د. سعد مصلوح: التكامل هو طبيعةُ المعرفة.. ومُتابعةُ المنجَز الإنساني من فروضِ الكفايات

سعد مصلوح
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاوره: صبري الموجي

كتبَ في سِنيه الأولي مقالا عرَّض فيه بثورة يوليو، فأشارتْ أصابعُ الاتهام إلي والده الشيخ عبد العزيز مصلوح، ولكنَّ براعته في النَّسج علي منواله، خلَّصتْ الأبَ من غيابات السجن.

ولد بالمنيا، فتلقي دروسَه الأولي، ومنها إلي دار العلوم، وابتُعث إلي موسكو لينال درجة الدكتوراه في اللسانيات. حَفِظته أصالتُه – رغم معيشته ردحا في معاقل الشيوعية والماركسية – من أن يجرفه تيارُ المدِّ الشيوعي. درس اللغةَ، وشغفَ بالشعر، وحذق فنَّ الترجمة، وتنقل بين الجامعات المصرية والعربية والعالمية، يُدرِس مبادئ وأسس العربية الصافية.

صنف مؤلفاتٍ، امتازتْ بالعمق والرصانة والإخلاص للفكرة منها: ( الشاعر والكلمة، ومدخل إلي التصوير الطَّيفي للكلام، والمسلمون بين المطرقة والسندان، وفي النقد اللساني.. دراسات ومُثاقفات في مسائل الخلاف، وكذلك.. في نظرية الترجمة اتجاهات معاصرة، ونال عنه جائزة الشيخ زايد للكتاب 2009 م.. مع اللغوي الكبير أ. د سعد مصلوح يدور هذا الحوار.

القارئ لك يحارُ في تصنيفك.. فأنت الشاعرُ والكاتب واللغوي والأديب.. فلأي الأوصاف تأنس؟

التصنيف ليس مهما بالنسبة للمُشتغِل بالعلم، والعمل الفكري، والتكامل هو طبيعة المعرفة، المهم أن تخدم الهمومُ الفكرية بعضها بعضا، وأن يكون المنتجُ رصينا ومفيدا سواء شعرا أو نثرا.

قطعا وراء هذه المواهب الجمَّة بدايات نودُ معرفتها؟

البدايات هي أساسُ التكوين، وهي الفجرُ الصادق، الذي يعقُبه الجلاءُ، والوضوح، فكان من نعمة الله عليَّ أن قيض الله لي نشأة متميزة برعاية والد مُثقف، وشاعرٍ متمكن، ومُناضل سياسي ومترجم، فتولاني بحفظ القرآن الكريم، ودواوين أعلام الشعر العربي، وشجعني علي نشر كتاباتي الأولي، ومن يومها لم أعرف لي اشتغالا إلا بالعربية وثقافتها وتراثها.

رغم تقدم السن ما زلت شغوفا بالبحث والمطالعة والدهشة العلمية.. فماذا تمثلُ الدهشة بالنسبة للباحث؟

لا يُمكن لمن لا يتمتع بنعمة الدهشة أن يكون باحثا أو شاعرا، أو روائيا، فالدهشةُ نعمةٌ كبيرة، ولاسيما إذا تهيأتْ لك القدرةُ علي أن تدهش مما لا يدهش منه غيرُك، وهنا أقول إنَّ قوام العلم أمران: الدهشة والسؤال.

قلتَ إنَّ مكانة ” اللسانيات” في العلم المُعاصِر كمكانة الفلسفة في العلوم القديمة.. نود توضيح ذلك؟

هناك إجماعٌ عند المتقدمين علي أن الفلسفة أمُّ العلوم، وقد مضي قرابة قرن علي نشأة اللسانيات المُعاصرة؛ لتكون اللغة من حيث بنيتها ووظيفتها، وعلاقتها بالفكر الإنساني هي موضوعها، ومجالَ اهتمامها، واللغةُ نفسها هي وعاء المعرفة، وأداة الإبداع؛ لذلك أصبح لكل تقدمٍ وإنجاز في مجال اللسانيات أثره المباشر في سائر العلوم الإنسانية والعكس صحيح.

حرَص بعضُ المبدعين علي التضفير بين الفصحي والعامية.. فما هو رأيكم في مسألة “الازدواج اللغوي”، وهل تراه ظاهرة صحية أم هو تعد سافر علي لغة الضاد؟

“الازدواج اللغوي” أو تعدد مستويات الاستعمال اللغوي قدرٌ مُصلتٌ علي كل اللغات، واللغة العربية ليست بدعا في ذلك، وهو – أقصد الازدواج – مُصاحبٌ للغة في جميع تجلياتها الزمانية والمكانية، لكن يبقي المستوي الفصيح هو الممثلَ لهوية الثقافة العربية المشتركة بين جميع المُتكلمين بها، وهو العروةُ الوثقي التي تصلُنا بالماضي والهوية، والطريف أنَّ حتي أشد المُغالين في الدعوة إلي العامية عبَّروا عن آرائهم بالمستوي الفصيح، وقد تورط في ذلك مشاهيرٌ من أصحاب الدعوة إلى القومية المصرية والعامية منهم أحمد لطفي السيد ومحمد تيمور وسلامة موسى وغيرهم.

لم تسر في شعرك حيثما اتفق بل كتبتَ في (القوافي النُّفر).. فهل شعر مصلوح استجابةٌ لربة الشعر أم لغرض تعليمي؟

أنا مفتونٌ بالقافية العربية إبداعا وتأملا ودرسا، وقد كانت موضوعَ بحثي للدكتوراه؛ إذ درستُ “الأسس الفيزيائية للقافية العربية”، وأحسب أن عبقرية الشعر، وإدهاشَه مرجعه إلي القافية، كما أري أن “القوافي النُّفر”، وهي قليلة الشيوع أو النادرة، هي التحدي الفاتن للشاعرية، فإذا رأيتَ شاعرًا يُبدعُ قافية نافرة، ولم تشعر بأنها نافرة فهذا هو الشاعرُ الحق.

دائما تُفضلُ الطُرق الوعرة حتي في رحلتك للبحث فرغم حرص الباحثين علي أن يُيمموا وجوههم نحو الغرب اتجهتَ نحو الشرق.. سبب ذلك وبماذا عُدت أدراجك؟

ثمة شعارٌ أخذتُ به نفسي، وأدعو إليه رفاقي في مجالات البحث، وهو ” اكتبْ ما لم يكتبه غيرُك، وما لا يكتبه غيرُك”، وهذا هو جوهرُ الإضافة، التي تُحسَب للباحث، ويتضمن هذا الشعار بالضرورة: روح المغامرة العلمية، وركوبَ الطريق الوعرة؛ لأن السَّير في الطريق المُمهد المأنوس لا يُزينه للباحث إلا الكسلُ العقلي، واستعجالُ الثمرة، ولا يخلف وراءه إلا حصاد الهشيم !

في عملك خضتَ غمار الحرب بين الأصالة والمعاصرة.. فهل ترفض الحداثة كلية؟

رفضُ الحداثة بالكلية لا يكون إلا لأمور أهمها ضعفُ الثقة بالتراث، وانبهارُ المغلوب بمنجَز الغالب، وتعطيلُ ملكة النقد.

وأنا أري أنَّ ” المتابعة البصيرة ” للمُنجَز الإنساني أيا كان مكانُه من فروض الكفايات، وهو واجبٌ علي من استطاع إليه سبيلا، والمتابعةُ لا تعني أبدا التبعية، فالانفتاح على كلِّ جديد ضرورة حتمية لتنمية الفكر وتجديده، وليس لإحداث قطيعة معرفية مع التراث أو الهوية.

قلتَ إن الأدب فن ولكن دراسته علم.. ألا تري أن ذلك التقعيد يخنق الإبداع؟

عبارة “الأدب فنٌ ولكنَّ دراسته ينبغي أن تكون علما” هي عقيدتي العلمية التي أؤمن بها، ولقد ضمنتُها بعضَ كتبي منذ ما يقارب نصف القرن، ورأيي أن القراءة بهدف الاستمتاع غيرُ القراءة بنيَّة الدرس والنقد والتحليل، وهذا أمرٌ لا شأن له بالإبداع الأدبي، وفرقٌ بين عمل المنشئ، وعمل الباحث، كما أن عمل الباحث إبداع أيضا، ولكنه إبداعٌ علمي، فالتقعيد هو تعبيدٌ لطرق الإبداع، وليس حجرَ عثره في طريقه.

عملتَ أكاديميا في العديد من الجامعات.. تقييمك للمشهد التعليمي واللغوي وبخبرتك هل تري أهلية الفصحي للاستخدام في تدريس العلوم الحديثة؟

أكاد أكون علي يقين من أن جودة التعليم في مراحله المُختلفة ليست موضعَ العناية الواجبة من السياسيين في بلاد العرب، مع أنه في عالمنا المعاصر ليس شرطَ تقدم فقط، بل شرط وجود، وأعتقد أن العربيةَ تتمتع بالكفاية مبني وتاريخا للقيام بالعلوم الحديثة درسا وتدريسا، لكنَّ المطلوب هو السياسة الرشيدة، والعزمةُ الصادقة والعمل الدءوب.

 

مقالات من نفس القسم