حلاوة

عزيز ستراوي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

عزيز ستراوي

منذ قليل واْنا اتابع تلك النحلة وهي تصارع الغرق في كاْس الشاي. تتخبط. تحاول جاهدة اْن تتعلق بورقة النعناع، وما إن تستقر على سطحها لاهثة مبلولة حتى تبداْ رحلة الصعود، لكن ملمس الزجاج زلق يخذلها. تتعثر فتسقط من جديد في قعر الكاس.

اْجدني مثل تلك النحلة غارقا تماما في مصيبتي. منطرحا في سرير المستشفى كحزمة من المتلاشيات، ولا اْظن باْنني ساْقف يوما على رجلي. جسدي مهدود عن آخره وضلوعي محطمة. ويا ويلي لما نظرت إلى المرآة اْول مرة. صعقت. ترحمت على نفسي، وقلت انتهيت، اْلفيت راْسي معصوبا بضمادة مبقعة بالبيتادين، ووجهي متورما ممتلئا بالكدمات، واثنتين من اْسناني الامامية السفلى منخلعتين، وثمة اعوجاج في عظمة انفي. ذلك الممرض الطيب الذي طلب لي كاْس الشاي، واْعطاني المرآة واْعارني هاتفه النقال واساني، وصبرني. قال باْني سأتعافى إن شاء الله. إنها مسألة وقت.

لكن اْين هو ذلك المحيا الجميل الذي كان مفخر طلعتي؟ وماذا ستقول أحلام خطيبتي عندما تراني؟ هل ستتعرف علي؟ تراها كيف استقبلت الخبر؟ أتخيلها وقد قفزت من وراء مكتبها مرعوبة. طرحت ما في يدها من ملفات. اْخذت في الحين اذنا من مشغلها. وبسرعة خرجت إلى الشارع، ونادت على عربة طاكسي. لعلها الآن في طريقها إلى المستشفى لتراني وتطمئن علي. آه. لاا ْريد اْن أرى هول الكارثة على وجهها. اْبدا لن أتحمل بكاءها اْمامي، ذلك سيزيدني اْلما وتعاسة. اْما عن زواجنا، لا بأس، سنؤجله الى وقت لاحق.

 اللعنة. هل كان علي أن أذهب إلى تلك الغابة للتريض؟ كم اْشعر بالشماتة والغبن لأن هؤلاء المجرمين الثلاثة اْفلتوا من المتابعة، وهربوا بعد اْن بطبطوني، ومسخوا خلقتي، وانتزعوا مني هاتفي النقال، وجزمتي الرياضية الجديدة. هل كان علي اْن أواجههم واْمثل اْمامهم دور بطل سينمائي قوي الشكيمة لا يقهر. كم كنت سخيفا. بليدا ومتهورا! كفى- قلت. المشاعر السلبية تضر بصحتي. اْحس وكاْن حفنة من الألغام مزروعة تحت ضلوعي وبين مفاصلي. ولن اْجني غير اْوجاعها الناسفة إن اْنا حركتها بالمنغصات والذكريات الأليمة. راحة البال لن اْجدها إلا عند أحلام. هي ترياقي وبلسمي، ووسادتي التي ساْريح عليها راْسي، واْطلق العنان للحظات الجميلة التي قضيناها معا. نعم. أتذكر حين جلست لأول مرة اْمام مكتبها لشراء شقة في السكن الاقتصادي. فتنت بها. واه! صبية شهية تشتعل شبابا. وجهها طفولي، ونظراتها حالمة. ولا اْذكر كم مرة زرتها في مكتبها. اْعترف باني سلمتها مفاتيح قلبي قبل اْن تسلمني مفاتيح الشقة. على يدها ذقت مباهج الحياة وحلاوتها. لذائذ الفراش. مآكل ومشارب في اْرقى مطاعم المدينة. جولات في اْجمل المنتزهات. اْسفار. ومشتريات، وحفلات راقصة. ولعل الغد يعد بالمزيد من المسرات. يا له من استرخاء لذيذ أشعر به الآن يدب في ضلوعي واْنا ازدرد هذه الذكريات، انطبقت جفوني، واستسلمت لإغفاءة انحدرت بي بدورها نحو نوم عميق. راْيت فيما يرى النائم قميصا يتهادى على حبل الغسيل. ويتمطى مزهوا بكميه الطويلين وكأنه يعانق أضواء الشمس… في لحظة ما بدا لي وكاْن الشمس تغيم. تهب ريح قوية محملة بالاْمطار. ينتفض القميص. عبثا يريد اْن ينعتق من الحبل. اْن يطير. لكنه ظل عالقا به. اْمام عيني اْراه يرتجف. يتبلل بالدم، ويتمزق تحت وميض برق خاطف… يا للهول! إنه قميصي الرياضي الأبيض الذي كنت اْرتديه ساعة الحادث، وصحوت. الاْوجاع تتفجر في كل منطقة من جسدي، وتلك الدوخة اللعينة تعاودني من جديد، لكنني وطنت نفسي، كبحت أنين اْوجاعي، وحرصت على اْن اْبقى صاحيا، فالقاعة بداْت تمتلئ بالزوار واْحلام يمكن اْن تحضر في اْية لحظة. مر الوقت بطيئا، وقد اْتى من اْتى، وغادر من غادر، بل حتى تلك النحلة السجينة التي اْغوتها حلاوة الكاس. شمرت عن جناحيها وطارت، واْنا المنبوذ التعس بقيت غارقا في قعر السرير اْتجرع مرارة الانتظار. خلت القاعة من الزوار ولم تأت أحلام. لا في هذا اليوم ولا في يوم الغد ولا بعده، ويا لخيبتي! لم تكن ترد على مكالماتي، بل ولم تفلح تلك الصور الكارثية التي أرسلتها لها عن طريق الواتساب اْن تستدر شفقتها. بداْت الشكوك تلتف حولي و تنهشني وقلت : ربما هي فرصتها لتفسخ خطوبتنا. اْجل لم اْعد املاْ عينيها. كيف لها اْن ترتبط برجل كله اْعطاب، لا يناسب ذوقها وسنها، واْن راتبه الشهري لم يعد يلبي احتياجاتها التي لاتنتهي لكن في تلك الصبيحة لما كنت غافيا اْجتر يأسي ووحدتي. شعرت بقبلة دامعة تنطبع على خدي، وبيد ناعمة دافئة تتمسح بشعري، وتأخذ يدي تقبلها وتبقيها في حضن يدها. أحلام! أحلام! ومن يكون غيرها؟ انفتحت عيناي. وجدتها جالسة على حافة سريري تمسح دمعة انزلقت على خدها. وديعة كعادتها. جميلة في حزنها وشيخوختها: انها امي. ترى من اْخبرها بوجودي في المستشفى؟ خجلت من نفسي. كيف اْجرؤ الان على النظر في وجهها واْنا الذي طردتها بلطف من مسكني الجديد، اْذكر انها لم تحزن، و لم تصرخ في وجهي. اْذعنت لطلبي وانسحبت بهدوء لتستقر مع اْختها الاْرملة في منزل اْسرتها. كانت تلك رغبة أحلام. تريدني لوحدها اْن تستأثر بي، واْنت تكون هي سيدة المنزل. واْنا في حضرة اْمي مشمول بطيبتها وعطفها ورضاها. اْعترف باْنني شعرت بالحنين الى أحلام. حنين لا اْعرف مصدره، ولا كيف اْداريه. ما فتئ يتاْجج في داخلي، ويكويني كيات متوالية. لكن فوجئت في تلك اللحظة وكاْن يدا تشدني من خناقي، وتهزني هزات قوية، وبصوت غاضب يصرخ في اْعماقي : – اْلم تستح أيها المسخوط. ياناكراْمه. الصبية لعبت بك حتى شبعت منك، ورمتك في طاحونة الاقتراض، وفي اْول فرصة تخلصت منك، وكاْنك ضرطة كريهة، وتقول الان باْنك تحن اليها… والله انك تستحق شر قتلة… الاْوجاع! الاْوجاع! داهمتني هذه المرة بشراسة، وتلك الدوخة عصفت بي وكأنها إعصار ولم اْتردد. بصقت في داخلي بصقة كبيرة. بصقت على حقارتي وضعفي ومذلتي.

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب