مريم سمير
الرق الأول
قالت الخادمة: حينما ولدت الفتاة امتلأت السماء بملايين الشهب المتناثرة.. كانت ولادة سهلة لأم ثكلت ابنها وزوجها معا، لتأتي الفتاة إلى الدنيا بلا أب أو أخ وأعطيت بدلا منهم أماً حنوناً ومنزلاً أنيقاً ووحمة على شكل قلب مكسور من النصف تماماً كقلب أمها.
كانت طفلة هادئة على غير العادة، دائمة الابتسام، وساعدت تربية نساء عائلتها لها على تشكيل النظرة الحالمة في عينيها؛ فجدتها تحكي لها القصص عن أرض بعيدة آمنة وخالتها تغني لها بصوت رقيق ألحاناً حلوة تربت بها على قلبها الصغير وترسم الابتسامة على فمها الياقوتي الدقيق، غير أن أمها أخذت مسلكاً مخالفاً لهم فعلى الرغم من عشقها للفتاة إلا أنها كانت تعمد إلى الخشونة بعض الشيء في تربيتها وحجتها أن الأيام لا تؤتمن وربما ينقلب الحال ولا بد أن تخشوشن الفتاة بعض الشيء وإلا هلكت، ولكأنما قلب الأم رأى المستقبل فبدون أن ندري كيف ومتى اختطفت من أيدينا زهرة شبابنا وضاعت الفتاة حيث أغراها أحد تجار البشر بلعبة وهي في السوق مع خالتها وكانت تلك نهاية الأسرة، فماتت النساء كمدا عليها الواحدة تلو الأخرى ولم يلبث المنزل أن تصدع فجأة وتهدم، لكأنما حزن عليها هو الآخر.. وها أنا تجدوني أتسول على قارعة الطريق وأنا أحكي حكايتها…
الرق الثاني
قالت الفتاة: عند انتصاف الليل تحركت، كان هذا هو الموعد المتفق عليه مع حارس البوابة، سيعطيني ملابس حارس ويخرجني من قصر الرجل المستبد في مقابل نصف مدخراتي وأسورة من اللؤلؤ أعطاها لي رجل عجوز طيب نزل ضيفاً على القصر يوما.
كدت أن أصل إلى البوابة لولا أن سمعت صوت أقدام فاستترت بالظلام حتى ذهب صاحب الخطوات، طرقت على البوابة كما اتفقنا ففتح الحارس الباب بهدوء، خرجت إلى الساحة أمام القصر وأنا مثقلة بما أحمل ولكني سعيدة.
لأول مرة منذ زمن طويل أشم نسائم الليل الباردة بمنتهى الحرية، وعندما طلع عليَّ النهار كنت أرتدي رداء الحراس وأنا أسير باتجاه منزلي قلبي مرتجف ويغمرني بالأسئلة ترى كيف حال أمي؟ وجدتي، كيف حالهم جميعاً؟ هل نسوني؟ ماذا سيكون رد فعلهم حينما يروني؟.. آه يا أمي، لكم افتقدتك طوال السنوات الفائتة!.
ظلت الأسئلة تتكاثر في عقلي وقلبي المضطربين حتى علمت خبر وفاتهم فأسقط في يدي، كنت في أحد الأسواق أبحث عما يقيم أودي حتى سمعت صوت امرأة عجوز قد سمعته من قبل، وعندما رجعت بالذاكرة تذكرت، كان صوت الخادمة في منزل أمي، ما أن تذكرت حتى أسرعت إليها وهي تجلس على الأرض فانكببت عليها ذكرتها بنفسي وتعانقنا فرحين.. ثم أخبرتني بما حدث، أخذت أبكي لأيام وأنا أتمتم: آه يا أمي..
كنت أبكي وأنا أتحسس وحمتي التي بجانب أذني، وحمة على شكل قلب مكسور من المنتصف، تذكرت كيف أن الوحمة حمتني بعد الله من عبث الرجال، فكل رجل يفكر في الاقتراب مني كانت نظرته إلى الوحمة ترده عن خاطره حتى سيدي المستبد الأخير لم يستطع الاقتراب مني أيضا بسببها، لم تكن بشعة المنظر بل بالعكس زادت من جمال وجهي ولكن كان فيها أمر ما لكأنما أعطتني أمي قلبها على شكل وحمة ليحميني، عدت أبكي من جديد وأنا أتذكرها وأتذكر نساء البيت الحالم، ثم بعد أن هدأت أخذت أفكر أين أذهب الآن، وفي غمرة حزن أخذتني غفوة فحلمت بجدتي تقف أمامي تشير بذراعها في اتجاه الشمال قائلة بابتسامة حنونة ؛ اذهبي إلى الأرض الآمنة.. أفقت من الغفوة وأنا أبتسم وقد قررت الرحيل، لطخت وجهي بالطين ليصعب على الآخرين معرفة ملامحي.. أعددت العدة وبدأت الرحلة…
الرق الثالث
قال الراوي: في عالم كانت تسوده أصوات الرماح القاتلة، وتلونه الدماء المتناثرة، كان كل ملك يعيش يومه وهو لا يدري إن كان سيظل على عرشه حتى غده أم لا.. ولدت فتاة حالمة لا ترى عالمها إلا من خلال غلالة وردية وأحلام طفولية، حتى سقط النقاب عن عالمها المشوه بأبشع الطرق فاختطفت من أهلها وبيعت في سوق الرقيق، انقلب حالها وقاست الأمرين حتى وصلت إلى رجل مستبد عاشت في بيته حتى وصول المغول ومع أعمالهم القتل في الرجال والسبي في النساء قررت الفتاة الهرب والرحيل إلى أرض آمنة تستطيع العيش فيها بحرية وبدون خوف، كانت قد سمعت عنها من جدتها حينما كانت لا تزال في ربوع طفولتها ومنازل أهلها، فأقبلت تسعى إلى تلك الأرض وهي ترتدي ملابس الشحاذين حتى لا تصبح مطمعاً لأي أحد مهما كان..
وهنا توقف من كان يقرأ الرق ورفع رأسه ثم قال للمستمعين وهو يعدل من وضع نظارته: هذا ولا ندري من هو كاتب الرقوق الثلاث، فرد واحد أم أكثر؟ ولا حتى زمن الكتابة على وجه التقريب غير أن ذكر المغول ينبئنا أنه كتب في زمن احتلالهم الأرض فقاطعه أحد المستمعين متسائلا: والفتاة، ما هو مصيرها؟ هل وصلت إلى أرض الأمان؟ ابتسم القارئ ساخرا: وهل هناك أرض أمان ! أنا أوقن أن تلك قصة خيالية رأى كاتبها أنها مستحيلة أكثر من اللازم فتوقف عن استكمالها.. صمت قليلاً فقال المستمع بأمل متحدياً: وربما تكون الفتاة قد وصلت لمبتغاها فتوقفت عن الكتابة خشية طمع الآخرين ! هز القارئ رأسه مفكراً ثم غمغم مغمض العينين متراجعاً: ربما، لم لا؟ وسرعان ما حي المستمعين وغادر المنصة تاركاً الرقوق مكانهم على المنضدة وبينما كان المستمعون يغادرون القاعة، اعتلى المتسائل المنصة ونظر إلى الرقوق قليلاً ثم همس: أتمنى أن تكوني قد وصلتِ إلى مبتغاك حقاً.. أتمنى ذلك.
*الرق: هو قطعة من جلد الحيوان يكتب عليه
…………………………….
* قاصة مصرية، صدر لها “فتاة اللوحة”، حاصلة على عدة جوائز منها جائزة في النقد الأدبي من الجامعة الأمريكية، جائزه مركز طلعت حرب الثقافي في القصة القصيرة، وأخرى من الهيئة العامة لقصور الثقافة.