حتى فساتيني … أبعد من الأنوثة.

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود الشنواني 

الكتابة و الموضة فكرة جذّابة لورشة نظمها( بيت التلمسانى) و(دار المرايا) وأشرفت عليها الأديبة الفنانة (مى التلمسانى). وتطورت الفكرة لتصبح مجموعة قصصية من لحم و دم بعنوان (حتى فساتينى)، كتابة مغايرة  تدلنا أن الملابس ليست مجرد أزياء يرتديها الناس وأن الكتابة عنها ليست مجرد تجربة أدبية، بل هى محور هام للحياة الاجتماعية و لإشكاليات و قضايا لها أبعاد سياسية و اقتصادية و ثقافية.

تضم المجموعة تسعة قصص..

تبدأ بقصة (صورة جديدة لفستان قديم) للأديبة عظيمة الموهبة (نورا ناجى) التى تحكى عن التناقض المؤلم عند فتاة  تهرب من عالمها المحدود الباهت للعمل فى عالم الأضواء الساطعة للموضة والأزياء الفاخرة، وترصد تخبطها وفقدانها لذاتها.

وتكتب (إيناس الهندى) عن ألوان الملابس والبشر الواضحة والأخرى المتخفية فى( فستان ديور الأخضر).

أما(دانى جورج) وهو الرجل الوحيد وسط المشاركات فى هذا الكتاب، فيكتب عن (مروحة روميو و جوليت) وينقلنا إلى عالم الإكسسوارات الأرستقراطية واستعراض المكانة الاجتماعية فى مشاهد العزاء.

(طرحة سوداء) قطعة قماش على الرأس تختنق بها بطلة القصة و تصبح محورًا لقضايا الحياة وعنوانًا للانتصار أو الإنكسار، قصة صادقة الألم لكاتبة موهوبة متوهجة القلم هى( وفاء السعيد).

هل للملابس التى شهدت أحداث حياتنا ذاكرة؟ سؤال تتبعه (مريم حسين) بقلم متدفق فى قصة جميلة و مثيرة للخيال هى( إختلط علينا الأمر).

سؤال آخر تطرحه( نور حلوم) فى قصة بليغة راسخة البنيان (خزانة لا تتسع لكل شىء) هل تتسع خزانة ملابسنا ونفوسنا لكل شىء ؟ هل نتصالح مع أجزائنا المتناقضة أم أن ذلك بلا جدوى ؟

أما ( شيماء ياسر) فتأخذنا فى قصة جميلة (باترون مزيونة) للاضطراب العميق الذى يمزق فتيات مجتمع يمارس ضغوطًا متواصلة من أجل رسم حياتهن  حسب باترون مُعد سلفًا دون إرادتهن.

تكتب (أسماء جمال عبد الناصر) قصة مقص الرقيبة داخل الفتاة المتربص بالحذف الصارم لحلم قصتها الجميلة ساحرة المناظر، فتصبح الحياة كفيلم غير جدير بالمشاهدة (لا قصة ولامناظر).

وتختتم الأديبة القديرة (مى التلمسانى) المجموعة بقصتها( فستان عند الركبة) فتحكى قصة البحث الذى لا يتوقف عن الفستان المثالى. فهل هو بحث عن الفستان فقط ؟!

تلك إشارات سريعة شديدة الإيجاز للقصص، تعجز عن منحها ما تستحقه من إطراء وتقصر عن الغوص فى أفكار ثرية و جمال أدبى تحفل به.

بين دفتى الكتاب قصص متعددة و أقلام متعددة لكن بسمات مشتركة.

منها تلك المتعة الجمالية التى يعيشها القارىء وهو يتابع وصفا تفصيليًا حافلًا بملمس الأقمشة المختلفة ومباهج الألوان وموديلات الملابس وتنوع الإكسسوارات منها ما يخاطب حنينه لأيام لم يعد باقيًا منها إلا صورًا وأفلامًا بالأبيض والأسود رغم ثراء ألوانها .

و يعود الباترون حيًا فى أكثر من قصة ومعه أجواء للأقمشة والتفصيل كانت تصنع خبرة اجتماعية متكاملة تختلف كثيرًا عن شراء الملابس الجاهزة من المحال اليوم.

ونرى ظل المجتمع يطغى على علاقة المرأة بملابسها، يحول بينها وبين اختياراتها الشخصية الحقيقية ويصنع معركة، تستجيب لها بخوضها بشجاعة وعناد أحيانًا أو بالانسحاب و الخضوع فى أحيان أخرى.

وفى القلب من ذلك الضغط والضبط الاجتماعى تقف الأم مندوبة عن المجتمع ورأس حربته فى تلك المهمة. مهمة تصبغ علاقة الأم/الابنة بمشاعر متناقضة.

ونعايش علاقة المرأة بملابسها، ما ترغبه وتستطيعه ويمثّلها  ويتجانس معها فى أحوالها المتعددة، و ما هو عكس ذلك. نعيش صراعاتها مع نفسها ومع من وما حولها.

ليست الملابس مجرد رداء و الكتابة عنها ليست مجرد تجربة أدبية، بل هى محور هام للحياة الاجتماعية و لإشكاليات و قضايا لها أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية. هذا جزء أساسى مما يجول فى ذهن القارىء وهو يتنقل من قصة إلى أخرى.

فى كل زمان ومكان ما يرتديه الانسان هو تعبيرعن حاله وحال مجتمعه ونمط حياته وثقافته وهو جزء من تصوره لهويته وتصوره لاختلافه عن المجتمعات الأخرى. هوية وثقافة قد تتغير بتدرج ناعم مع إيقاع الزمن، لكنها أحيانًا تواجه صدامات و تحديات تدفعها للتساؤل بحدة و قلق عن أحوالها وهويتها وتختلف بشدة حول أهدافها وطرق السير إليها، فتنفجرشظايا قضايا عديدة ومنها قضية الملابس ومجتمعنا يواجه مثل هذا الموقف الآن.

و قد اتخذت قضية الحجاب و ملابس المرأة موقعًا متقدمًا وسط قضايا عديدة أخرى يراها العقل الرحب المتزن أكثر أهمية وإلحاحًا ومصيرية، لأنه قد دُفع بها دفعًا للصدارة و بقوة اقتحام لا تفتر لدوافع سياسية. لم تعد مجرد واحدة من القضايا الإجتماعية المعتادة أو مجرد جانب من جوانب الصراع التقليدى بين الاتجاهات المحافظة و الاتجاهات المتحررة، بل أصبحت كأنها أم القضايا ومحورًا لتصنيف إتجاهات الرأى فى المجتمع و جبهة للتوافق أو التصادم فيه.

وأظن أن ذلك ما جذب عقل ومشاعر الكاتبات للالتحاق بتلك الورشة ليكتبن عن صراعاتهن الشخصية و الفكرية حول الملابس وحول قضية الحجاب تحديدًا.

 ماذا يظهر من جسد المرأة وماذا يجب أن يختفى؟ هل تملك جسدها أم أنه ملك للمجتمع بأسره؟ هل  ترتدى ما يماثل ذاتها الفردية من ملابس أم هى علامة المجتمع يضعها على جسدها ؟

قضايا لن تبدو غريبة للقارىء أو القارئة، فهى حاضرة طول الوقت فى الحياة الشخصية وأحاديث البيوت والمقاهى وأماكن العمل وعلى شاشات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعى. لذلك فالقارىء لن ينتهى من صفحات هذا الكتاب وقد تمتع فقط بإبداع أدبى جميل، بل سيجد فى السطور وما بينها أطروحات فكرية حول ما يعيشه هو و كل الناس فى حياتهم الخاصة والعامة.

فى هذا الكتاب استخدمت (مى التلمسانى) جوانب قدراتها ومهاراتها وخبراتها المختلفة. فهى المثقفة الواعية القادرة على إضاءة الجوانب المختلفة لموضوع الملابس أمام المشاركات. وهى الأديبة القديرة التى لها من خبرات تقنيات الكتابة ماقدمته كمفاتيح للأديبات الشابات. وهى الناقدة المدققة التى يمكن لها ضبط ما يتناثر من جوانب غير فنية عند إنطلاق فورات التعبير الأدبى. وهى الإنسانة الذكية والأكاديمية المتمرسة التى تستطيع النفاذ لتنوع خبرات وجوانب شخصية المشاركات و تستنطق أمهر ما فيهن وما يميز كل واحدة منهن وتعرف كيف تضع أمامهن نقاط انطلاقاتهن الشخصية.

و الأهم من ذلك كله أنها مارست كل تلك الأدوار دون توجيه قاهر أو وصاية على طبيعة خبرات و مشاعر وأساليب تعبير المشاركات، لهذا نجد كتابًا يضم تيارًا متجانسًا فى نفس الوقت الذى يضم فيه تنوعًا وبصمة شخصية لكل من شاركت فيه.

ومن الإنصاف أيضًا تقديم تحية خاصة لـ(دار المرايا) التى تجاوزت دور الناشر التقليدى الذى ينشر ما يصل إليه من كتابات إلى المبادرة بطرح فكرة الكتاب وتنسيق ورشة تمهد له و تمنحه الزخم المطلوب ثم تتولى باقى المهام حتى يصل ليد القارىء.

(حتى فساتينى) عمل أدبى و فكرى يمثل مجتمعًا يقتحم مشاكله و يمثل جيلًا  يبحث عن ذاته و يدافع عن حقه فى الإختيار.     

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مصري 

مقالات من نفس القسم