ويليام فوكنر في شارع الصحافة

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عمر هشام

منذ ساعتين وأنا أراقبه بحذر وإذا استمر تواجده قد تفرح أمي لأنني سأحصل على وظيفة ثابتة أخيرا بل وظيفة استثنائية؛ مراقبة  وليام فوكنر…

السيد وليام فوكنر موجود في وسط مدينتي منذ يومين، هذا ما اكتشفته بمحض الصدفة أثناء مروري أمام شركة مياه القاهرة الكبرى في شارع رمسيس (قد تحدث أكثر أحداث حياة المرء خطورة بالصدفة، ليس فقط أن يرى وليام فوكنر ولكن من الممكن أيضا أن تتعرف إلى المرأة التي ستصبح زوجتك وتحبها بصدفة أصغر من ذلك)، وكان السبب في ذلك أبي. تركت العمل في شركة أبي بعد سنة واحدة من العذاب الذي ظننته أبديا، ولكن اكتشفت بساطة الأمر عندما ذهبت في شجاعة يائسة إلى غرفته في صباح أول يوم عمل في الأسبوع الجديد وتلعثمت “أنا هاسيب الشغل” وما كان من أبي سوى استقبال الجملة الخائفة بابتسامة باردة زادت من توتري ثم أسدل الستار “يا سلام! وماله يا سيدي المهم طبعا إنك تكون مرتاح، خلص مشاوير شركة المياه والتأمينات وبعدها توكل على الله”. يالله! هذا عيد الفصح الذي أطلق أبي فيه سراحي وأعلنه يوما مقدسا أتأمل فيه قدرة الله على تخليص عباده من الأسر. ولكن قبل أن أحتفل قررت أن أنجز المشاوير المتبقية بروح حماسية في انتظار الحصول على “اخلاء الطرف” رسميا.

أرتدي ملابسي في مزاج ينتشي بالحرية وامشي مسرعا للحاق بأول مكان في طابور المخالفات في شركة مياه القاهرة، أنزل من التاكسي الذي يصدمني بعدم وجود فكة “لأننا أول اليوم يا أستاذ، ٢٠٠ جنيه ازاي يعني”، أضطر  الذهاب إلى كشك السجاير على الرصيف المقابل لشركة المياه وأشتري أي شيء للحصول على الفكة المطلوبة، ألمحه عند مسجد الفتح ينظف غليونه.

هل هذه هلوسات السعادة بترك العمل؟ أم أن هذا هو شبيه وليام فوكنر الذي يعاني في شارع رمسيس؟ وهل يوجد شبيه يدخن من نفس نوع الغليون ويرتدي الملابس المعتادة للرجل الحقيقي؟ علىّ أن اتخذ قرار الآن بخصوص هذا اللغز. أعتبر نفسي مفصولا من العمل وأقرر تتبع السيد فوكنر (اعتبرته حقيقيا ولم أنتظر التأكد) أثناء جولته. (لم أفكر كيف سأبرر لأبي عدم ذهابي لشركة المياه ولم أتذكر أن أبي لا يعتمد على التفسيرات الأدبية حتى لو كنت أتتبع رجلا يحمل في حقيبته جائزة نوبل).

الموبايل يهتز داخل جيب بنطلوني الجينز الداكن معلنا عن احتجاج أبي على عدم وصولي لشركة المياه. لن أكترث لهراء شركة أبي ومشاجرات المستأجرين في هذا اليوم بالذات، إنها فرصة تاريخية لكاتب مغمور مثلي أن يلتقي بوليام فوكنر ومحاولة الاستماع إلى بعض نصائحه (في الحقيقة أنا لست مغمورا، لا أحد يعرفني أصلا!) التي بالطبع ستساعد على تحسين كتابتي، وإن لم تساعد يكفيني اللقاء مع مثل هذا الرجل. أقرر إغلاق هاتفي بعد إرسال رسالة نصية إلى الفتاة التي ستصبح زوجتي بأنني على وشك صناعة المجد (قد تطلب صناعة المجد إغلاق الموبايل في بعض الأحيان).

أحافظ على مسافة لا تتعدى بضعة أمتار بيني وبين السيد ويليام. الرجل يمشي متأنقا بطيئا في ايقاع يناسب زحام وسط القاهرة قبل ساعة الذروة بقليل. نصل إلى شارع ٢٦ يوليو ويتوقف الرجل لحشو غليونه وإشعاله، الغريب أن السيد ويليام يمشي وكأنه يعرف شوارع وسط البلد جيدا، تشعر أن جسده معتاد على هذه الشوارع وعلامات التوقف والسير فيها وهذا يدهشني أكثر من تواجد الرجل نفسه ربما…

نقترب الآن من مقر الجامعة الأمريكية، يقف السيد ويليام عند كشك الكتب الشهير عند مدخل شارع محمد محمود وهنا أقرر أن أقترب منه أكثر، أنتهز الفرصة للتأكد من حقيقة تواجد الرجل أم أنه مستوى احترافي من الهلاوس! تقع يد فوكنر على كتاب “مختارات من الشعر الأمريكي المعاصر” ويسأل البائع بعربية رديئة عن سعر الكتاب ليرد البائع بأن النسخة ليست للبيع، وتبدأ علامات الاستغراب ترتسم على وجه الأمريكي العجوز ويسأل البائع عن السبب. “أنت أول مرة تشتري مننا يا خواجة ولا ايه! حضرتك آخر نسخة لازم ترجع المخزن للموزع، هو ده النظام”. يرتفع صوت المواطن الأمريكي الذي يبعد عن مقر سفارته بمسافة شديدة القرب، الرجل لا يصدق ما يحدث ويرد منفعلا “ألا تعرف من أنا؟! كيف لك أن تمتنع عن بيع أي كتاب لديك؟! هذا مخالف للقانون” يبدأ الناس في التجمع حول الرجل ويحاول طفل صغير أن يعبث بغليونه واستكشافه. البائع المتمرس يثور ويحس بجرح كرامته (هذا هو عم لطفي صاحب هذا الكشك منذ ما يقرب من ثلاثين عاما. أعرف الرجل منذ أن كنت طالبا في المرحلة الثانوية وأتسكع مع أصدقائي في وسط المدينة بشكل شبه يومي. الرجل الذي يأتي راكبا دراجته من امبابة إلى وسط البلد كل يوم يمتاز بسرعة الغضب والشعور في بعض الأحيان، ما يعرضه لخسارة زبائنه باستمرار. لكنه في كل مرة يعود بصناعة دائرة جديدة من الزبائن، سرعان ما تنفض وهكذا دواليك…) وهذا ما ينذر بالخطر. ماذا أفعل الآن؟ أشعر بالمسئولية التي تثقل كاهلي، إنقاذ ويليام فوكنر من براثن عم لطفي! هل أحاول تعريف الحاضرين بالرجل؟ فكرت أن يعرضنا نحن الاثنين إلى مخاطر أكبر. علىّ الإسراع قبل أن يندم الجميع…

“خلاص يا عم لطفي صلي على النبي، أنا هاخد الخواجة ده شارع الصحافة يجيب اللي هو عايزه براحته. متزعلش نفسك نهارك زي الفل.” أجد جسدي يقف فاصلا بين لطفي وويليام وبالكاد يقتنع لطفي بترك الرجل يرحل سالما. ألتفت إلى الأمريكي المذكور هامسا بصوت خافت “صباح الخير سيد فوكنر، هل تقبل اصطحابي لك إلى شارع الصحافة حيث المخزن المذكور؟ أرجو أن تتقبل اعتذاري عما حدث من سوء فهم.” يبتسم السيد فوكنر ابتسامة عريضة ويتنفس الصعداء قائلا “أتعرفني؟” أجد أن هذه هي فرصتي للتعبير عن مدى تقديري للرجل “ومن لا يعرف صاحب الصخب والعنف درة الأدب الأمريكي في القرن العشرين؟ أرجو أن تسعد بصحبتي لك إلى حيث تجد ما تبحث عنه” الجملة الأخيرة تشعرني بأني مرشدا سياحيا لزجا يشرح تاريخ الأهرامات لسائح متوسط الذكاء. يوافق السيد فوكنر على الدعوة ونمشي سويا إلى شارع الصحافة، حيث مخازن دور النشر الحكومية التي تنام فيه الدرر المتنوعة من الكتب ويحرسها فرسان الهيكل العاملون بالحكومة.

يبدأ السيد فوكنر في استعادة حالته الطبيعية رويدا رويدا، ولا أدري هل يحدثني أم يحدث نفسه فالرجل لا ينظر في اتجاه محدد عندما يتكلم. “أحمد الرب أنني تركت زوجتي في الفندق ولم أصطحبها في هذه الجولة المشؤومة، لم تكن لتتحمل رؤيتي في مثل هذا المأزق” يبدو أن السيد فوكنر مازال يحب زوجته بعد كل هذه السنوات، كم هذا مثيرا للإعجاب!

“السيدة استيل أتت مع سيادتكم؟” يباغت سؤالي الرجل الذي استعاد هدوءه للتو، يندهش سائلا “أتعرف زوجتي أيضا؟ معذرة، من تكون وماذا تعمل؟”

“اسمي عمر، تركت العمل مع والدي صباح اليوم لكني أكتب القليل من المقالات عن الأدب بشكل عام مقابل القليل جدا من النقود التي تعينني في الأحوال الصعبة، وأطمح أن أكون كاتبا. هذا كل ما في الأمر”.

نظرات الاستحسان تظهر على الوجه المنهك ويبدو أنه يبدأ في إبداء ملاحظة جدية: “اسمع. أنا أقدر إنقاذك لي من براثن البائع المخبول كما أنني أسجل إعجابي باهتمامك بالأدب العالمي الذي أكون -في حقيقة الأمر- جزء هام من حركته المعاصرة، لكني أشعر بالخجل لعدم استطاعتي مساعدتك بأي شكل، وستلتمس لي الأعذار إذا عرفت ملابسات رحلتي إلى هنا…”.

الرجل الرصين يبدو عليه علامات الارتباك فأحاول تخفيف الأجواء بعرضي لتناول القهوة في إحدى المقاهي المجاورة، الأمر الذي يرفضه السيد فوكنر ويستأنف حديثه: “بما انك تهتم بأمور الأدب فالأكيد إنك تعرف أنني ميت منذ صيف العام ١٩٦٢، ويبدو عليك من أمارات العقل ما تكفيني عن سؤالك عن امكانية التحدث إلى الموتى، بالأخص في مثل هذه الظروف لأن أمور كهذه قد تحدث في أجواء مغايرة وإن كانت بنسبة غير مرتفعة. الحقيقة أنني آتيت في اجازة من العالم الآخر مدتها أسبوع واحد فقط، وهذا هو النظام المتبع هناك. يخرج سكان العالم الآخر في رحلة إلى هذه الدنيا كل عشرة أعوام. الاجازة إجبارية ولكن تحديد المكان والمرافقين يبقى اختياريا، ولما كنت قد ذهبت في الرحلة السابعة إلى غرب أفريقيا وتمكنت من استكشاف أدغاله وكيف تغيرت هذه البلدان التي ينحدر من معظمها سكان الولايات المتحدة من السود، فقد قررت هذه المرة الذهاب إلى مكان لا أعرف عنه سوى تاريخه العريق فقط- معرفة ليست بالعميقة على كل حال- لأتمكن من استغلال الرحلة الإجبارية بشكل مثالي قدر الإمكان، وهذا هو اليوم الأول لي في البلد وقد تركت زوجتي المسكينة تنام في غرفة الفندق ولا تدري أنها كانت ستصبح أرملة للمرة الثانية في حياتها -لولا تفضلك بإنقاذي- كم هذا أمر شديد القسوة على أية امرأة في العالم، سواء عالم الأحياء أو العالم الذي أسكنه الآن..”

ماذا كان سيفعل القارئ لو كان مكاني أمام السيد فوكنر الآن؟ هل يبقى محتفظا بعقله أم يذهب ليودع زوجته قبل تسليم نفسه لمستشفى الأمراض العقلية بالعباسية؟ أحب أن أترك الإجابة مفتوحة لمزاج كل قارئ وطباعه وتفضيلاته الأديبة، أما أنا فأجبرت السيد ويليام على قبول دعوتي لتناول القهوة حتى لا ينفجر عقلي، الأمر الذي قبله الرجل على الفور تعاطفا معي.

نجلس في أقرب مقهى لأن قدماي تشتكيا لعقلي من العذاب، المقهى كان مزريا وبلا اسم لكنه كان خاليا من الزبائن ورائحة البن الذكية ما شجعنا على الجلوس. أحاول ترتيب أفكاري وأبادر السيد فوكنر بالسؤال “سيدي العزيز، بافتراض أن ما قلته صحيحا على غرابته، ما الذي يمنعك من الإجابة على اسئلتي ومساعدتي في بدء مشواري الأدبي، ما القيود التي من الممكن أن تُكبل شبحا يتجول في أنحاء العالم مع زوجته، هل في الأمر موانع عائلية مثلا؟!”

العجوز الأمريكي يبدي امتعاضا من سؤالي الأخير، يشعل غليونه ويرتشف بعض القهوة ويرد قائلا “عزيزي، أرجو أن تأخذني على محمل الجد لأنني لم اعتاد غير ذلك الأمر طوال حياتي. ليست في المسألة شأنا عائليا أو غير عائلي، فالأمر كله ينفصل تماما عن شئون الحياة الدنيا وتعقيداتها. كما أن زوجتي -للإيضاح- لم تكن لتتدخل في حياتي العملية أبدا طوال زواج دام لنصف قرن، ولك أن تتأكد منها بسؤالها شخصيا في هذا الأمر، العطوف الرائعة استيل!”. ينظف الرجل غليونه ويعيد حشوه وإشعاله ثم يستأنف الحديث “لعلك تعرف -بما أنك على معرفة بالأدب واسعة- أننا نعيش في العالم الآخر نظاما صارما تحكمه القواعد الواضحة التي يعرفها الجميع ويحترمها الجميع، أو على الأقل تستطيع أن تتوقع كيف تُنظم الحياة عندنا، التي تكون أكثر عدلا بكثير على أية حال…

أما فيما يخصني الآن، فالأمر أنه ممنوع منعا باتا أن نفصح عن شخصياتنا، أو أن نتحدث عن الأمور العملية التي كانت سببا في شهرتنا أو نجاحنا أو حتى تعاستنا في حياتنا السابقة، لذلك فالبائع المختل عقليا كاد يطيح بي عندما فقدت أعصابي وهددته بأنه لا يعرف من أنا، حمدا للرب القدير على تدخلك في التوقيت المناسب. وما زاد من سعادتي أنك الشخص الأول الذي نجح في التعرف علىُ منذ أن وصلت القاهرة، وهذه فرصة أن أفضي لك بما في قلبي بأنني كنت أتمنى مساعدتك إلا أن العقوبات الصارمة في العالم الآخر -التي تبدأ بالإنذار الشفاهي وقد تصل إلى إرغامك على الجلوس بدون زوجتك (هذا إن كنت تحبها في عالم الدنيا)  أو أن تجد نفسك في أحضان زوجتك الشمطاء التي  كانت مصدر شقاءك في حياتك الأولى (حدث هذا الأمر المؤسف للكثير من أصدقائي) إن خالفت التعليمات المعروفة. والبديهي أن الشخصيات المعروفة يجب أن تكون قدوة لباقي سكان العالم الآخر وهذا ما يستدعى عقوبات أغلظ لنا خاصة حاملي جائزة نوبل. وأنا لا أخفي عليك عدم قدرتي على الحياة لحظة واحدة بدون استل، فمنذ الرحلة الماضية تم تحذيري للمرة الأخيرة  أن الخطأ القادم ستكون نتيجته فقدان استل مدة عشر سنوات كاملة، هذا لأنني تذكرت إحدى بطلات رواياتي ونطقت اسمها سهوا أثناء تجوالي في أدغال الغرب الإفريقي، لكن العناية الإلهية تدخلت وكان التحذير الشفاهي فقط هو العقوبة، آه يا زوجتي العطوف كم أحبك!” “My little lovely Istelle”

كم كان هذا الحديث مؤثرا! كيف يمكن لرجل مثل هذا المحافظة على سخونة حبه لزوجته منذ أن كان مراهقا وحتى وصل إلى عالم الأموات؟! أفكر أن زوجتي المستقبلية لابد أن ترى هذا الرجل وزوجته ولكني لا أعرف كيف يمكنني إقناعه وأترك الأمر إلى نهاية اليوم، هذا إن كُتبت له نهاية. أستدعي النادل وأطلب الحسا فأرى السيد فوكنر يستخرج من جيب سترته ورقة نقدية خضراء لامعة ويستعد لدفع الحساب ويبادر بالقول “في العالم الآخر قبل السفر في كل رحلة يتم صرف مصروف للجيب لكل ساكن، هذا المصروف يُحسب من المستحقات التي يودعها الساكن عند وصوله للعالم الآخر وعرض إقرار الذمة المالية الخاص به، وفي حالتي كان الأمر سهلا لأن دور النشر التي تعاملت معها طوال حياتي زودتني بتفاصيل ثروتي بجانب ثروة زوجتي العزيزة. أرجو أن تقبل دفعي للحساب دون أية حساسية.” من الواضح أن العالم الآخر لا يستغنى أبدا عن خريجي كليات المحاسبة، يبدو أنه عالم عادل حقا. لكنني فكرت أن العشرة دولارات إذا وقع السيد فوكنر عليها كتذكار ودفعت أنا الحساب سيكون الأمر أفضل بكثير وقد تكون ثروة لأحفادي المستقبليين (هذا إن جاءوا من الأساس) تجعلهم يتذكروا جدهم الكاتب الذي ظل مغمورا بالخير. شرح بسيط للأمر كان كفيلا بإقناع السيد فوكنر بقيمة إهدائي للعملة الخضراء عليها توقيعه الشهير.

عزيزي، بما انك -حسب ما تقول أنت- كاتبا، فهل لك أن تحدثني عن الكتابة وما يدفعك إليها وما يدور في داخلك عندما تكتب؟ إنني أشتاق لمثل هذه المحاورات الأدبية أيما اشتياق، ولا أدري هل فقدان زوجتي العطوف استل لتلك الملكات الأدبية نعمة -ساعدتنا على إقامة علاقة حب وزواج لأكثر من نصف قرن – أم نقمة حفرت ثقبا دخل منه الملل إلى علاقتنا، العجيب إنك تفكر في بعض الأمور العاطفية والزوجية حتى وأنت ميت. أعتذر عن ازعاجك بأموري الشخصية، وأرجو أن تبدأ بعرض ما يجول  بخاطرك عن الكتابة ولنترك النساء وشأنهن لبعض الوقت.

جسمي ينتفض بأكمله ودقات قلبي تدق بقوة ساعة جامعة القاهرة التي تبعد مسافة بسيطة من موقعنا الحالي. ليس أمرا عاديا أن يسألك صاحب نوبل في الآداب عن وجهة نظرك الأدبية، قد تثرثر عن الأمر مع أخيك الأكبر أثناء أكل الفشار ومشاهدة الأفلام بطيئة الإيقاع، كما يمكنك اختراع حوارا عن نظرية الأدب عندما تغضي منك حبيبتك فتزيد التأثير عليها بقوة الكلام (زوجتي المستقبلية هي التي تقول أنني أمتلك تأثيرا طاغيا عندما أتحدث بجدية عن موضوع يشغلني). لكن هؤلاء وإن  كانوا أحب إلىّ من مئة فوكنر إلا أنهم ليسوا متخصصين ولا فائزين بنوبل. يجب أن أبدأ حديثي الآن فالتأخير أكثر من ذلك قد يعتبره الأمريكي العجوز قلة تقدير. أتجنب النظر في عينيه وأتكلم مرتبكا:” الحقيقة أنا لا أمتلك وجهة نظر كاملة عن أي شيء تقريبا وأعتقد أن هذا أمر جيد، لكن بالنسبة للكتابة فأنا مسحور بعملية القص ذاتها، أي كيف تُروى الحكاية كم عدد الألفاظ التي تؤدي إلى معنى واحد، أعتقد أن هذا ما أبحث عنه. أريد أن أكتب قصة كُتبت قبل ذلك ألف مرة، أريد أن أروي نفس النص لكن مع ارتباكي أنا وتلعثمي أنا ومع حذف وإضافة ما آراه مهما أو غير ذي أهمية. أفكر أننا نروي عددا محدودا أصلا من الحكايات منذ أن خلق الله الحكايات، قد يكون الأدب ونظرياته هي عمليات الكشط والتعديل والإضافة على نفس المتن الأصلي. خذ مثلا حكايات ألف ليلة وليلة، أفكر دوما في أنه ماذا لو كانت حكاية واحدة ترويها شهرزاد لألف مرة ولكن بألف مزاج وألف طريقة، فبالتأكيد شهرزاد لا تأكل نفس الأكل كل يوم ولا تنعم بفراش سعيد طوال العام، كما أن شهرزاد لديها من الهموم المنزلية والعائلية ما يجعلها تحذف وتضيف بشكل مؤثر في كل يوم. أتأمل في الألف ليلة لو كانت تحكي بنفس الحكاية كل يوم وأتذكر إنني عندما كنت طفلا كنت أحب أن أستمع لنفس الحكاية مرة من أمي أولا ومرة من خالتي. فمثلا أمي لأنها تأكل طبيخا صحيا -بعض الشيء- تحكي بسرعة وبشكل حاد نشيط، كما أنها تنام بجانب أبي في نهاية كل يوم (أبي لم ينم خارج بيته أبدا) وهذا يجعلها قليلة التأثر بالدراما العاطفية لنساء العائلة. أما خالتي التي تطبخ طبيخا دسما جدا طوال الوقت، تحكي ببطء ظاهر سببه ضيق التنفس ومعاناتها مع السمنة ع مدار حياتها. كما أن خالتي التي تعاني من فراش خال في أغلب العام (العم سامي يعمل في البحرين منذ ثلاثين عاما، ويقضي أجازته الصيفية فقط معنا في القاهرة) وهذا ما يجعلها ذات حساسية مرتفعة للدراما والحكايات العاطفية. هذا كل ما أستطيع طرده خارج رأسي. أعتذر لك يا سيدي على هذا الهراء…

***

نحن الآن على مقربة من المخازن المقصودة، أستعد لترتيب أفكاري وأنصح السيد فوكنر بالتحلي بالصبر والهدوء حتى نحصل على المطلوب من براثن الوحوش الحكومية، الرجل يهز رأسه بطريقة تعلن عن مدى ثقته في تقديري للأمور، ثقة لا أحوزها أنا أصلا!

امتلكت المؤسسات الصحافية الرئيسية في البلاد مخازن شاهقة في شارع الصحافة، تحتوي على المرتجع من المبيعات على مدار السنين. المخازن أشبه بشون الخردة في السبتية (التي لا تبعد سوى دقائق قليلة) التي يتوه فيها الرجل الناضج بسهولة ويفقد كينونته في بضع ثوان. يتحكم في كل مخزن مجموعة موظفين لا تزيد عن عشرة أفراد، يتم حقنهم بكل ما طورته البيروقراطية المصرية العريقة من سمات لا تخفى عن الطفل الرضيع عن تسجيله كمواطن جديد، فما بالك عزيزي القارئ إذا اصطحبت معك مواطنا أمريكيا إلى هذا الصرح الوطني العريق، الداخل مفقود على الأغلب…

يطلب مني حارس المخزن بازدراء التوجه إلى أمين المخزن الأستاذ اسماعيل بدر (الحارس يراقب الأمريكي الغريب ويحاول سبر أغواره ويبدأ في تطبيق نظرياته على الرجل المسكين، مما ينذر بالخطر) المسئول عن أمور المرتجعات، (الرجل الذي يرتدي بدلة متواضعة عليها رمز معدني لعلم الجمهورية وفي يده كوب ضخم من الشاي وبجانبه كيس بلاستيكي بداخله سندويشات جبنة يبدو من قوامها إنها اسطنبولي) يطلب مننا إخراج تحقيق الشخصية قبل الشروع في أي تعامل، وأحاول اختصار الأمر للسيد فوكنر بإشارات معدودة لأنني كنت قد طلبت منه قبل الدخول التزام الصمت وإتباع تعليماتي فقط، ووافق الرجل بكل تواضع.

“ايه ده يا بيه. أنت جايب رجل أجنبي مدخله مكان زي ده! أنت بتهزر ولا أجيبلك البوليس وأعملك قضية. يا ساتر على الناس. أتفضل خده وامشي قبل ما أحبسكم أنتوا الاتنين لأن حتى وجودكم دلوقتي غلط”. نظرات عدم الارتياح تسيطر على الوجه الممتلئ بالتجاعيد، ويحاول أن يسألني عما يحدث لكني لا أكترث له واحاول الرد على السيد إسماعيل أمين المخزن، الذي بدوره يستمر في حديثه بلا توقف. ” أنت واقف كده ليه حضرتك يلا اتفضل. أنت مش عارف أن دي مؤسسة وطنية وأن أي حاجة تخصها تعتبر أمن قومي، يعني شكلك راجل مثقف وفاهم أمال سيبت ايه للناس في الشارع اللي على قدها. آخر مرة بقولك، اتفضل خد الأمريكاني ده وامشي قبل ما أعملك مشكلة”

يبدو أن الرحلة ستنتهي بالفشل، لطف الأقدار أن الأستاذ اسماعيل لم يطلع بدقة على جواز سفر السيد فوكنر، لكان احتجزنا في الحال وأصبحنا متهمين بالخبل وإثارة الفتن، فكيف سافر أجنبي بجواز لم يجدد منذ أكثر من خمسين عاما! أصلا ما المهم بالنسبة للسيد فوكنر في كتاب  عن الشعر الأمريكي المعاصر، كل الشعراء الذين يتحدث عنهم الكتاب بالتأكيد إما يعرفهم الرجل شخصيا أو سابقين له أو لاحقين تقابل معهم في إحدى الجلسات في العالم الآخر، ما هذا الفضول الغريب في اقتناء نسخة كتاب لا يتقن الرجل لغته مع تعريض نفسه للخطر أم أن هذه لعنة أبي تحل لأنني لم أقم بمهام عملي (السابق) في اليوم الأخير؟ عليّ الآن الانتهاء من كل هذه الأمور لأن الفتاة التي ستصبح زوجتي بعد عدة سنوات من هذا اليوم تنتظرني على الغداء وإن تأخرت فكل حاملي نوبل للآداب لن يساعدوني بأي شكل…

أمارات الإحباط تتسيد الوجه العجوز، يعيد السيد فوكنر حشو غليونه يائسا من أي فعل قد يجلب بعض السعادة في هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر. الحقيقة أنني أهتم الآن بأمر واحد ؛ أن ترى الفتاة التي ستصبح زوجتي السيد فوكنر وزوجته قبل أن يعودا إلى العالم الآخر، لكن كيف يحدث ذلك؟ وكيف يتقبل الرجل ذلك وهو في هذا المزاج السيئ؟ عليّ التصرف بسرعة إذن.

يندهش الرجل من طلبي ولعله أندهش من توقيت الطلب، ليرد وهو يرفع حاجبيه لأعلى: ” رغم أنني في حالة لا تسمح لي أبدا بمقابلة الناس، إلا أنه في كل الأحوال لا يجوز أن تخبر حبيبتك بالأمر مباشرة، فقواعد العالم الآخر تقتضي أن تتعرف هي عليّ بمفردها كما حدث معك، وإلا تعرضت أنا للمساءلة عند عودتي وبالتأكيد أنت لا ترضى أن تنعم بالسعادة العاطفية على حساب حرماني منها -لا قدر الله- لأنك تبدو عليك شواهد السلوك القويم ويبدو  أنك لست أنانيا أبدا، فقد عرضت حياتك….” أقاطع الرجل الخبيث الذي بدأ يبتز مشاعري مؤكدا أنه بالطبع لا يرضيني تعرضه للمساءلة واحتمالية فقدان زوجته العزيزة. أصلا من أنا ليدمر زواج أستمر في عالم الأحياء والأموات؟! الطريقة الوحيدة المتبقية تعتمد على مدى ثقة زوجتي المستقبلية فيّ وفي كلامي، سنرى…

“ازيك يا حبيبتي. بقولك ايه، انتي بتصدقيني في أي حاجة، مش كده” لم أعرف كيف أمهد لحبيبتي الأمر فبدأت حديثي على الموبايل بداية مزرية “خير يا حبيبي، اختبار الحب ابتدى دلوقتي؟ عموما لو ابتدى فأنا مش فاضية دلوقتي استنى أخلص الشغل..” صوت زوجتي المستقبلية ينذر بالغضب لأنها اعتادت مني على مثل هذه الأسئلة ولكن اليوم يا حبيبتي مختلف، أرجو أن تفهمي.

“يعني لو شفتي المرحوم ويليام فوكنر واقف قدام الشغل عندك، تعملي ايه مثلا؟ مش هتتصوري معاه برضه؟”

“حبيبي دي مقالة جديدة عن الراجل ولا دي الهلوسة يا بابا بسبب الأرق؟ أنا مشغولة ومش نايمة كويس امبارح وبالتالي مش فايقة ومتعصبة. ياريت تاخد بالك، ها؟”

نسبة تحول المكالمة إلى شجار تتزايد بمعدل سريع كلما تكلمت حبيبتي، الحل الأمثل هو إنهاء الاتصال بأقل خسائر والمخاطرة بالذهاب إلى  مقر عمل هذه الفتاة مصطحبا معي أعظم ما قدمت الولايات المتحدة الأمريكية في الأدب، ويليام فوكنر سيذهب إلى الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حيث تعمل زوجتي المستقبلية، يا له من تشريف. للرجل وليس للجهاز بالطبع!

“طيب طيب. اقفلي دلوقتي أنا هركب وجايلك”.

السيد فوكنر راق له اقتراحي بأن نذهب إلى مقر عمل زوجتي المستقبلية، ثم أطلب منها أن تنظر من شرفة مكتبها دون توضيح الأسباب، وبذلك نكون حافظنا على القواعد الصارمة للعالم الآخر وعلى قصة الحب الأسطورية القادمة من المسيسيبي. تحفظ الرجل الوحيد كان على طلبي اصطحاب مسز استل معنا كي نأخذ صورة عائلية تقليدية، لكنه وافق على مضض بعد وعدي بجلب تاكسي من أمام الفندق لأن “ماي بور استل تعاني من آلام في الركبة اليسرى، للأسف متاعب السن ظهرت على هذا الملاك، لكن هذه هي الحياة وعلى كل حال هي مازالت تحتفظ بشيء من جمالها القديم”. ما قيمة التاكسي أمام كل هذا الحب؟ صحيح أن استقلال تاكسي من وسط المدينة إلى مدينة نصر في ساعة الذروة يكلف الكثير، لكن لأفعلها بحب…

أختصر المتبقي من القصة بحذف تفاصيل الرحلة إلى مقر عمل زوجتي المستقبلية ورد فعلها على رؤية الأديب الكبير لأن القصة طالت قليلا وأخشى على القارئ المحتمل -إن وجد- من الملل والتذمر. المهم أن غرفة نومنا الآن يتزين حائطها بصورة عائلية دافئة مع السيد فوكنر وحرمه، أما الأهم على المستوى البراجماتي أن زوجتي لم تعد تتحداني أبدا وإذا قلت لها الآن أن الولايات المتحدة خسرت الحرب الباردة أو أن رواية الحرب والسلم من تأليفي، لصدقتني على الفور مع قبلة على وجنتي…

 

مقالات من نفس القسم