جيفري بيلو
ترجمة: نبراس الحديدي
في 27 يوليو من عام 1890، بدأ فينسنت فان غوخ يومه كالمعتاد. عقب تناول وجبة الإفطار في نُزُل أوبيرج رافو، انطلق رسام ما بعد الانطباعية الهولندي إلى حقول القمح ليرسم بحرية.
كان فينسنت رجلاً متمسكاً بروتينه الثابت، ولمـّا تخلف عن الحضور إلى النزل لتناول الغداء أو العشاء، اشتد قلق الأسرة المستضيفة له.
لم يمضِ وقت طويل، حتى عاد فان غوخ في تمام الساعة 9 مساء، يقبض على بطنه متألماً، وشق طريقه إلى غرفته في النزل مطلقاً أنّات استرعت انتباه والد «أديلين رافو» الصغيرة. فاعترف فينسنت للرجل: «حاولت أن أقتل نفسي».
لم تكن محاولة الانتحار كافية لقتل فينسنت فان غوخ على الفور. مرت ثلاثون ساعة قبل أن يفارق الحياة إثر جرح الرصاصة.
تلقى شقيقه ثيو برقية مفجعة، فهرع إلى جانبه ولم يفارقه حتى أسلم الروح، يوم الإثنين الموافق 29 يوليو 1890، إثر غيبوبة مفاجئة أصابته.
قبل رحيله عن الدنيا بأيام قليلة، خطّ فان غوخ رسالة مؤثرة لوالديه يبوح فيها:
أشعر بانغماس تام وسط تلك السهول الشاسعة المغطاة بحقول القمح الممتدة حتى قمم التلال، كأنها محيط بلا نهاية، تتلألأ باللون الأصفر الخفيف، والأخضر الندي، والأرجواني الفاتن لشريحة أرض مائلة ومتشابكة، بتصميم متجانس من الأخضر المشع لنباتات البطاطس المزهرة، حيث يقبع كل شيء تحت سماء مزخرفة بألوان رقيقة من الأزرق والأبيض والوردي والبنفسجي. أنا في حالة من الراحة المفرطة، بقدر ما يحتاج رسام ليرسم هذا المشهد الساحر.
بخلاف النبرة الإيجابية التي اتسمت بها رسالته إلى والديه، كتب فينسنت رسالة إلى شقيقه ثيو قبل يومين، مفضياً إليه:
أحاول أن أكون مرحاً إلى حد معقول عموماً، لكن حياتي توشك على الانهيار وخطوتي متزعزعة أيضاً… [هناك] مساحات شاسعة من القمح تحت سماء مضطربة، ولم يكن عليّ الانحراف كثيراً عن مساري لمحاولة التعبير عن الحزن والوحدة الشديدة… لنفسي، لا يسعني إلا أن أقول في هذه اللحظة أننا جميعاً بتصوري نحتاج إلى الراحة… والأفق يصبح أكثر قتامة. لا أرى مستقبلاً سعيداً على الإطلاق.
كان ذاك التصريح، بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة.
لم يذق فان غوخ طعم النجاح خلال حياته. انتهى حلمه بالخدمة المسيحية قبل أن يبدأ، بعدما فشل في اجتياز امتحان القبول لبدء تدريبه اللاهوتي؛ فانطلق في رحلة الدعوة والتبشير حول العالم.
بالرغم من الفشل الذي طوّقه، لم يتخلّ فينسنت فان غوخ عن حلمه بأن يصبح فناناً، بل استجاب لصرخة روحه الفنية، وبتحفيز من أخيه ثيو الذي سانده وحثه على الرسم، أبدع خلال عقد من الزمن بين عام 1880 وعام 1890 ما يفوق 850 لوحة.
وحين بلغ السابعة والثلاثين من عمره، خرج فان غوخ إلى حقول القمح التي شهدت ولادة العديد من لوحاته، ووجه مسدساً إلى بطنه ليطلق الزناد في محاولة انتحار ظن بعد ساعات من تنفيذها أنها باءت بالفشل – إلا أن المحاولة كانت ناجحة في نهاية المطاف.
لنعد بالزمن إلى سبع سنوات مضت. في رسالة مؤرخة بتاريخ 7 أغسطس 1883، كتب فينسنت إلى شقيقه ثيو يخبره:
لا أنوي أن أرفق بنفسي، أو أتجنب الكثير من العواطف والمصاعب. فلا يهمني إن عشت زمناً طويلاً أم قصيراً. كما أنني لست مؤهلاً للعناية بصحتي الجسدية كما يفعل الطبيب في هذه الناحية. لكن لدي هدف وحيد – «عليّ إنهاء عمل محدد في غضون سنوات قليلة» – لا داعي للاندفاع، فهذا لن يجدي نفعاً – ولكن عليّ أن أواصل العمل بهدوء وسكينة، بثبات وانغماس قدر المستطاع. إن اهتمامي بالعالم يقتصر على أن لدي واجباً والتزاماً مؤكداً – لأنني عشت على هذه الأرض ثلاثين سنة – بترك ذكرى جميلة من رسوماتي ولوحاتي تعبيراً عن امتناني. لم أفعل ذلك لإرضاء ذوق فني معين، بل لأعبر عن شعور إنساني خالص.
هذا هو الهدف من الفن. لا الشهرة أو المال، بل التعبير عن شعور إنساني أصيل. ولعل فينسنت فان غوخ جسّد هذا الأمر أفضل من أي شخص آخر. ندرك ذلك عن طريق فنه الذي لم يلقَ تقديراً في حياته، ومن خلال رسائله الحميمة إلى أكبر محب وداعم له، شقيقه ثيو.
……………………………………
جيفري بيلو: هو شاعر أمريكي وكاتب قصص قصيرة ومذكرات. نشأ في بلدة صغيرة تدعى فينيكس في ولاية فيرجينيا، عدد سكانها 200 نسمة، ويعيش الآن في شارلوتسفيل مع زوجته وطفليه وكلب يدعى موزاريلا تشيز. تخرج من جامعة فيرجينيا. نُشرت كتاباته المتنوعة في مجلات شهيرة عدة، مثل: مجلة نيويورك تايمز، ومجلة واشنطن بوست.
فينسنت فان غوخ: وفقاً لمصادر مختلفة، رسم فينسنت فان غوخ أكثر من 2100 عمل فني، منها حوالي 900 لوحة زيتية وأكثر من 1100 رسمة ورسم تخطيطي وغيرها. بعض لوحاته الآن تعد من أغلى اللوحات في العالم؛ فقد بيعت لوحة «Irises» بمبلغ قياسي قدره 53,9 مليون دولار، وبيعت لوحة «Portrait of Dr. Gachet» بمبلغ 82,5 مليون دولار. لا يعرف أحد بالتأكيد كم عدد اللوحات التي باعها فان غوخ في حياته، ولكن يُقال إنه باع لوحة واحدة فقط، وهي «كروم العنب الحمراء في آرل»، التي اشترتها الرسامة وجامعة الفن «آنا بوش» بمبلغ 400 فرنك.