الموت هو انتصار الحياة: ديوان “مدينونَ لك أيها اليأس” لمروة أبو ضيف

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ربما يكون من مزايا الانفجار الشِعري الذي يمكن القبض عليه بوضوح لا لَبْس فيه لدى الأجيال الشعرية الأحدث في مصر، أن الشاعرات اللاتي يملكن مشروعاً فنياً حقيقياً ضمن مَن يمكن رصدهم ومتابعتهم داخل هذا السياق، كثيرات بشكل واضح، وأن هناك تبايناً صحياً بين الملامح الجمالية لكلِ مشروعٍ وآخر بين هؤلاء الشاعرات، وإن كان الملمح الذي صار عاماً لدى العديد والعديد ممن يكتبون النص الجديد، وهو اقتناص الشعرية من ثنايا التاريخ الشخصي وسيرة الشاعر الذاتية وتفاصيلها- يظهر بجلاء لا لبس فيه في نصوصهن..( للحق، هو ملمح لا يخصُّ الكاتبات فقط، فهو سمة عامة في كتابة هذه الأجيال الأحدث، لكنَّ حديثنا هنا عن الشاعرات صاحبات الحضور الواعد بالخصوصية)..

ويبرز اسم الشاعرة مروة أبو ضيف باعتباره يخص واحدة من أبرز شاعرات قصيدة النثر في الواقع الشعري الجديد في مصر، بتوالي إصداراتها وتنوع تجاربها وهو ما يشي بطموحٍ محمود يخرج عن شاعرة مهمومة وقلقة في سبيل القبض على صوتٍ شعري خاص له ملامح فنية وقوام شِعري متماسك.. أصدرت مروة: “ذاكرة رحيل” ،”أقص أيامي وأنثرها في الهواء”، “وبيننا حديقة” وهي مراسلات مع سارة عابدين، “منهك كأنه المعجزة” وهو الديوان الفائز بجائزة عفيفي مطر للشعراء العرب، ثم “مدينون لك أيها اليأس” وهو الديوان الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2023 والذي نحاول أن نتداخل معه هنا..

ربما يمكنك أن تورد سطوراً من سيرتك وتفاصيلك اليومية بشكل واضح ومنزوع المشاعر متخففاً قدر الإمكان من المجاز والتخييل ومعلناً من السرد والحكي لتظهر الحياة عارية ومتقشرة من حواجزها وأوهامنا تجاهها، فتضمر بداخلها نورها ونارها وتكون الرسالة المقدمة من المبدع للمتلقي واضحة وأبعد ما تكون عن الإرباك واللعب الفني الذي هو مقصودٌ لذاته في أحيان أخرى. وربما جعلتَ التخييل مطيتك و لعبتك في رواية أحداثك وتشخيص ملامح أيامك فتنفخ في العادي ليكتسب حضوراً شعرياً ومقاماً لغوياً يعلو على اللغة المعتادة والمتاحة، فتكون التفاصيل العادية مُشعَّرةً ومسكونة بالأرواح والأشباح والسردُ سردٌ شِعريٌّ على وجه الخصوص. ولربما كان هناك طريق آخر يقلب الأمر، فتستخدم مشاعرك الغُفْل، كالحزن والأسى والخوف والفرح واليأس والبهجة والموت الخ، في اندياحاتها الهادرة ونبضها و فورانها، لتكون هي أساس اللعبة ومادتها الخام، ومن خلالها نستطيع تلُّمس هذه السيرة وولوج شوارعها وأزقتها وتحسس ضلوع وزوايا القصة التي جرت لكائن بالذات وسط الأقدار التي بلا شاطئ.. من هذا التوجه الأخير تشغل مروة أبو ضيف نصوصها، لنقابل شِعراً ساخناً عفياً جسوراً في حكمه على الأشياء وفي تصنيف الكائنات وإيداعها الجحيم أو تركها تلهو في مرآة تنكسر عند مقابلة الشمس وفي التعامل مع الوجود من منظار شخصي وخاص يُقرِّب الأشياء ويصل لمكنوناتها ويفسرها لحساب هذه البصيرة بالذات.

نصوص مروة نصوص تخرج من نفس حسَّاسة للغاية، سواء تجاه كل ما يحيط بها خارجياً أو يشغل خلاياها المتوارية بداخلها، تواجه الآخر في ساحات المعارك بنفس فاعلية مواجهته على سبورة الروح، لنلمس مشاعر عارمة تجعل التاريخ الشخصي هو السيرة التي تخص كل صادق مغترب غائص حتى أذنيه في طينِ هذا العالم الذي بلا رحمة: هذا ليس تاريخاً/ إنها آمال محبوسة في بلُّورٍ قديم

ويبدو عنوان الديوان من نتاج ما سبق، فالشاعرة تحدد به وجهتها وتوجهاتها أو بالأحرى توجهات النصوص، بناء على خبرة قاسية بالوجود، هي التي باتت لا تثق في شيء أو في أحد لهذا ستظهر الحياة، عبر النصوص، في صورة مغايرة للمعتاد بناء على ذلك، بعد انهيار كل شيء أو بالأحرى، بعد انكشاف كل شيء. في النص الأول وفي سطوره الأولى تقدم الشاعرة بيانها الذي يعضد ما افترضناه بوضوح جارح، بعد أن تبدأ بالسخرية السوداء والمُرَّة من ذاتها وربما بسبب هذه الثقة المرتعشة تكون هي الشخصية الدرامية الخالقة وهي البطلة الحقيقية للنصوص:

مثل كل العظماء/ولدت بشامة سوداء/وقابلية مهولة للكسر/هشاشة في الروح/يراها الجميع مهما حاولتُ إخفاءها/كل القصائد عني/لأنني وحدي جديرةٌ بالأغنيات..

إنها بهذا تملك القدرة على الدلوف لقلب الأشياء من أبعد نقطة و أقلها بريقاً، وكلما تتمكن من الشوف تعيد ترتيب الحقائق وزوايا النظر: العَظَمَة -يا أوغاد-/أن تقفوا على تلال تشوهاتكم وانتصاراتها الوضيعة/ثم تنتظروا عاشقاً يعبر دون التفات لكلِ هذا..

المفارقة هنا، أنها لا تخاطب الآخرين، وإنما تخاطب ذاتها التي تحتاج للتحفيز كي تنتصر على النموذج السائد الذي يُعلي من مبدأ الخداع و مدارة الخيبات ونقاط الضعف، لتصِّدر بالتالي نموذجها هي وشرطها الوحيد للتواصل: أن تعترف بكل نقاط ضعفها بشكل صريح وجارح وعلى مَن يجرب الاقتراب أن يكون فقط هو المتقبل لهذه الذات بدون تصنِّع ولا تزييف، لا مجال لمجاورتها في رحلة الحياة إلا وفق مبدأ الصدق الجارح والوضوح التام والتطهر الدائم، أبى مَن أبى وقَبِل مَن قَبِل..

وتواصل إعادة تعريف الأشياء وفق منظورها الخاص وزوايا رؤيتها الناتجة عن تجربتها المُرة في الاشتباك بالواقع:

البحرُ الذي جمده الشتاء والعمر والتجربة/هذا ما يمكن أن أسميه الخلاص

إن لحظة النور ولحظات الفرح المنتظر تصير هنا الضد والنقيض من كل قيم الحياة وأحلامنا فيها، بهذا يكون الموت هو لحظة انتصار الحياة، في مفارقة تضعها الشعرية بيقين تام وحكمة مبنية على تجربة تبسطها أمامنا بامتداد التجربة الفنية. إن البهجة لا تساوي الفرحة والنجاح والتحقق ولكنها محض قيمة جارحة وكاشفة عن الحقيقة السوداء: أن الواهمون بها هم أطفال الحياة غير البريئة:

البهجة حفَّاضات للأطفال/ سرعان ما تبتل وتتسخ

ربما يحمل الشاعر العالم كله في قلبه، بضجيجه وأرواحه وروائحه، لا ليكون صوته ونبيه وحامل رسالاته وإنما بالعكس، ليكون شاهد خرابه وكاشف سوءاته والساعي لدفنه: وكلكم.. كلكم.. كلكم/ كراكيب محطمة داخل صندوقي العتيق.

إذ أن البطلة لم تسعى لهذا العذاب منذ البدء، لكنها لعبة الأقدار وقسوتها وغرابتها:

بطنُ أمي لم تنتفخ كثيراً بي/ كنتُ بذرةً ضئيلة/ أظنُ لو لم يلحظني أحدٌ سأبقى بالداخل للأبد

حيث الأمان الذي يشبه القبر في سكونه وهروبه من كل الضجيج والاشتباك المؤذي للروح.

إن هذا العالم غريبٌ حقاً ومريبٌ كذلك، يصنع النهايات ويضعنا في قِدرٍ ضخم ويتسلى برؤيتنا نعدو نحو النهاية المكتوبة سلفاً:
العالم شاذٌ يا أخي/ يطبخُ النهايات قبل أن نبدأ أصلاً/ نخطو خطوة واحدة باتجاه الحياة

إن كافة ما يمر بالشاعرة من قساوات وسط غابات الحياة لا يدعوها لليأس المعتاد ولكنه اليأس الذي عركته التجارب فقامت بتصفيته من الشوائب لهذا يظهر صافياً نقياً يقترب من حكمة السنوات الطويلة:
لا أظنُ أنهُ اليأس تحديداً/ لكنَّ الحكمة تقتضي ألا تنتظر شيئاً/ ألا تعِّول على أحد

لهذا فمن الطبيعي، كمقاومة ذاتية لا شعورية، أن تعود الذات المقهورة إلى فردوسها المفقود، إلى الطفولة أو لحظات التوهم بالحب، حيث البراءة والصدق والآمال التي لا تُحَدُّ، وبكل عزمها تحاول تثبيت الكادر على هذه اللحظات لكن الواقع القاسي يجعل اللحظات الطيبة تذهب سريعاً أو ربما تهربُ قبل التورط:
قفزةٌ قديمةٌ في لعبةٍ طفوليةٍ/ أقفزُ الآن عالياً/ وأقبضُ على الهواء بيدي/ ويدي التي كانت فزَّاعةً قبل زمن/ تطير/ هذه عصفورتي المنفلتة/ اللحظة التي تجئ على حافة الشفاه/وتتبخر قبل الرشفة الأولى/وأنا فزَّاعة على باب الوقت/ كلما اقتربت لحظةٌ.. تطير!

إن هذه الذوات الرهيفة لدرجة التلاشي تعاني أكثر من غيرها في أجمل وأجل لحظات الاندماج بالآخر: حين تحب، حيث لا تنخدع مثل الآخرين بسعادة مؤقتة وإنما تجعل معيارها الدوام والخلود في وجه الزمن والتغضنات والتجاعيد التي تصيب الأرواح وهو الأمر الذي يقترب من المستحيل نظراً لطبيعتنا البشرية المتقلبة أو لضعفنا و خذلاننا مَن نحب وآمالهم الخيالية فيناعلى الدوام أو نتيجةً لواقع وحياة لا تمرر الجمال والنور إلا بالدم.. وهكذا يتساوى الخوف مع الإحساس بالحياة ذاتها:
أنا أخافُ منكَ يا حبيبي/سَوْطكَ على صدري/سَوْطكَ على خصري/ سَوطكَ يجرُّني من أذيالِ خَيْبَتي/ أتحسَّسُ قلبي و تبتلعني فوهة الرعب/ يهولني الخوف والجمال

وعندما يسود الخوف المشاهَد المتوالية لشريط الحياة تندفع القسوة لتفجر أي إحساس معتاد وتنغلق البوابات وتنسد المداخل المؤدية للنور: وبعد كل هذه الأعوام/ طرقتُ بابك ثلاث مرات،/ أول مرةٍ قلتُ:/ “يا أبي، افتح الباب، أنا خائفة”،/ وفي الثانية قلتُ:/”ياحبيبي، افتح الباب، أنا بردانة”،/ في الثالثة نسيتُ ما أردتُ ما أقول

قدمت شاعرتنا في ديوانها هذا شعراً نابضاً ساخناً مفعماً بالحياة رغم أنه يستبطنُ الموت، ولكنها الحياة التي في مكان آخر من الذات، تظهر للمارة بشكل براق بينما سوادها يلمع في الداخل، حياة حقيقية بعد تقشير الكذبات والأحلام والأوهام وهي إذ تستند إلى سيرتها الذاتية، فهي تقترح مقاربة للحياة بناء على تجربة صادقة ومرارة غير مفتعلة:
أن تسير في أوج مراهقتكَ إلى مقبرة/ حاملاً نعش أمكَ على كتفيك/ لا بد لعظامك أن تنحني

وإذا انحنت عظامك لابد أن تجذبك الأرض لتلمح بذور الحياة الملقاة من العابرين وما عليك ساعتها إلا أن تلتقطها وتلقيها في مكانها الذي تستحق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الديوان صادر عن الهيئة العامة للكتاب 2023 

مقالات من نفس القسم