تناص أساطير الانتقال من العصر الأمومي إلى العصر الأبوي

داود سلمان الشويلي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

داود سلمان الشويلي

   ان المتتبع لأساطير الشعوب والمجتمعات في العالم يجد أنها متشابهة الى حد ما، وتشترك في الكثير من المفاصل الجامعة، ويمكن دراستها دراسة تناصية معتبرة. وقد ولينا أساطير منطقتنا العربية أهمية كبيرة في الدراسة والتحليل.

   واذا كان الاغريق قد وضعوا اساطيرهم عن انتقال العصر من فترة سيطرة الأم الى عصر سيطرة الأب فان شعوب المنطقة العربية ابتداء من العراق شمالا،  ونزولا الى اليمن في الجنوب، ومنطقة ساحل البحر الابيض من الغرب قد أنشأت أساطير الانتقال تلك فكانت قد انشأت اربعة أساطير على حد علمي المتواضع، وهي – اسطورة سرجون وامه، واسطورة هاجر واسماعيل، واسطورة أم موسى وموسى، واسطورة مريم وعيسى. وضمت هذه الأساطير الأم وابنها الذي ستتخلص الانسانية كما أعتقد مريدي الدين، ممتا أصابها من أدرانفي فكرها، وأخلاقها، وسلوكها، وأفعالها. وفي هذه السطور سنناقشها في هذه السطور.

***

   لو أخذنا الاساطير في المنطقة العربية وتتبعناها تاريخيا لوضعناها في هذا الترتيب الطوبوغرافي التاريخي:

– اسطورة سرجون وامه. اسطورة أكدية.

– اسطورة هاجر واسماعيل. اسطورة يهودية، يعني اسطورة عربية.

– اسطورة أم موسى وموسى. اسطورة يهودية، يعني اسطورة عربية

– اسطورة مريم وعيسى. اسطورة مسيحية.

– اسطورة “عمليق وجديس”. اسطورة عربية..

 ويمكن ان نضع هذه الاساطير في مجموعتين الاوى مجموعة خشية الام على ابنها فتكون اسطورة سرجون وامه مع اسطورة موسى وامه في مجموعة واحدة. والمجموعة الثانية تضم اسطورة هاجر واسماعيل مع اسطورة مريم وعيسى مع  اسطورة “عمليق وجديس”، وتسمى اساطير الطرد. أما الاسطورة الخامسة فتكون في مجموعة لوحدها

   وقد ظلت الرمزية الروحية لهذه الأساطير في المجتمعات التي أنشأتها فاعلة، واذا كانت اسطورة سرجون قد نسيت لأن لا دين ابراهيمي يساندها فإن الأساطير الثلاثة الباقية ظلت فاعلة الى يومنا هذا، وان كانت عند رجال الدين فقط.

***

* اساطير خشية الأم على وليدها:

   في كتابي (الذئب والخراف المهضومة)(1) ناقشت اسطورة سرجون الأكدي واسطورة موسى تناصيا على اعتبار ان اسطورة سرجون قد تناصت مع اسطورة موسى لقلة المصادر التي بين يدي، ولورودها في القرآن، وبعد أن قرأت الكثير عن ذلك وجدت انني كنت مخطأ في ما كنت أعتقده والصحيح هو تناص اسطورة موسى مع اسطورة سرجون والأخذ منه.

   ان اسطورة سرجون الاكدي تنص على:

*  النص الاسطوري:

                       قصة ميلاد سرجون

(( انا سرجون ، الملك القوي ، ملك اكد.

امي كاهنة من الدرجة العليا ، اما ابي فلا اعرفه .

واخي من ابي ، ساكن المنطقة الجبلية .

مدينتي التي ولدت فيها هي ( آزوبيراني) على ضفاف نهر الفرات.

حملت بي امي ، الكاهنة من الدرجة العليا وولدتني في السر .

 ثم وضعتني في سلة من القصب ، وبالقار ثبتت بابي ( أي غطاءها) والنهر حملني وجلبني حتى آقي ،الساقي.

آقي ، الساقي عندما رمى دلوه ، رفعني الى الاعلى .

آقي الساقس ، رباني كما لو اني ابنه المتبنى.

آقي الساقي، وضعني للعمل في بستانه.

في اثناء عملي في البستان ، الآلهة عشتار قد احبتني ( بحيث) حكمت مدة خمس وخمسين سنة ، كملك .

والناس ذوو الرؤوس السود قد اعتنيت بهم وقمت بحكمهم.)(2).

                                                          ***

أ . النص القرآني:

  اولاً : يقول القران في سورة القصص(7 -14):

((وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ* فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ* وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ *وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ *وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ *فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ *وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ..))

                                            

ثانياً: يقول القرآن في سورة طه (37 – 39) :

   ((وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ… ))

 

ب . النص التوراتي في  سفر الخروج – الفصل الثاني (1 – 10):

  (( ..(1) ومضى رجل من آل لاوي فتزوج بأبنة لاوي (2) فحملت المرأة وولدت ابناً . ولما رأته حسناً اخفته ثلاثة اشهر (3) ولما لم تستطع ان تخفيه بعد اخذت له سفطاً من بردي وطلته بالجمر والزفت وجعلت الولد فيه ووضعته بين الخيزران على حافة النهر (4) ووقفت اخته من بعيد لتنظر ما يقع له (5) فنزلت ابنة فرعون الى النهر لتغتسل وكانت جواريها سائرات على شاطيء النهر . فرأت السفط بين الخيزران فأرسلت امتها فأخذته (6) ولما فتحته رأت الولد فأذا هو صبي يبكي فرقت له وقالت هذا من اولاد العبرانيين (7) فقالت اخته لأبنة فرعون هل اذهب وادعو لك مرضعاً من العبرانيات ترضع لك الولد (8) فقالت لها ابنة فرعون اذهبي فأنطلقت الفتاة ودعت ام الصبي (9) فقالت لها ابنة فرعون خذي هذا الصبي فأرضعيه وانا اعطيك اجرتك فأخذت المرأة الصبي وارضعته (10) ولما كبر الصبي جاءت به ابنة فرعون فأتخذته ابناً وسمته موسى قالت لانني انتشلته من الماء ))

                               

***

* مناقشة النصوص:

    ان قصة موسى في التوراة تختلف عنها في القرآن في بعض التفاصيل، اذ يذكر القرآن، ان زوجة فرعون هي التي أخرجت التابوت (السلة) من ( اليم ) فيما تذكر التوراة، ان ابنة فرعون هي التي قامت بذلك بمساعدة جواريها، فيما نجد مؤلف كتاب (بدائع الزهور في وقائع الدهور) ينطلق مع التوراة في هذا الأمر، كون المؤلف ينقل عن مصادر ذات ولاءات يهودية سابقة، مثل كعب الأحبار، ووهب بن منبه(3)، وقد تناسى المؤلف وهو المسلم ان القرآن قد ذكر ان زوجة الفرعون هي التي انتشلت ( التابوت).

      فيما تتفق التوراة مع القرآن، في ان فرعون قد طغى وتجبر، وأمر بقتل كل رضيع، مما دفع الأم بألهام، او وحي من الله، كما في القرآن، أو كحيلة التجأت اليها كما في التوراة، الى وضع وليدها في التابوت ( السفط ) ومن ثم القائه في اليم.

   أما بالنسبة لاسطورة ميلاد سرجون الأكدي، فأن أبيات الاسطورة التي أثبتناها في هذه الدراسة تعرفنا على ولادته، إذ يأتي الخطاب بضمير المتكلم ( أنا سرجون) وهذا يعني ان هذه الاسطورة قد خطها قلم سرجون نفسه، أي في حدود الألف الثالث قبل الميلاد، في زمن حكم سرجون نفسه ( 2340 – 2284ق . م ) لكن الحقيقة- كما تذكرها المصادر الآثارية والتاريخية – ان لهذه الاسطورة نسختين، أحداهما تعود الى العصر الآشوري الحديث ( في حدود 750 ق.م ) والأخرى تعود الى العصر البابلي الحديث ( في حدود 600 ق .م )(4)، أي انها قد دونت بعد وفاته بأكثر من ( 1500 ) سنة.

***

* اساطير طرد الأم من المجتمع:

   نافست هاجر ضرتها سارة على قلب الزوج ابراهيم، ولما كانت سارة امرأة حرة، وهي كانت تعتقد انها عقيمة، كما تقول الاسطورة في التوراة، وهاجر أمة عند سارة، وقد ولدت مولودها اسماعيل، طلبت سارة من زوجها ابراهيم ان يطردها وابنها فأخرجهما الى وادي غير ذي زرع، في مكة، وهكذا طردت هاجر.

    وتقول اسطورة مريم وعيسى بأن مريم اتهمت بالزني لانها أصبحت حاملا بلا زواج فطردها الكهنة اليهود من المعبد فتكفلها زكريا حتى ولدت عيسى.

   ان طرد هاجر بسبب ولادتها لاسماعيل من قبل زوجها، الذكر، بدفع من ضرتها، وطرد مريم بسبب حملها بعيسى من غير زواج من قبل كهنة المعبد اليهودي، هو طرد لسبب واحد هو ولادة مولود ذكر، وهذا السبب لم يعلن عنه مباشرة إلا انه جاء بشكل رمزي.

***

– الانتقال من المجتمع الأمومي الى المجتمع الذكوري من خلال الرمز الجنسي:

   ان قراءة متأنية لاسطورة “أورست” يمكن أن تكون القراءة المحتملة للوصول إلى الدلالات التي تحملها، والمعاني المختبئة خلف قشرة هذا النص. إن الدلالات الاجتماعية –السياسية التي تحملها أسطورة (أورست) كما قدمتها مسرحية (أسخيلوس) كانت هي الدافع لإنشائها حيث جاءت في وقت كان المجتمع فيه منقسماً بين الأخذ بمبدأ المجتمع الأمومي السابق، أو الأخذ  بمبدأ المجتمع الأبوي الذكوري الذي يرغب. لهذا نرى أن (الإيرينات)(5) يقفن إلى جانب النظام القديم الذي كانت فيه القرابة المنحدرة عن طريق الأم رباطاً أوثق من الزواج، وكان يعاقب فيه قتل القريب وفوراً وبصورة قاطعة بحرمان القاتل من الحماية القانونية (……) ومن جهة أخرى، فإن أبولو الذي كان الأثينيون يعبدونه بوصفه (أبويا) (باترويوس) يعلن قدسية الزواج وأولوية الذكور، وتدور المسألة حول مصير (أوريستيس) والمحنة التي ألقي فيها تعكس صراع الولاءات المنقسمة المميزة للفترة التي كان يجري فيها تغيير النسب لغرض الخلف والإرث المصاحبين له من جهة الأم إلى جهة الأب وسيسجل تبرئته ابتداء النظام الجديد الذي سيبلغ أوجه في الديمقراطية.

   لهذا فإن أثينا ومحكمتها تبرئ ساحة (أوريستيس) لأنها كانت تعطي صوتها إلى أولوية الذكور على الإناث:

* ((مامن أم ولدتني وفي جميع الأمور

  عدا الزواج فأنا وليد أبي في الحقيقة.

  أثني على الذكور من كل قلبي.))(6)

   إذن، فالأسطورة هي تمجيد لذكورية المجتمع وإعادة المرأة إلى البيت لتبقى تحت سيطرة الرجل //الزوج.

   واذا كنا نريد أن نفحص سرديات منطقتنا العربية بالرغم من تثاقف سرديات العالم كافة فيما بينها، فان الدكتور فاضل الربيعي يناقش في كتابه “شقيقات قريش” واحدة من الأساطير العربية التي تعبر عن انتقال المجتمع الأمومي الى المجتمع الأبوي، وهي اسطورة “عمليق وجديس” على الصفحة/304 وما بعدها.

   ونص الطبري يذكر: (( وكان عليهم ملك من طسم غشوم لا ينهاه شيء عن هواه يقال له عملوق. وكان مما لقوا من ظلمه واستذلاله انه أمر أن تهدى بكر من جديس الى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعها – أي يفض بكارتها)) . وهذا ما موجود في ملحمة/اسطورة جلجامش ص39 ، حيث من صفات جلجامش انه “لم يترك جلجامش عذراء لحبيبها”.

   يقول الدكتور فاضل الربيعي في “شقيقات قريش”، ان الأسطورة ((تروي بشروط إنشائها الخاصة، ولغتها الرمزية الجامحة، بواعث وظروف النزاع المحتدم بين النظامين المتنافرين والمتنافسين، النظام الأمومي والنظام الأبوي. والأرجح، ان العرب بروايتها لهذا الصراع، تكون قد عبرت  من خلال إعادت تمثل فكرة اندحار النظام الأمومي وانزياحه عن مجتمع العرب العاربة (الأولى)، في وقت ما من الأوقات، عن تصورها لنمط الأنتصار التاريخي الذي حققه، في النهاية، النظام الأبوي، وثبت بفضله شكل السلطة في مجتمع القبيلة القديم. ))(7).

   وفي هذه الأسطورة نلتقي بالجنس أيضا، وذلك ان “عمليق” مثل جلجامش، “يفترع” العروس قبل زوجها.

***

  تبنى الأساطير الأربعة على فكرة نبذ الطفل وأمه، سوى الاسطورة الخامسة فانها تبنى على فكرة فض بكارة الأنثى، أي سيطرة الذكر على الأنثى كما يرى التفكير الشعبي بعملية الجماع.

   تكون الولادة مولودا ذكرا، وهذا معناه أن هذا الذكر سيكون سيد قومه، ويأخذ السيادة من الأم عندها ينتقل العصر من عصر سيادة الأنثى الى عصر سيادة الذكر.

   ساس سرجون الناس، وساس موسى الناس، وساس اسماعيل الناس، وأصبح أمة كما جاء في التوراة (سيجعله أمه كبيرة) (تكوين17:20)، وساس عيسى الناس.

   بهذا استطاع العرب، عبريها، وعربها، وأكديها، ان يصوغوا اساطير انتقال الحضارة من العصر الانثوي الى العصر الذكوري.

***

الهوامش: 

1 الذئب والخراف المهضومة – داود سلمان الشويلي – دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد – 2001.

2 – سرجون الاكدي – ص98.

3 – بدائع الزهور في وقائع الدهور – محمد بن أحمد بن أياس الحنفي – دار العلوم الحديثة – لبنان – ب . ت – ص188.

4 – من ألواح سومر الى التوراة – د . فاضل عبد الواحد علي – دار الشؤون الثقافية العامة –1989- ص199.

5 – الإيرينات – هي أرواح السلف.

6 – اسخيلوس وأثينا –جورج تومس- ترجمة: د.صالح جواد كاظم- وزارة الإعلام/ بغداد- 1975- ص381.

7 – شقيقات قريش – فاضل الربيعي – منشورات رياض الريس – 2002 – ص304.

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم