مهاب محمود
أحاول أن أتذكر أخر مرة فكرت فيها كيف يمكنني أن أحيا الحياة على نحو رائع، لا كيف- رغم أن الحياة مازالت في بعض الأحيان فقط طبعًا تثير حماسي- يمكن أن أموت بأقل قدر ممكن من الألم، ودون أي تشوهات مفزعة قد تطولني، فتشوه جثماني.
أحاول أن أتذكر أخر مرة قلت لك فيها “بحبك” دون أن أشعر أنني غير قادر، أو بالأحرى، عاجزًا بشكل كبير على حمايتك، أو إسعادك في عالم نحن غير راضين عنه- مهما إدعيتي أنتِ أنني أنجح في فعل ذلك ببساطة بمجرد تواجدي بجانبك- وغير قادر، للأسف يعني، على التخلي عن الرغبة المستميتة في الموت لمجرد فقط- كما يفعل آخرون- أنني أحب/ أحبكِ.
أحاول أن أتذكر أخر مرة ترجلت فيها مع أصدقائي، أو حتى جلسنا فيها على المقهى دون أن أرتاب من فكرة أننا حتمًا، ولابد، في لحظة ما قادمة، سنفترق لامحالة، إما لشجار تافه، يتخلله سوء تفاهم، ثم تكاسل عن المبادرة بالصلح، أو لقدر محتوم لامفر أو مهرب منه. لأنه ببساطة، وعلى طريقة ابن عربي، كل صداقة لاتقو على الرهان على متانتها، لا يعول عليها.. وأنا رأيت صداقات تحطمت، كانت لتبدو أبدية..
أحاول أن أتذكر آخر مرة وقفت فيها للصلاة دون ألا أستشعر عظمة لله، ودون أن أرتاب من احتمالية ذهاب دعاءي صدى الريح..
أحاول أن أتذكر أخر مرة قرأت فيها كتابًا، دون أن أفكر في ما أفادت كل تلك الكتب الموجودة منذ الأزل في تغير مسار هذا العالم الموجود، والغائر في القدم، والمتجه بكل استهتار نحو حافة الهاوية..
أحاول أن أتذكر أخر مرة كتبت فيها دون أن يساورني الشعور بالثقل، والسخافة، وعدم جدوى ما أكتب، ومصيبة أن كل رسائل استغاثاتي المشفرة التي ادسها بين كتاباتي* لم تعد أبدًا مشفرة، إنما مكشوفة، وأنها لم تعد تثير في الآخرين سوى الشعور العميق بالشفقة، ولم تعد تصيب من يعرفوني بشكل مقرب سوى بالشعور الحاد بقلة الحيلة لعجزهم عن التدخل، وبالضجر المتفاقم من ضعفي، وعجزي، أنا، عن الخروج من نفس المنطقة التي في ظنهم، أنني أقحمت فيها نفسي، وأقف فيها منذ أزمنة طويلة، ولم أتحرك قيد أنملة..
أخر مرة كنت فيها ندا حقيقيًا..
وأخر مرة كنت فيها مخلصا وفيًا، ومتحمسًا حقيقيًا لفكرة نبيلة استحوذت علي بالكامل..
أخر مرة ضحكت فيها ملأ قلبي، وشدقي دون أن أتذكر مخاوفي السوداء..
أخرة مرة حزنت دون أن أشك أصلًا في حقيقة أحزانني نفسها، فأسلب نفسي حتى مقدرتي على التعاطف مع ذاتي، والتهوين عليها..
أخر مرة استمتعت بالحاضر فعلًا، دون المزيد من محاولات إعادة استحضار، وخلق للحظات بعيدة مميزة، وأثيرة من الماضي..
أعرف. أكتب نفس الأشياء لكن بطريقة مختلفة. ورغم اختلاف الطريقة التي أكتب بها نفس الأشياء، إلا أن الكلام مازال يبدو مكررًا، ولكن ماذا يهم تكرار الكلام فأنا أنا، وسأظل هذا، مهما حاولت إثبات أو إدعاء عكس ذلك؛
سفسطائي مريض بفرط التفكير، والاستذكار. تساورني نفس الفكرة، وعكسها، وأدحض بسهولة الفكرتين معًا، أعدو في اتجاه ما، ثم أرنو للتجاه المعاكس، وأؤمن تمام الإيمان أنني في سياق أخر لكنت الضد لما أنا عليه الآن، أي لكنت أيضًا أنا.. نفسي..
—-‐——————————————————————-
*ومثل الكثيرين مرت علي أوقات دسست رسائل استغاثاتي في كل شيء الكلام، النكت، الإيماءات، الضجر، الغضب غير المبرر والقسوة، وأفهم الآن أن من كان قادرًا على فكها كان عاجزًا عن التدخل.. (بلال علاء، لن نصنع الفلك)