السَّفَر: عينان مُشْرَعَتان في كل اتجاه

محمد الفخراني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخراني

السَّفَر رجلٌ صاحب أمزِجَة متعدَّدة، وإنْ أحيانًا بَدَتْ متضادة، فهي في الحقيقة مُتصاحبة.

له عينان مُشْرَعتان في كل اتجاه، لحية بيضاء، وشعر رمادي طويل،  يدان ذكيَّتان بهما خطوط كثيرة واضحة، قدمان كبيرتان حافيتان، يلبس ملابس مسافرة بلا جيوب وغير محسوبة على زمان أو مكان، وجهه به تجاعيد تجعله وسيمًا على طريقته، وصوته به جرح قديم جميل.  

يمشي السَّفَر لأيام وأسابيع وشهور دون تَوَقُّف، ثم يتوقف فجأة ليتأمَّل سحابة، طائرًا، شجرة، فكرة، كل شيء، ولا شيء.

هو أحد أفضل مَنْ يستعمل يديه، يُنْجِز بهما أعمالًا عابرة أثناء مَشْيِه، يُشارِك في صُنْع قارب، بناء بيت لن يسكنه، إنقاذ حيوان سقط في بئر أو فَخّ، تمشيط شعر طفلة ليس لها أحد، أو هو يصنع لها ضفيرة، أو فطيرة، يداه بهما آثار جروح قديمة يحبها.

موسيقاه المُفَضَّلَة: الموسيقا الشعبية لكل شعوب العالم.

كتابه المُفَضَّل: “أنا أحب هذا العالم”.

الرقصة المُفَضَّلَة: كل الرقصات الشعبية.

طعامه المُفَضَّل: كسرة خبز يُبَلَّلها بالمطر أو أيّ ماء عابر، أو يُبقيها ناشفة ويقرقشها ندفةً ندفة ويتسلَّى بصوتها.

الرقم المُفَضَّل: 3.

اللون المُفَضَّل: الأبيض والأسود (عندما يكونان مُجتمعَيْن في الشيء نفسه).

أماكنه المُفَضَّلة: حواف العالم وهوامشه، جَرْف جبل مرتفع، دروب الصحارى، المَمَرّات داخل الغابات، الشوارع المَنْسِيَّة، الجسور الخشبية القديمة.

لو سأله أحد عن أكثر شيء يحبه، سيقول: “المَشي”.

يقولها ويمشي.

من أقوال السفر: “لا شيء يضيع في العالم، لا شيء يضيع في السَّفَر”.

حتى الأشياء التى يبدو أنها ضاعت بشكل نهائي، هي فقط تسافر.

يقول: “الكلّ على سَفَرٍ ما”.

السفر يبدو أحيانًا مُهتمًا بالوقت، وفي أحيان أخرى يبدو كأنه خارج الوقت والمكان.

ربما يقضي السفَرُ عامًا لا يُكَلِّم فيها أحدًا، وربما يسهر مع مائة شخص في ليلة واحدة ولا يتوقف عن الكلام معهم.

يَكْسَب عَيْشَه بالحكايات: أنْ يحكيها ويستمع لآخرين يَحْكُون، مرة يَحكي ومرة يستمع.. ويكسب في الحالتين عَيْشَه ومُتْعَتَه.  

السفر غير مُتَوقَّع، هو يضحك ملء قلبه وعينيه، ولا ينسى أن يبكي ملؤهما أيضًا.

يحب المرور بعينيه على الأشياء، المرور المُحِبّ اللطيف، يحب الصمت، يحب الكلام، يحب الحكايات، يحب الخِفَّة والبساطة، وكل ما يحبه فهو يحبه كثيرًا، السفر يحب بكل ما فيه، وكل ما فيه يُحِب ويُحَب.

هو لا يعرف كل الحكايات، لا أحد لديه كل الحكايات، السفر يعرف هذا، لو أن أحدًا لديه كل الحكايات فلن يتحرك من مكانه، لن تتحرك روحه من مكانها، ولا قلبه أو عقله، سيكون أكثر شخص تعيس في العالم، لم يتبقّ له غير أن يموت، السفر يبحث عن الحكايات، مُتَشَوِّق لها دومًا، يمشي أميالًا لأجل حكاية، ورحلته إلى الحكاية هي بحَدّ ذاتها حكاية.

يعرف السفر حكايات شعبية كثيرة، ويعرف نُسَخًا عديدة عن الحكاية الواحدة، ويعرف حكايات شخصية سِريَّة لا يعرفها معه غير أصحابها.

السفر يكون لوحده لكنه ليس وحيدًا، يعرف كيف يستمتع مع نفسه، بوجوده مع نفسه، هو أيضًا يحب الصُّحْبَة، لديه شغف وفضول وتَشَوُّق، ولديه فضيلة التَّرْك دون تعالٍ، لديه القدرة على تَرْك الآخرين في حالهم، وتَرْك الأشياء في حالها، دون تَطَفُّل، هو يمضي في رحلته، يميل إلى أن يكون مُتَمَهِّلًا، ليس مُتَعَجِّلًا، يحب أن يتذوق الأشياء، يعرف طَعْمها، وتَعرف طَعْمه. 

عالَمه الداخلي كبير ومُتنوِّع، ويتَّسِع للعالَم كله مرات ومرات.. ومرات.

يمكن للسفر أن يتحوَّل إلى أي شيء يريده، يكون شيَّالًا في محطة قطار لمدة دقائق أو نِصْف نهار أو نِصْف ليل، يكون هواءً يحمل ريشة بعيدًا، أو يكون الريشة، يمكنه أن يكون جذع شجرة عائمًا فوق النهر ليجلس عليه طفل تائه، أو ليقف عليه طائر، يمكن للسَّفر أن يتحوَّل إلى طائر، ربما هو الهدهد الذي حَطَّ على سور شرفتك لثوان، أو هو الطفل الذي لمَحْتَه يَعْبُر الشارع بضحكته واختقى، يمكنه أن يكون عربة في قطار ليوم كامل، أو حصانًا يجري في مَمَرّ داخل غابة أو صحراء، ويمكن للسفر أن يكون آثار أقدام في الطريق.. أيّ طريق، وفي الشارع.. أيّ شارع.

عن الحب؟ الحب فكرة حُرَّة في رحلته الحُرَّة.

ومن جديد، ومهما تكرَّرَ السؤال عن أكثر شيء يحبه، سيقول: المَشْي.

يقولها السفر ويمشي.

مقالات من نفس القسم