عامر خ مراد
(كان أبي …..)
المشهد الأول:
(الفضاء المسرحي ملبد بإضاءة رمادية اللون، داكنة تنذر بمطر قريب، يدخل رجل أعرج، عجوز المسرح وهو يتكئ على عكاز ما هو إلا عصا ما زال يشذبها، وفي يده الأخرى سكين للتشذيب، يجلس الرجل في زاوية المسرح حيث قطعة سجاد ووسادة)
(بقعة ضوء)
العجوز (وهو يشذب عصاه): آه آه! كم عصا أخرى سأقوم بتشذيبها قبل أن أموت؟ ليتني أدرك فقط انكسار هذه العصا التي بين لدي فقط، فلقد رأيت انكسارات كثيرة.
(يرفع العجوز رأسه باتجاه الجمهور ويقوم متكئ على العصا ويتابع): نعم انكسارات كثيرة ههههههه، انكسارات في الحياة وانكسارات عصي كثيرة، لم أعد أعرف كم عددها لأن كل عصا تمل من حملي بعد حين وتنكسر، أو تتظاهر بالانكسار أحيانا ههههه، نعم تتظاهر بالانكسار فيظهر تشقق من هذه الزاوية أو تلك، أو تلوى العصا قليلا، لتجبرني على البحث عن عصا أخرى تحمل جسدي المنهك.
(يعود العجوز لمكان جلوسه الأول ويجلس، ويقول وهو يشذب عصاه بقوة وغضب ): ولكن للأسف فلم تكن انكساراتي فقط في العصي بل أمام القدر الذي ما كف عن عدائه لي قط.
(يدخل طفل صغير في حدود سن الخامسة من العمر بملابس بسيطة نظيفة )
الصغير: أبي أبي هاهو صديقك أمين لقد احتلت عليه وقلت له وهو قادم من عمله بأنك تريده في أمر هام ههه.
الأب: ههه ولما ذلك يا بني؟
الصغير: لأنني أحب أن تجلسا سوية وأسمع منكما بعض الأحاديث، أستمتع بأحاديثكما.
(يدخل أمين قوي البنية والأصغر سنا من الرجل العجوز)
أمين: مرحبا، لقد أخبرني الصغير بأنك تطلبني لأمر ما؟
الأب: إنها مجرد حركة شقية من الصغير يا أمين ههه، إنه يهوى مجالستك كما أنا، فلقد اعتاد عليك صديقي، هيا تعال واجلس.
أمين ( ممازحا الطفل ): آه أيها الشقي!
(يضحك الرجلان وفجأة ينظران بحزن للصغير الذي يتوجه للجلوس بجوارهم)
(تطفأ الأضواء)
المشهد 2
(تسلط الإضاءة من جديد على الرجل المسن وهو يحاول قياس عصىا أخرى ليقطعها بما يتناسب مع ارتفاع يده عن الأرض)
العجوز: من هنا لتكن أقصر قليلا، (يرفع رأسه مرة أخرى للجمهور) مات الصغير وهو في الخامسة من عمره (يستلقي العجوز على السجادة وينظر للسماء ) ترى هل أنا السبب في موت أطفالي؟ إنه الطفل السابع الذي أفقده منذ أن تزوجت من ابنة عمتي، لم أعد احتمل.
(تدخل امرأة مسنة تقترب من العجوز)
المرأة العجوز: تستطيع وأنت تخرج من المنزل للعمل أن تنسى شيئا من همك ولكن ( ترفع نبرتها الحزينة الباكية) ماذا أفعل أنا؟ أصبح وأمسي على رؤية أماكن لعبهم وملابسهم وأواني شربهم وأصوات ضحكاتهم، لا أستطيع الجلوس لحظة في مكان واحد لأن كل مكان من هذه الأمكنة تفوح منه رائحة طفل من أطفالي، ( تتنقل بين الأمكنة بسرعة مشيرة لها ) هنا كنت أداعب الأول وهو يداعب شعري يضحك أعض مازحة يده الغضة وبعد سنتين يموت، وهنا كنت أرضع الثاني أمزق صدري ليأكل المزيد والمزيد و المزيد ليقوى عله يبقى على قيد الحياة ولكن هذه الصدر لم تبقه على قيد الحياة ( تضرب صدرها بقوة ) وهنا كنت ألبس الثالث أجمل ما كنت قد اشتريته له فرغم فقرنا لم تبخل على أي منهم باللبس الجميل، كان يفرح وأنا أساعده في ارتداء ملابسه، يرغب في الذهاب مسرعا للعب مع أصدقاءه الذين تعودوا أن يروا من هذه الدار ولادة طفل وموته بعد سنين، نعم هنا كنت أروي قصة جميلة للرابع كانت نهايتها خلود البطل إلى آخر الزمان لم يكن أبطال قصصي التي أرويها لأطفالي يموتون أبدا، فقط أبنائي من كانوا يموتون قبل أن أكمل لبعضهم القصة ويدركوا مغزاها، أما الخامس فكانت فتاة، نعم فتاة تخيلت أنها ستعيش ولن تموت فهي ليست من جنس من ماتوا، ربما كانت العلة في جنس الصبي فكلهم ماتوا وهم في الثانية أو الرابعة أو الخامسة من العمر، أما هذه فلقد عاشت ستة سنوات، الحمد لك يا رب سأفرح ببقاء ابنتي على قيد الحياة.
العجوز ( صارخا بحزن ضاربا بالعصا على الأرض بقوة ): ولكنها ماتت.
المرأة العجوز ( بهدوء وهي تجلس على ركبتيها وتبكي ): نعم ماتت، وماتت كل آمالي ببقاء طفل من أطفالي على قيد الحياة، وهنا أتتذكر ( تتوجه بالسؤال للعجوز مشيرة لأحد الزوايا ) كنت تحمل طفلنا السادس ونحن نأتي به من عند الطبيب الذي قال لا بأس ليس هناك ما يخيف فلا يبدو عليه أي مرض واضح سيشفى قريبا إنشاء الله، وكنت تقول لن يموت هذا الصبي إنه قوي قوي.
العجوز: وها قد مات ومات صغيرنا السابع آه.
(فجأة يدخل بعض الجنود ليلقوا القبض على العجوز)
(تطفأ الأضواء)
المشهد الثالث
(الرجل العجوز معرى إلا من سروال، وحوله مجموعة من الأشخاص من أهالي القرية نساء ورجال وأطفال وثلاثة رجال من الشرطة يقومون بتعذيبه)
قائد الشرطة: هل ما زلت معارضا بعد هذا الضرب المبرح أيها العجوز؟
العجوز: وسأبقى معارضا حتى أموت، إنها أرضنا ونحن من نزرعها منذ عشرات السنين واليوم ترغبون في أخذها منّا.
قائد الشرطة: أيها العجوز ( يقولها بانزعاج وهو يمسك بشعر العجوز الواقف بقوة ): أنت تملك أقل مما يملكه الآخرون من أبناء القرية، وأنت أشدهم اعتراضا على تمليكنا لهذه الأرض، اسمع ( يقولها بهدوء بينه وبين العجوز ) هل تريد قطعة أرض أكبر وتتركك من هذا الشأن؟ أنت مسن وأعرج وقطعة أرض أكبر ستجعلك تعيش أنت وزوجتك في رخاء طيلة عمرك؟
العجوز: أنا لا أفعل هذا أيها الضابط لأجلي فقط إنهم فقراء، انظر إليهم قد لا تجد منهم من يعترض علنا لخوفهم، ولكنهم جميعا يمقتون ما تفعلونه وجميعهم معارضون لأن تأخذوا منهم أرضهم.
(تطفأ الأضواء)
المشهد الرابع
(جلسة لبعض أهالي القرية وقد جاء موظف من دائرة أملاك الدولة ليوزع الأرض على أهالي القرية)
يدخل العجوز : مساء الخير يا جماعة.
صاحب الدار: مساء الخير يا خلف، تفضل.
العجوز: هل بدأتم بالتوزيع؟
صاحب الدار: لا ليس بعد ( يتوجه بالحديث للموظف الحكومي ) ما رأيكم أن تبدؤوا بالتوزيع بعد تناول العشاء فهاهو جاهز.
الموظف ( مبتسما ابتسامة الجشع ): حسنا هذا أفضل بالتأكيد ( يضحك الجالسون )
العجوز: إذا أنا سأذهب إلى المنزل وسأعود ريثما تنتهون من العشاء.
صاحب المنزل: حسنا، سننتظرك.
(يخرج العجوز)
صاحب الدار: هيا يا أم علي، هل آت لمساعدتك؟ ( يخرج صاحب الدار والجميع يضحك على مجاملته لزوجته )
الموظف: إنه رجل مطيع جدا.
أحد الجالسين: نعم ألست مطيعا أيضا يا سيدي ( يقولها ضاحكا )؟
الموظف: هو هو ومن يستطيع العصيان هههه.
صاحب المنزل ( عائدا دون أن يحمل معه شيئا ): عذرا أيها السادة فلقد بقي القليل حتى يجهز العشاء.
الموظف: إذا لنبدأ بالتوزيع ريثما يجهز العشاء.
(الجميع يتحركون باتجاه الموظف ويقولون نعم نعم هذا أفضل)
الموظف: هذا العجوز الذي كان هنا كم عدد أفراد أسرته؟
أحد الجالسين: إنه فقط هو وزوجته والابن الثامن الذي آن الأوان ليموت هههه؟
(يضحك الجميع )
الموظف: إذا فله ثلاث جوالات، وأنت ( يتوجه إلى أحد الجالسين ) سأزيد لك فأنت شخص كريم ( يضحك الموظف والجالسون، يخفت الصوت، وتطفأ الإضاءة ).
المشهد الخامس
(العجوز وهو نائم وبجواره عصا غير مشذبة وسكين، تدخل عليه زوجته)
المرأة العجوز: قم يا رجل فمنذ أن تركت العمل مجبرا وأنت تنام طوال النهار!
العجوز: وماذا سأفعل يا امرأة؟ لقد عملت حتى كبر أبناؤك الثلاثة ( يقولها وهو يحاول الجلوس ) أعطني تلك العصا والسكين.
المرأة العجوز: نعم لقد عملت كثيرا هذا صحيح ولكننا نحتاج لبعض المال.
العجوز: ولما المال؟
المرأة العجوز: انتهت إجازة ابنك وسيسافر صباح الغد للجامعة.
العجوز: سأحاول أن استدين بعض المال من جاري وصديقي قدري وسأعيد له المال عند الحصاد، نعم لا أملك خيارا آخر.
المرأة العجوز: تستطيع أن تملك ولكنك لا تريد، كم مرة طلب ولدك الأكبر أن يذهب للشام كي يعمل وأنت ترفض؟!.
العجوز: لن أجعل أبنائي يعملون خدما للآخرين فليكمل هو أيضا دراسته ولا نريد منهم شيئا، سأتدبر أمري.
المرأة العجوز: حسنا كما تريد ( تخرج يائسة ).
(تطفأ الأضواء)
المشهد السادس
( العجوز وهو جالس وإلى جانبه عصا مشذبة وسكين وقشور كثيرة يسلط الضوء على العصا )
العجوز: ترى كم من الأشخاص نستطيع أن نسند ونعين في حياتنا حتى نموت؟ و كم عصا يمكنها أن تتحمل أعباءنا الثقيلة حتى بلوغ ذلك الموت؟
(يسلط الضوء على الجانب الآخر من المسرح مجموعة مكونة من أربعة شبان جامعيين يتوجهون لمقدمة المسرح)
الأول: كان والدي قوي البنية جدا لقد أكد لي بأنه ضرب أحمد أبا سالم ذات مرة ضربا مبرحا ههه
الثاني: والله يا جماعة صحيح أن أبي لم يكن قويا ولكنه كان مدرسا، يعني لم يجعلنا نحتاج لشيء، فكلما كان يستلم راتبه كان يشتري لنا كل ما نرغب فيه.
الثالث: أما والداي يا أصدقاء فلقد تركاني أربي نفسي بنفسي هههه نعم إنها قصة طويلة.
الرابع: ( يسلط عليه الضوء ) أما أنا فقصتي مع والدي هي أنه كان… ( وفجأة يقرع الجرس ويقول الأول والثاني والثالث هيا لقد بدأت المحاضرة الثانية ).
(يعود الضوء ليسلط على الأب الذي يلف بكفن وإلى جانبه عصاه والسكين)
(يدخل رجلان ليحملاه على تابوت وأصوات الرعد ترافق المشهد )
الرجل الأول: هيا يا صاحبي لنسرع في الدفن قبل أن تهطل الأمطار مرة أخرى وخاصة أن الموجودون على المقبرة قلة، وقد لا يساعدوننا!
الرجل الثاني: معك حق، هيا بنا.
( يحمل العجوز على النقالة ويخرجون ليبقى الضوء مسلطا على مجموعة سكين وحيدة وبعض قشور العصي من جهة، وتظهر على الشاشة الخلفية الدائرية المتحركة فيديوهات لأبناء العجوز وأحدهما يحصل على شهادة الدكتوراة، والآخر يلقي شعرا في إحدى الأمسيات المكتظة وابنته التي تجهز صغيرها ليتوجه للمدرسة ).