مَكْسَب، هذه خسارة، لا أكثر.
لا يليق بشخص ذكي أن يفكر في كَسْبِ كل شيء، الأذكياء لا يرغبون في هذا ولا يفكرون به، الحمقي وحدهم يفكرون بهذه الطريقة، ويُصدِّقون فِعْلًا أنه من الممكن فِعْلًا لشخصٍ ما أن يكسب كل شيء.. حماقةٌ حمقاء.
يبدو ظاهريًّا أننا نرغب في أن نكسب كل شيء، لكن.. ربما رغبتنا الحقيقية العميقة هي أن نخسر كل شيء.
معنى الخسارة الشائع، هو ألّا نحصل على شيء كنا نريده، وسَعْينا إليه، أو أن نفقد شيئًا كنا نريد الاحتفاظ به، لكن هل هذا معناها الحقيقي؟ مجرَّد شيء لا نحصل عليه، أو شيئًا نفقده؟ هل عدم الحصول على شيء ما أو فقدانه يُسمَّى خسارة؟
ما هي الخسارة؟ وما الشيء الذي يمكن أن نُطلِق عليه خسارة؟
الخسارة هي مجرَّد حَدَث مثلها مثل المَكْسَب، لا شيء يُضاف إلى العالم بالمَكْسب ولا شيء يَنقص منه بالخسارة، ولا شيء حقيقي يُضاف إلينا بالمَكْسَب، ولا شيء حقيقي يَنقص مِنّا بالخسارة، هما ليسا حقيقتنا ولا جوهرنا، نعرف هذا أكثر عندما نُجرِّب الاثنين.
المَكْسَب يَظَلُّ برَّاقًا لامعًا وفاتنًا حتى نُجرِّبه، فنعرف أنه ليس كما كنا نراه، ليس بهذه الروعة والفتنة، وتَظَلُّ الخسارة مُخيفة ومرعبة حتى نُجرِّبها، فنعرف أنها ليست بهذه الكارثية التي كنا نعتقدها، ليست شيئًا يستدعي مِنّا الخوف، ربما الخسارة تُضحكنا أكثر، وتجعلنا نرى أكثر ونفهم أكثر، تُدْخِلنا في العالم وفي أنفسنا أكثر.
في كل الأحوال سنعرف أن لا فرق تقريبًا بين المَكْسَب والخسارة، و”تقريبًا” هذه تعني أن الفارق يكون أحيانًا لصالح الخسارة وليس المَكْسَب.
ربما نحتاج بعض الوقت لنعرف أن الخسارة لم تكن خسارة.
أنْ نخسر وننزعج.. نخسر ونحزن.. نخسر ونشعر بالمرارة، نخسر ونخاف، ثم تجيء اللحظة التي نخسر ولا نبالي، ثم نستمتع بالخسارة، ثم نخسر ولا نشعر بشيء، أيّ شيء، ثم الشعور بالخِفَّة والتحرُّر.
أو.. من البداية، من أول مرة، لا نبالي في الخسارة.
المَكْسَب والخسارة فكرتان في الطابق السفلي من بناء العالم، ويُفترَض أن تكونا في أدنى درجات الوعي البَشَري، هناك طبقات أعلى بكثير من هاتين الفكرتين.
أنْ نَكسب؟ أنْ نخسر؟ العالم أبْعَد بكثير من هاتين الفكرتين، هما لا تُشَكِّلان شيئًا في جوهر العالم وروحه، هو مُتَحرِّر منهما، وهو يدعونا للتَحَرُّر منهما، طوال الوقت يدعونا للتَحَرُّر منهما، ليْسَتا من أفكاره العليا.
الأذكياء وحدهم يمكنهم أن يخسروا كل شيء، لديهم القدرة أن يتحمَّلوا ذلك ويستمتعوا به، هم لا يحتاجون إلى مَكْسَب خارجي كي يثقوا بأنفسهم وفي العالم، لا مَكْسَب سيُضيف إليهم، ولا خسارة ستَسْحَب منهم.
الحَمقى لا يتحمّلون، لا يمكنهم أن يخسروا كل شيء، لا يمكنهم أن يخسروا أيّ شىء، وربما لا يمكنهم أن يستمتعوا بالمَكْسَب.. رغم أنه الشيء الذي يُفتَرَض أنه يُمتعهم.
طَعْم الخسارة؟ أتوقَّع أنه فقط ربما تَصادَفَ أن أول خاسر كان قد أكل أو شَربَ وقتها شيئًا مُرًّا، واعتقدَ أنه طَعْم الخسارة، أو أن أول مجموعة خاسرين كانوا قد أكلوا أو شربوا معًا شيئًا مُرًّا وألصقوه بالخسارة، طيِّب.. ما هو طعمها؟ كلٌ مِنّا يختار طَعْمه بنفسه، أو ببساطة لا ينساق مع الجميع، ليس بالضرورة أن يكون لها طَعْم، فقط لتُكن مثل مرور الهواء.
أن نخسر ونضحك، كيف لشخص أن يَحرم نفسه هذه الضحكة/ الحالة اللّا مبالية، الحُرَّة؟ حالة من الخِفَّة، نعرف معها أن العالم هنا للخسارة بالدرجة الأولى، فقط لو نظرنا فينا، حولنا، العالم يخسر كل يوم، نحن حَرْفيًّا نخسر كل يوم، نخسر أغلى ما فينا، من عقلنا وجسدنا وعمرنا، وخلايانا، نخسر مع كل يوم قبل أن نفتح عيوننا، وهذا كله لا شيء، لا مشكلة، ليس كارثيًّا ولا مُرْعبًا ولا مُحزنًا ولا مُرًّا.
لا شيء مُحزن أو معيب فى الخسارة.
أكثر شيء أحمق هو الحزن في الخسارة، لا يفوقه حماقةً غير الفَرَح الأبْلَه وقت المَكْسَب، أو.. يمكننا أن نحزن خفيفًا قليلًا وقت الخسارة، ونفرح خفيفًا قليلًا وقت المَكْسَب.. فقط خفيفًا خفيفًا.
لا قيمة تُضاف إلينا بالمَكْسَب، ولا قيمة تَنقص منا بالخسارة، نحن لسنا ما نكسبه أو نخسره.
الخسارة لا تُحَوِّلنا إلى غير ما نحن عليه.
المَكْسَب لا يُضيف إلى ما نحن عليه.
حقيقتنا لا تتعلّق بمَكْسَب أو خسارة، ولا تتأثر بهما.
مَنْ يخسرون كل شيء، نحبهم، لكن مَنْ يجرؤ على أن يخسر كل شيء؟ مَنْ يحب أن يكون مكانهم؟ في كل الأحوال.. نحبهم.