متعة القراءة: عن رواية (2067) لسعد القرش

سعد القرش 2067
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد أبو قمر

في هذا الحر الذي يذيب محتوي الرأس ويخلط الأشياء ببعضها، وفي ظرف سياسي واجتماعي ومعرفي لا تستطيع في ظله العثور علي معني لمصطلحات تتردد كثيرا كالحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، وفي ظل زيف كثير من المصطلحات الأخرى كالطمأنينة والاستقرار وأوهام الأفضلية واختلاط القانون بالفتوى واستبدال مقاييس الصواب والخطأ بمقاييس الحرام والحلال، في ظل هذا التلبك الممزوج في رأسي بفعل الارتفاع القاهر في درجات الحرارة والانقطاع المذل للتيار الكهربائي، في ظل ذلك كله تأتيني رواية  2067  للكاتب الكبير والقدير  سعد القرش.

يا إلهي!!، هل في إمكان رواية ما أن تزيل عنك كل هم، وتعيدك إلى نفسك، وتخلصك من التلبك، وتضيء لك كل ما كان معتما، وتفصل الأشياء عن بعضها فتعتدل أمامك الأشياء وتتضح صورها فيعود إليك الاتزان، وتعود لتبصر بوضوح كل ما كان غائما أو غير مرأي؟!!، وفوق ذلك كله تحقق لك المتعة المفقودة بفعل تيبس الحياة من حولك، وبفعل فقدانك لليقين.

لست ناقدا، ولا أعترف بنقد تنقصه المعرفة الواسعة بعلوم شتي كالتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس، ولا يكون منطلقا من معرفة واسعة بوظيفة الفن وضروراته، ولا أعترف بنقد لا يتوفر لصاحبه موقف فلسفي يتيح له تحليل حركة المجتمع واستنتاج أو تنبؤ مآلات هذه الحركة من واقع العمل الإبداعي خصوصا عندما يكون في مستوي عمل عظيم كرواية 2067 من حيث لغتها وتفاصيلها وبنائها وشخصياتها وما تطرحه الرواية من قضايا وما يعبر فيها الكاتب عن قناعاته وانحيازاته ورؤاه.

لا أعرف شيئا عن النقد، ولا أنشغل به، ولم أخض يوما تلك التجربة البليدة التي يمارسها البعض كنوع من الرفاهية الثقافية، أو كممارسة مهنة إضافية كما يفعل النجار حين يدعي معرفته بأصول السباكة ويمارسها بذات الشاكوش الذي يستعمله في النجارة، لقد قرأت رواية 2067 كشخص علي موعد غرامي يأمل في أن يكون اللقاء ممتعا، وفي الطريق إلي موعده تدور الأسئلة في روحه، تُري هل تكون امرأة استثنائية تهز روحه وتزلزل كيانه؟، أم ستكون شبيهة بكل من واعدهن وأحبطنه بثرثراتهن وبلادة مشاعرهن؟

في الحقيقة فإن الحكاية في رواية سعد القرش بسيطة بساطة امرأة رائعة عاشقة وبريئة، لا عُقد، ولا ثرثرات، ولا حذلقات، ولا ادعاءات، ولا شبهة التشبه بأحد، رواية مثل كل الروايات الاستثنائية التي تحفر لها مكانا في التاريخ.

بكلمات موجزة يحيطك الكاتب الذكي بالأجواء العامة التي ستدور فيها حكايته، يفعل ذلك دون ادعاء، ودون زعيق، يفعله بمعقولية الزمن الذي اقترحه لتدور فيه أحداث روايته، أي بعد أربعة وأربعين عاما من الآن، ثم لا يلبث بعد هذا الإيجاز المدهش أن يأخذك من يدك مباشرة إلي حكاياته المدهشة، فأنت لا تقرأ وإنما تتنقل بصحبة شخصياته أينما ذهبوا، وتنصت إلي أحاديثهم وكأنهم يخاطبونك أنت، تكاد يدك تلمس شعر سونهام، هذه الشخصية المركبة التي لا أعرف كيف أوجدها سعد القرش بكل ما فيها من جمال ورقة وعذوبة وثقافة وقوة.

الموهبة الفذة لسعد القرش، والسحر العجيب الذي يخطف الروح وأنت تقرأ رواياته وراءهما معرفة واسعة بالتاريخ، وثقافة متعددة الجوانب، ومعرفة مستحيلة بنوازع شخصياته، لا أتصوره يكتب إلا بعد إقناع شخصيات رواياته بأن يحبوا كما يريد، أو يثوروا في الوقت الذي يحدده هو، أو يموتوا وفقا لمشيئته هو، غير أنك تُفاجأُ بأن الست هدي والدة رشيد الشخصية الرئيسية في الرواية تكاد تمد يدها من وسط الأوراق لتصفعك إذا هممت بالدفاع عن ابنها رشيد أو محاولة منعها من تأنيبه على اختيار زوجته.

أجواء الرواية متشائمة، متفائلة، مخيفة، مطمئنة مفعمة بالحب والمتعة، مليئة بالإحباطات، يشيع فيها القهر في أبشع صوره، لكن الثورة تجتاحها في كل تفصيلة من تفاصيلها، كل ذلك ستشعر به من خلال كل سطر في الرواية بحيث حين تصل للجملة الأخيرة لا تملك سوي أن تقول: يا إلهي!!، كيف تمكن سعد القرش من صنع كل هذه المتعة؟!!

مقالات من نفس القسم