بسمة الشوالي*
إن أعظم أعمال اليد هي الخلق. وقد ” روى الدارمي بسند حسن عن ميسرة أبي صالح مولى كندة، أحد التابعين أنه قال: ” إنّ الله لم يمسّ شيئا من خلقه غير ثلاث: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده”.( موقع “الإسلام سؤال وجواب”). ولقد اكتسبت يد الإنسان هذه القدرة على تصوير “الذوات البشريّة” فنّا ونفخ روح الخيال فيها، فكان ذلك ” مَسيسا” كما في فنون النّحت والتّشكيل، وتصويرا كما في السينما، وتخيلا في الكتابة الإبداعية بمختلف أجناسها. والكتابة مجال حيوي ليُمارس الإنسان الأعمال الإلهية المذكورة آنفا في حدوده البشريّة، فهو يخلق الشّخصية ويكتب نصّ حياتها ويغرس جنتها الطبيعية بالأثمار والأشواك والطفيليّات وغيرها من بنات الأرض، ويفرض عليها الأقدار التي سطّرها له من البداية ما لم تتمرّد عليه شخصيّات نصّه فتحمله على تعديل هذا “القضاء والقدر” المسّلط عليهما من خالقه/ الكاتب. في المجموعة القصصية “يدك لا تعرفني” تحضر اليد بكثافة وبأشكال عدّة، سواء في بعدها الخلاّق مانح الحياة كالكتابة والمصافحة او في بعدها القاتل مادّيا ورمزيّا، مقتحمة مجال القصّ بين الظّهور العلنيّ والتخفيّ خلف أعمالها وآثارها المتنوّعة، وهو ما سنحاول تقصّي بعض جوانبه في هذه القصص.
صدرت المجموعة للكاتب أحمد بن إبراهيم عن دار “المنتدى للنشر” التي يديرها الشاعر التونسي كمال حمدي في طبعتها الأولى سنة 2021، وهي الثالثة في رصيده الإبداعيّ بعد المجموعتين “وسقط ظلّي على الرّمل” و” لم ير وقع خطاه”، وقدّمت لها الإعلاميّة والكاتبة وحيدة الميّ. تقع في خمس وثلاثين صفحة بعد المائة (135 صفحة) من الحجم المتوسّط. وتضمّ عشر قصص، منحت أولاها عنوانها للمجموعة ككلّ.
يوظّف أحمد بن إبراهيم المجاز ليعلي من شأن اليد وأفعالها حتى تصير هي الذّات العاقلة القادرة على اكتساب المعرفة عبر التجربة أو فقدانها جهلا بطرق اكتسابها أو انحرافا في تجاربها الحياتيّة. إن اليد في هذه القصص ذات سلطة غالبا ما كانت مستبدّة، فهي يد ذات سلطة أبويّة في قصّة “يدك لا تعرفني”، وذكوريّة كما في قصّة “للمطر لون واحد” وثقافيّة في “شاعر ونصف” وسياسيّة في “قلم ورغيف”. وهي إلى ذلك يد تعرف وتجهل وتمارس “القوادة”، وترفع شخصا وتخفض الآخر، وتقتل فعليّا ورمزيّا لتخرج بهذا وغيره عن كونها عضوا في الجسد تتعلّق به جملة من الوظائف الحسيّة والحركيّة لدى عامّة النّاس والإبداعيّة لدى فئة مخصوصة منهم لتصبح ذاتا فاعلة على نحو مؤثّر، و”جهازا سلطويّا” قادرا على تغير مصير الأفراد في مجتمع القصّ كما في مجتمع النّاس الحقيقيّ سواء نحو الأفضل أو باتجاه النّفي والهدم.
ولئن كان “للمطر لون واحد” فإن اليد هي التي لوّنته على الأرض بدم الصبيّة عائشة ذات التسعة عشر ربيعا التي زوّجها والدها لرجل متزوّج على شريعة ” نعم وأنت الغنيّ لك الحقّ في الزّواج بأربع نساء”، وبارك ذلك “أحد الشيوخ الذين أبرموا عقد زواجها” (ص24). فكان ذلك قتلا رمزّيا بطيئا غير رحيم، غذ ستعود الزوّجة الشّابة إلى منزل والديها محطّمة القلب والمستقبل، مثقلة الحجر بطفل. واليد أيضا هي التي قتلت أختها الصّغرى إيمان في جنح الظّلام والغموض، تلك الشابّة الثّائرة التي قادت ثورة العمّال على صاحب المصنع ليجدها زملاؤها من الغد” في ركن مظلم من المخزن مدفونة تحت أعمدة الخشب”، فتروّج يد أخرى، قد تكون بلون السلّطة الحاكمة أو المتحكّمة تحت جنح الخفاء، في أجهزة الدوّلة “إشاعة تقول إنّها انتحرت” ( ص30).
“للمطر لون” واحد ولليد لونان على الأقل في هذه المجموعة. فهي كالوحش “خضراء لا أعرفها ولكنّي أراها تتصيّدني”، تقول الساردة ( ص10) وهي كالعطاء يتبعه المنّ والأذى، بيضاء تنعم بأفضالها على “غير مستحقيها” ممّن تتصيّدهم في الوسط الثقافيّ خاصة. يقول السارد في قصّة “شاعر ونصف: ” كانت الفتاة منقوعة في عطر شبقيّ عبث بي كاحمرار شفتيها وبياض جسدها “المتنمّر”، فقد كان كالمتسوّل في لباسه الرثّ(..) هو يكتب العموديّ. بينما هي متعثّرة في قصيدة النّثر رغم أيادي “القوّادين” التي تنتشلها كلّما أدركها السّقوط.” (ص111). أمّا أعمال اليد فهي كثيرة.
ينفي العنوان “يدك لا تعرفني ” ( القصّة ص9) صفة المعرفة عن يد المُخاطب المذكّر في علاقتها بأنا الساردة : “والدي يد لا تعرفني” (ص 10) بما يُحيل على مكاشفة مباشرة وصريحة جرت بين البنت وأبيها في مرحلة ما من القصّة قد تكون سابقة لزمن الكتابة أو لاحقة له. بينما نشهد “محادثة” بين الشابّة والطّريق فتقول مخاطبة إيّاه من خلا مقطع من دورها في المسرحية التي تشتغل عليها: ” لقد صافحتك كثيرا وبحبّ كبير. أنت لا تعرف يدي أيّها الطّريق.” ( 9). لكن جهل اليد ليس مطلقا سواء تعلّق الأمر بالأب أو بالطّريق أو بغيرهما من الأيادي. فيد الأب التي لا تعرف الإحسان إلى أفراد أسرتها تعرف جيّدا الصّفع والإساءة:” نسيت كم صفعتني من مرّة منذ صغري، وكم مرّة أحسنت إلى أمّي وأخي”( 16). وكما تعرف يد “العاهرة” كيف تسرق كاميرا الّسارد تعرف يد عون الأمن المرتشية طريقها إلى يد هذا ” المثقف” الرّاشي/ السارد نفسه عن طواعية وتعوّد كما يجري به الحال في تونس في قصّة “فاصل ثمّ..” إذ يقول: “نزلت واتّجهت مباشرة لعون المرور ودسست بكفه عشرين دينارا. وفي الحين ملأ المكان بدويّ صفّارته وقام برقصته اللولبيّة فانفتح مسرب انطلقت منه هاربا” ( ص42-43).
ومن المثير للانتباه في هذه المجموعة، أنّ الكاتب قد خرج عن نمطّية الشّخصيات التي تناولها في مجموعتيه السّالفتين، حيث كان مجتمعه القصصي يتجوّل غالبا في الأزقة الخلفيّة للمجتمع المهمّش، والبؤر المظلمة من الوطن التي لا تراها عين الدوّلة التونسيّة لنشهد تنوّعا في نمط الشّخصيات واختلافها فكرّيا وثقافيّا وطبقيّا وإيديولوجيّا، مقتحما بشكل لافت مجال الحياة الثقافية ومجتمع النّخبة حيث تلألأ الصّور وتصطفّ الكراسي الفارغة في أغلبها في الأماكن المغلقة التي يعيرها عامّة اهتمامهم. ومن بين عشر قصص انبثقت ستّ منها من “مجتمع المثقّفين” في تونس. في قصّة” يدك لا تعرفني، تتمرّد الفتاة على أبيها الذي أرادها غصبا أن تدرس الطّب لتلحق بدراسة الفنّ المسرحيّ تعبيرا عن إرادتها الحرّة متحدّية إيّاه: “سأواصل دراسة الفنّ المسرحي وإن قضيت عمري عند خالتي متشرّدة..” (ص12)، معلنة ثورتها ” أنا.. اخترت طريقي.. “( ص16). وتدور قصّة “على أطراف حلم” حول مصّور سينمائيّ يدخل حيّا شعبيّا لتصوير فيلم وثائقيّ عنه وعن أهله، أمّا الشّخصيات الكاتبة فقد توزّعت على أربع قصص هي “نوّارة “، و” شاعر ونصف”، و” فاصل ثمّ” و ” قلم ورغيف” وفيها يمرّر الكاتب من خلال الشّخصيّات نقده لمظاهر الفساد الذي ينخر الساحة الثقافية، وغلبة العلاقات الشّخصية في إقامة التظّاهرات الأدبيّة وحفلات التّوقيع وعدم اعتماد جودة النصّ في تقديم الكتّاب والكتب شعرا وسردا، ويتجلّى ذلك بشكل واضح في قصّة ” شاعر ونصف”. غير أنّ الكتابة في هذه المجموعة لا تتمثّل في منتجها الإبداعيّ بمعزل عن الموقف النّقديّ منها، إذ تطرّق الكاتب إلى نوع آخر من “حملة القلم” أشدّ خطورة من هؤلاء الكتّاب، إنّهم “الشيوخ الذين دوّنوا عقد زواج عائشة ” دون رضاها لتكون الزوجة الثانية، في قصّة “للمطر لون واحد”، فـ ” يتألّم القلم بين يديها المتعاركتين” بينما يحاصرها الشّيخان بصوت واحد “وقّعي هنا”.
يواظب الكاتب التونسيّ أحمد بن إبراهيم على كتابة القصّة والقصّة القصيرة جدّا ويثري تجربته تلك بالقراءة والكتابة النّقدية عن بعض قراءاته مثابرا، وهو الكاتب العصاميّ، على تطوير آليات الكتابة لديه فنّيّا وجماليّا مطوّرا تقنيات الكتابة، منوّعا المضامين المطروقة، وأنماط الشّخصيات وخلفياتها الفكرية والثقافية والاجتماعيّة، مجدّدا الرؤى الفكرية والجمالية التي يريد ربط الصلة الجميلة بها مع قرّائه. ومن يتقصّى تجربة أحمد بن إبراهيم القصصيّة يُدرك مدى ما تستطيعه القراءة الجديّة والانكباب على تطوير الذات وقدراتها الإبداعية على تحسين جودة النصّ ورفع مستوى الكتابة الإبداعيّة ويستشعر الحاجة إلى حركة نقدية تواكب المنجز الإبداعي التونسيّ الغزير كمّا، والمتفاوت كيْفا.
……………..
*كاتبة من تونس