الزهراء عبد الوهاب
“وأنقذتنا الصفحات.. حكايات من ونس الكتب”، استغربت كثيرًا من اختيار الكاتب باسم الجنوبي اسم كهذا لكتاب يُطرح لأول مرة في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2023، وسط كم كبير من أسماء روايات (مجعلصة) تخدعك للوهلة الأولى بعمق الكاتب والقصة، ولكن في النهاية ليست كل الأشياء كما تبدو في البداية.
ذهب استغرابي سدى بعد بداية القراءة، اتضح أن العنوان لم يكن مجرد اسم لكتاب، ولكنه اسم لحقيقة واقعية تجسدت بين يدي، بالفعل لقد أنقذتني صفحات الكتب، وبالفعل وجدت الونس بين تلك الأوراق، فمن أول صفحة تجسدت بين عيني صورة والدي ووالدتي رحمهما الله الذين شجعوني على القراءة، فـ”أنقذتنا الصفحات” يأخذك في رحلة بين ذكريات القراءة في الصغر والكتب الأولى التي تأثرنا بها، وعلاقتها بمحاولاتنا المستمرة في خلق ذكريات جديدة مع أنفسنا وأولادنا والناس والمواقف والأفكار منحولنا.
كيف نقاوم القبح؟
القراءة مقاومة، أولى فصول كتاب “أنقذتنا الصفحات”، أكد فيه على جوهرية فكرة عدم الاستسلام في حياتنا، وقدرة القراءة على تنمية تلك الفكرة، عبر تحصيل ما هو الأنفع والأهم من الكتب وليس مجرد القراءة من الاستعراض أو الظهور بمظهر المثقف. فالمقاومة هنا تعني حربك المستمرة في اختياراتك لما تقرأ وتقتني وسط سيل جارف من العناوين التي يسوق لها كتائب وشركات وسماسرة صناعة الكتب الأكثر مبيعًا، التي يكون فيها غالبًا كتبًا لا تستحق الورق الفارغ الذي طُبع بها.
ولطفلك عليك حق
أكثر ما يميز كتاب “أنقذتنا الصفحات” هو ذكره لعدد هائل من المراجع تشجيعًا على قراءتها، من خلال حديثه عبر الفصول عن أفكار (تربوية، اقتصادية، اجتماعية، إعلامية، فنية، دينية، فكرية، تاريخية، تنموية..إلخ) وذكر عدد كبير من أسماء الكتب الهامة التي تناولت هذه الأفكار بشكل مفصل، ويشير لها في المراجع أوفي نهاية متن الفصول، فيجعل المرجع متنًا وأصلًا، فعل ذلك براعة في فصل (آباء لا صيّارفة) حيث تناول فيه مشكلات تربية الطفل العربي، حيث حملت سطوره وصفات تربوية رائعة ومبدعة تتلخص في اكتشاف وتطوير الوالدين لأنفسهم وتربيتهم لها مع تربيتهم لأبنائهم، في خليط معرفي من مراجع تربوية مختلفة من الممكن ألا نستطيع الوصول إليها في ظل كثرة عدد وارتفاع أسماء كتب بيعنها، وإهمال بعض العناوين التي تحتوي على ما يفيد الأمهات والآباء بسبب عدم معرفتها، فهنا يقدم الجنوبي الواجبة جاهزة.
إن فصل (آباء لا صيارفة) استوقفني كثيرًا في هذا الكتاب، خاصة في فكرة وجوب قراءة الآباء لأبنائهم، ونهاية الفصل الموفقة بجملة ( الآباء يقرأون لأبنائهم ليناموا، ويقرأون لأنفسهم ليستيقظوا)، أعادني بالزمن لأكثر من عشرين عامًا، حيث بيت والدي في صعيد مصر، ومكتبة والدي، ومناقشاتنا المستمرة حول الكتب والروايات والمؤلفين مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، وكانت أمي دائمًا تشجعني على القراءة حتى وإن كان الكتاب أثقل مني في تلك المرحلة.
هل أعطيت طفلك قصة اليوم؟
ولا يتوقف ذلك الفصل عند الذكريات، ولكن يعيد بقوة إلى الحاضر في طريقة تربيتنا لأطفالنا، ليطرح سؤالًا هامًا؛ ماذا قدمت لأطفالك من معرفة حتى الآن؟ لا أعتقد أن الكاتب هنا يهاجم أحد كما يمكن أن يبدو، ولكنه يتحدث من منظور أبوي يحلم به لأبنائه ولجيلهم، حتى لا يكونوا مختلفين عن ذويهم، فيدعوا الكاتب الآباء إلى ترك المظاهر والجري وراء المتعة المزيفة في التملك، للتوقف لحظة لخلق ذكريات تعيش في قلوب الأبناء للأبد عبر المعرفة التي تمثل قوة الغد، وتكون السند لهم أمام تحديات المستقبل.
هنا يؤكد الكاتب تجربتي الشخصية، في أن ما نقدمه لأطفالنا من معرفة في الصغر، يكون شفيعًا لنا لديهم في الكبر، وعند ظهور الخلافات أو ما يُسمى صراع الأجيال. فقد اختلفت في الكثير من الأمور مع والدي، ولكن كانت الأرض التي زرعاها في عقلي وقلوبي وأنا صغيرة ناضرة كفاية لتلقي تلك النزاعات بالصورة التي تليق بعلاقة ابنة مع والدها كما يجب أن تكون.
عودة إلى البطء
لا يشير الكتاب إلى أسماء أفضل الكتب فقط في المجالات المتعددة، ولكن يمكن اعتباره جرعة ثقافية شاملة وعامة، تهدف التذكير بالفطرة الإنسانية، ففي فصل تحت عنوان (حول البطء) يحاول الكاتب الوصول بالقارئ إلى حياة ما قبل السرعة الرهيبة التي تضعط المجتمع ككل، وتضعه أمام مفرمة الحياة، يدعوه (وأنقذتنا الصفحات) إلى الحياة الطبيعية للبشر، وليست تلك الحياة الصاخبة المليئة بالرغبات والصراعات والسرعات الماحية لتذوق الجمال وتحترم الطبيعة والفطرة، ويُذكر بأهمية ألا نُسرع فيما لا يجب الإسراع به، بحيث يستعيد الإنسان الهدوء والروية في العمل والبحث والقراءة والراحة وتربية الأبناء والطعام والرياضة، بحيث ننجزالمهام بلا استنزاف لصحتنا وأرواحنا، والاستمتاع بتلك الرحلة الربانية التي وهبنا الله إياها..الحياة.
وأنقذتنا الصفحات، كتاب يحتوى على مئات الأفكار الهامة التي تمس حياتنا بشكل مباشر، والتأمل فيها بالفعل ينقذنا من متاهة التجريب والحيرة بها، ويشير الكاتب إلى عشرات الكتب المرجعية للتعمق بها، إنه جمال الكتب الجيدة، التي تشعل في القارىء شرارة فكرة هامة له، وتدله على مناجمها ومراجعها، وهكذا كان (وأنقذتنا الصفحات).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحفية مصرية