قولى للطريق أن يكون سهلاً يا أمى.. قولى للوحدة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

البهاء حسين

رأيتُ اليوم سحابة في القاهرة
بيضاء كالنعمة
كانت تتحرك، وكنت أمدّ رأسى خارج الأتوبيس،
لأطمئن أنها لن تضل طريقها هي الأخرى في الزحمة
غير أنها تركتنى فجأة للعرق
عرق غزيز كالشيب الذى غزا رأسى
:
لا أسنان في فمى، لأضحك من الحياة التي تجرى هنا عارية
كامرأة مجنونة في الشارع
دون أن يجرؤ أحد على إيقافها
أحياناً أحاول أن أضحك وأنا وحدى، في البيت
لكننى أتراجع، فأنا أخفى فمى حتى عنى
لم تعد لى أسنان يا أمى، لأضحك بثقة
إلى متى تستعملنى التجارب
الشيبُ مرة واليتمُ مرات
الانفصال عن الزوجة والولد.. إلى آخره
ثم إننى فعلاً وحيد
:
قبل أعوام طويلة، عندما سكنتُ هنا
كان طموحى أن تضيع وحدتى في الزحمة
فإذا بها تكبر
أنا كبرتُ يا أمى
لهذا قليلاً ما أسافر إليك، حتى لا ترى شيبتى
على كل “لم نخلق، لنبقى صغاراً طوال العمر”
لا بد من التجربة، وإن فقد المرء أسنانه
سيعرف أن الحبّ لا يأتى بالاجترار
:
كبرتُ يا أمى وكبرتْ وحدتى معى
كلانا في الرابعة والخمسين
انقلبتْ حياتى
حاولت أن أحمل معى كل يوم حزناً
ألقيه من الشباك، تحت العجلات، غير أنه كان يعلق بأصابعى
سنوات وأنا أجوب القاهرة دون حبيبة في يدى، دون طريق
حتى عائشة ترفض القبلات
تحبنى، غير أنها لا تعترف بالحضن يا أمى
وأنا شخص يتعزى، عن سوء حظه، بالحضن
أصابعى ما زالت بخير، وإن كان النقرس قد عرف طريقه إليها
أقول لنفسى: لا تقلق من الشيب
أنت تحب فروة الخرفان والسحب
لماذا تقلق وأمك تدعو لك،
لكن يبدو أن الدعاء لا يصلح كتعويذة للوحدة
،،
لا أريدكم أن تملّوا من وحدتى
مهما حدثتكم عنها
لكن ما الداعى لأن أتكلم عنها، وهى تلمع كحبات العرق
على جبينى
:
أحبّ القاهرة، لكنها صارت مُحرجة مثل فمى
ولا مأوى لى غيرها
أحبّ القاهرة
لكنى أريد مدينة لا تجعل روحى حزينة
لا أريد أن أتفرج على التاريخ
أريد أن أفتح الباب وأجد روحى خالية
فقدتُ ذاتى يا أمى، بيتى
ولا شيء في القاهرة غير الدخان
،،
كلما ابتعد الأبناء عن أمهاتهم، شاخوا
كل شيء ظننتُ أنه خالد يا أمى، شاخ بالفعل
حتى أنت
،،
تقول عائشة كل شيء بعينيها
لكنها لا تحب المطر
:
وأنا عائد إلى البيت أعرق أيضاً
أعرق وأنا واقف في الأتوبيس
وأنا قاعد
أعرق صيفاً وشتاء، نيابة عن الركاب
وحين أخمّن ما قد يحدث لى غداً،
إذا لم تظهر في السماء سحب، إذا لم تعد هناك أصلاً سماء
إذا لم أجد مقعداً خالياً فى الأتوبيس الذى يسير كأنه جلبة
أخمن ذلك، لكننى لا أهتم بالغد
أنا هنا الآن
لا أستطيع أن أتنفس بحرية، لأن فمى يا أمى مملوء بالتراب
لكن لا تقلقى، فأنا اجتزتُ نصف قرن بخطوة واحدة
أعرف كيف أفرك نفسى من الشيب
يعرف كل إصبع كيف يتخلص من همومه
:
ماذا إن خانتك أمرأتك
لا أحد يموت من الوحدة، إلا في حالات نادرة
ثم إن المرء بحاجة إلى مأساة، إلى نبش نفسه
بحاجة إلى طريق
أنت بخير ما دمت تحنّ إلى أمك
ما دام لونك يتغير كلما تذكرتها
،،
تعثرتُ كثيراً يا أمى
ربما لأننى أمشى وأنا أتلفت
ربما لأننى لم ألزم الطريق
،،
إذا كانت لديك أسنان، فأنت تملك قوت يومك من الضحك
،،
كل حزن يشبه صاحبه
لكنّ حزنى يشبه عائشة
ظلتْ عشرين عاماً تنتظر حبيباً يطرق الباب
ولما طرقتُه ماتتْ
اختفتْ كسحابة يا أمى
:
لم يكن لعائشة بيت سوى قلبها
والقلب هنا لا يتسع للفرح
:
الفرح الحقيقى أن يأتي الأنوبيس، في موعده، خالياً بعض الشىء
لكن الحزن أن يأتي هكذا، ويكون ذاهباً لمحطة أخرى
:
ليس من السهل أن يغير القلب عاداته
الحب ليس سهلاً يا أمى
أكلم نفسى كثيراً في البيت
أنظرُ في المرآة لشعرى الأبيض وينظرُ لى
كلانا يفهم صاحبه
أنا بحاجة إلى الحب
وعائشة كانت تناسب قلبى
كنت بحاجة إلى شفاه نحيلة تمتصنى
إلى طريق أجده، لأضيع فيه.

مقالات من نفس القسم

علي مجيد البديري
يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

الآثم