شريط عيسى شرف الدين
إن الرواية كفن تخيلي ظلّت تواكب التطور السريع للعالم، ليس من ناحية الموضوع فقط وإنما أيضا من ناحية البناء واللغة.
ومع عصر السرعة الذي نعيشه كان على العمل الروائي أن يجاريه. هذا لربما ما يظهر في رواية “رف اليوم: ما لم يستطع السيد الحصول عليه” أول أعمال الكاتبة السعودية نجوى العتيبي.
ولأن العنوان هو العتبة النصية الأولى، فإنه يجعلنا نطرح تساؤلات عديدة. فكلمة “رف” تحيلنا إلى متجر، بينما تمنح كلمة “اليوم” لهذا الرف صيغة التجدّد. ثم يأتي العنوان الفرعي “ما لم يستطع السيد الحصول عليه” ليزيح كامل الغموض المترتب عن العنوان، فهو رف متجدّد عاجز عن توفير حاجة السيّد.
ولعلّ كلمة السيد قد تجعلنا نتساءل أيضا: هل عاد عصر السادة؟
تأتي الرواية على شاكلة مونولوج، الراوي ذاتي يروي تجربته الخاصة. إذ يظهر لنا من خلال قراءة العمل أن الراوي يسجل يومه على مسجلة هاتفه، وهكذا تكون الرواية هي مجرد كتابة حرفية لتلك التسجيلات.
تُكتب الرواية كما ينبغي لرواية تقع في مستقبل غير بعيد. أنصاف بشر وآلات، نباتات حساسة، سادة يتكلمون عن تفكيرهم بإنتاج آباء، خطوط لإنتاج الحبيبات، وأخرى لإنتاج الأبناء، أسماء رقمية رياضية لربما هي مجرد تكهنات عن عالم يودع الأدب واللغة ويفاضل عليهما الأرقام والحساب، متاجر تبيع أصدقاءً يعينون مالكيهم في الشؤون المنزلية. وهؤلاء الأصدقاء هم درجات كالمنتجات التي نقتنيها من المتاجر والتطبيقات التي نحصل عليها من المواقع. فالكاتبة جعلت منتج الصديق سلعة، وهذا ليس إلا توقعا شديد التفاؤل بالرأسمالية التي تود لو أن كل شيء في العالم للبيع.
يفكر الراوي حين يعرف من نشرة الأخبار أن الرئيس ما زال يماطل خط إنتاج الوالدين “هل العالم يتقدم إلى الأمام أم يتراجع إلى الخلف!”
فبعد أن حارب الإنسان ليتخلص من عبوديته، تظهر جهات معينة تريد تحويل الإنسان إلى مجرد سلعة تباع وتشترى وتتعرض للتقييم، ثم حين يتناقص أداؤها تُستبدل.
يؤمن بطل الرواية ببطلان نظرية المؤامرة، تلك النظرية التي تفيد بأنهم يفكرون بزرع شرائح في أجسادنا للتحكم بها كما يشاؤون. يقول في الرواية متحدثا عن أمه: “جيلها الذي يتمسك بالأفكار المؤامراتية ونظرية غسيل الدماغ واللقاحات والشرائح الإلكترونية داخل الأجساد التي صارت شبه مصنوعة… إلى آخر هذا الهراء؛ جيل قد أحرق المصانع والموانئ وورط البلاد في مشاكل عديدة”
على أن بطل الرواية الذي يمتلك ما يكفيه ماديا، شخص مسلوب. إنه نصف بشري ونصف آلة. لكن الأهم أن آليته طاغية على بشريته، ولعل ذلك يبرز لنا من تصرفات بعينها أهمها أنه يمقت والديه خاصة أمه، وهذا يدل على أن مشاعره شبه ميتة، والأمر الوحيد الذي يمكن أن يكون بشريا فيه هو مشاعره تجاه حبيبته، تلك المشاعر التي لا يعرف كنهها بالضبط فيفسرها بقوله عنها بأنها: “تمتلك ذلك الأسلوب الساحر في العناية والاهتمام بمن حولها” بل ويضيف في موضع آخر بأنها ” الإنسان الوحيد الذي لم أشعر معه بالملل.”
كما نجد أن الآلة منحته لغتها، تلك اللغة السطحية التي لا بيان فيها، لربما يؤول عجز الآلة عن فك شفرة اللغة بما نسمعه الآن عن مواقع الذكاء الاصطناعي وعجزها في نسخها العربية على مواكبة غيرها باللغات الأخرى. فاللغة العربية غير محدودة، لغة كثيفة، دقيقة، لغة غير مترادفة. وهذا ما يجعل الآلة تعجز أمامها وهذه بعض تشبيهات البطل في الرواية: “إنها تملك عينين ساحرتين، ليست جميلة كالدمى” هذا التشبيه سطحي، إنه تشبيه طفولي لا يصدر أبدا عن رجل. ثم لدينا هذا التشبيه الذي يتكرر على طول الرواية وفق صياغات لغوية متغيرة قليلا: “تحسست المكان كطفل صغير” ذلك أن الآلة لا تحدث نفسها، ولا تسعى لتطوير نفسها، فلغة الآلة لا يعيبها التكرار. هذا ما سيكتشفه الشاب بنفسه حين يسمع كلام أمه ” كلام أمي دائما يبدو رائعا في صياغته، ليس مثل كلامي”
يقين السيد بزيف معتقد الآخرين وجنونهم سيتزعزع رويدا رويدا، إن هذه المقارنة دليل على أنه قد فتح عينيه. ذلك التحول دليل على أنه بدأ يستغل بشريته، أي أنه أخيرا قد أعمل عقله. لذلك تساءل مرعوبا ” ماذا لو كان في الأمر شيء من الصحة؟ أي أن الجنون الذي أراه هو جزء من الحقيقة؟” إن الشك هو بداية لتغلب البشري فيه على الآلة، بداية لانتهاء يقينيات قديمة وبناء مسلمات جديدة. ثم نرى الحقيقة الجديدة وقد اعتنقها السيد بدل القديمة يقول: “لا يوجد الآن ما يجذبني تجاه ما يقع في الخارج إطلاقا. “
إنها نقطة التحول في الرواية، واللحظة التي سيصير فيها السيد سيدا بالفعل، صاحب قرار بعد أن متوهما لسيادته. إن تغليب البشري فيه على الآلة لا يظهر فقط في تغير آرائه بل في لغته كذلك. إذ نجد لغته قد صارت لغة بيان، لغة قوية يمكن أن ننسبها لبشري لا آلة يقول: “إنهم يتشاركون الحياة كلها مثل اللغة، وفي وسع التجربة أن تكون حياة كاملة كاللغة” يستعيد السيد مشاعره وعواطفه. يتذوق الحب جيدا، ويجتمع بمن يحب. لكن لأن الحياة لا تنتظر أحدا سيجد قطارها قد فاته. سيبتلى بأبويه، لن يجد طعما للحياة، ولن يهنأ بها أبدا. لذلك سيفكر بالشيء الوحيد الذي قد يجمعه بهما مجددا. إنها باختصار رحلة كاملة لإنسان فقد إنسانيته واستعادها بعد فوات الأوان.
ما هو لافت للانتباه في الرواية هو الحب، فالحب آيل للزوال، وليس الحب الذي خصّ به جميلٌ بثينة أو عنترة عبلة، هو نفسه الحبَّ الذي نتداوله اليوم، فمع كل جيل يتضاءل هذا المسمى بالحب ليصير مجرد مشاعر باردة. يبرز هذا في العمل، فالحب يبدو أمرا ثانويا يمارسه الإنسان وقت فراغه، لا يبذل من أجله، هكذا سيؤول حال الحب حسب الرواية، كما لو أنه لن يصير ذاك الانغماس في الآخر حد الضياع في أدق تفاصيله، بل سيصير مجرد علاقة تبدأ من رغبات مكبوتة وتنتهي حال تحقيقها.
حين تنتهي من قراءة رف اليوم، يتوقد بك شغف القراءة عن الروبوتات ومنصات الذكاء الاصطناعي ونظريات المؤامرة وعن مستقبل هذا الكون الذي يقترب أهله من فقدان سيطرتهم عليه، ستشاهد وثائقيات كثيرة، ولربما سيقترح عليك بعض الأصدقاء مسلسلات وأفلاما بعينها.
هكذا ينجح الكتاب في تحقيق توقعاتنا الطموحة منه: أي أن يجعلنا نركض خلف المعرفة.
إن المتعة التي تمنحها لنا الرواية تتضاعف حين نرى اشتغال الكاتبة بأدق التفاصيل ليكون العالم التنبؤي الذي وضعته غير قابل للنقد، عالم نجد فيه الإنسانية هدفا. بذلك يكون بطل الرواية هو أحدنا، لابد أن تشعر أنك السيد المعني في الرواية، أن عدوانيته تجاه أهله تمثلك، وأن مشاعره البليدة لمن يحبهم هي مشاعرك أيضا، وأن رغباته مشابهة لرغباتك؛ هذا الشخص المسلوب الذي لن نتوافق كثيرا معه، هو صورة لنا.
وفي الأخير يبرز جليا جهد الكاتبة في إضفاء العمل تفاصيل تشعرنا بأننا لسنا في عمل تخيلي صرف، بل في عمل واقعي، عمل ينطلق من عالمنا اليوم ليصل لعالم لم نعشه، عالم ينتظرنا، عالم لا نريده.
..
رف اليوم
نجوى العتيبي
دار أثر السعودية /2022
عدد الصفحات 112صفحة.