عبد الغني محفوظ
لا يمكن فهم عهد الإمبراطور فيليب العربي بدون فهم الفترة التي تولى فيها حكم الإمبراطورية وهي فترة من أسوأ الفترات في تاريخها والتي عرفت باسم أزمة القرن الثالث والتي تحول الحكم فيها من أسرة سيفيران إلي الأباطرة الجنود.
بدأت اضطرابات القرن الثالث المعروفة باسم أزمة القرن الثالث باغتيال الإمبراطور كومودس في عام 192 ووصول سبتيموس سيفيروس أول أباطرة أسرة سيفيران إلى السلطة وهي الأسرة التي مهدت للفوضى وظهور أباطرة الثكنات. ومصطلح “أباطرة الثكنات” هو مصطلح صاغه المؤرخون المحدثون في إشارة إلى الأباطرة الرومان الذين رفعهم الجيش إلى العرش واتسمت فترة حكم أباطرة الثكنات بعدم الاستقرار إلى أن قام الإمبراطور ديوكلتيانوس (284-305) بتناول أسباب الأزمة وحلها وبالتالي أمن مستقبل روما. ورغم أن سبتيموس استولى على عرش روما مستخدما الجيش، إلا أن المؤرخين درجوا على اعتبار بدء حكم أباطرة الثكنات مع مقتل آخر أباطرة أسرة سيفيران وهو الإمبراطور ألكسندر سيفيروس على يد جنوده في مارس 238.
كان أباطرة الثكنات (يُطلق عليهم أيضا “الأباطرة الجنود”) هم أباطرة استولوا على السلطة بحكم قيادتهم للجيش. انتشر أباطرة الثكنات بشكل خاص في الفترة من 235 حتى 284، خلال أزمة القرن الثالث التي بدأت بانتهاء حكم أسرة سيفيران. وبدءا من ماكسيمينوس التراقي، كان هناك ما يقرب من أربعة عشر من أباطرة الثكنات حكموا لمدة 33 عاما، ما أدى إلى متوسط فترة حكم تزيد قليلا عن عامين لكل منهم. أدى عدم الاستقرار في منصب الإمبراطور والحالة شبه المستمرة للحرب الأهلية والتمرد إلى تهديد الإمبراطورية الرومانية من الداخل وتركها عرضة للهجوم من الخصوم الخارجيين.
في التسع وأربعين عاما بين وفاة الكسندر سيفيروس وعهد ديوكليتيانوس، كان هناك ستة وعشرون إمبراطورا، توفي واحد منهم فقط وفاة طبيعية. تعرض كل هؤلاء الأباطرة تقريبا لموت عنيف على أيدي الجنود أنفسهم الذين وضعوهم على العرش. لم يكن هناك نظام مناسب للخلافة، وقام “أباطرة الثكنات” كما عرفوا بإرهاب الناس. وحتى في أواخر القرنين الثالث والرابع، عندما كانت الخلافة الإمبراطورية أكثر استقرارا، كانت الحرب بين الجنرالات المتنافسين وجيوشهم كثيرا ما تصرف انتباه روما عن الدفاع ضد القبائل الغازية (1).
حكم أسرة السيفرية والطريق إلى الأزمة
كان الإمبراطور كومودوس (180-192)، نجل الإمبراطور الفيلسوف ماركوس أوريليوس، يعامل رعاياه بوحشية ويقتلهم ويصادر ممتلكاتهم. ومثل كاليجولا، طالب رعاياه بأن يعبدوه كإله، ومثل كاليجولا أيضا، قُتل على يد قائد حرسه (بالاشتراك مع عشيقة كومودوس ومصارعه المحترف).
قُتل كومودوس خنقا في حمامه ليلة رأس السنة 192م. وربما كان حاكم المدينة، بيرتيناكس، له يد في المؤامرة لأنه في وقت متأخر من تلك الليلة، نادى به الحرس الإمبراطوري إمبراطورا على مضض. كان سلوك بيرتيناكس المتحفظ والمحافظ لا يحظى بشعبية لدى الحرس الإمبراطوري. وزادت محاولاته لإصلاح وتأديب الحرس من كراهيته. فشلت محاولتان للانقلاب عليه واستبداله. غير أنه، في 28 مارس، دخل عدة مئات من الجنود القصر وقتلوا بيرتيناكس بعد ستة وثمانين يوما من توليه الحكم، وبعدها عرض الحرس الإمبراطوري عرش الإمبراطور في المزاد لمن يدفع أكثر.
لم يكن هناك وريث واضح للعرش بعد اغتيال بيرتيناكس. حاول حاكم المدينة، سلبيسيانوس، شراء ولاء الحرس الإمبراطوري، حيث عرض دوناتيفا قدرها 20 ألف سيسترتيوس لكل جندي. غير أن ديديوس جوليانوس زايد عليه بعرض 25 ألف سيسترتيوس لكل جندي. على الرغم من أن الحرس أعلن جوليانوس إمبراطورا، إلا أنه لم يكن محبوبا في روما، ولم تمتد سلطته بعيدا خارج وسط إيطاليا. مثلما حدث في الحرب الأهلية في عام 69 قبل الميلاد، لم يعترف الجنرالات الرومان الأقوياء خارج إيطاليا بالإمبراطور الجديد وتطلعوا إلى أن يشغلوا مقعده الإمبراطوري. حصل سبتيموس سيفيروس حاكم بانونيا العليا (الآن في النمسا والمجر) وقائد أكبر جيش في منطقة الدانوب على دعم كلوديوس ألبينوس في بريطانيا بإعلانه الأخير قيصرا (أي إمبراطورا أصغر)، ونصب نفسه منتقما لبيرتيناكس، وسار بجيشه من بانونيا متوجها إلى روما. فشلت كل محاولات جوليانوس لتجنب الدمار، وتخلى عنه الحرس الإمبراطوري وقُتل بعد فترة حكم أقصر من حكم بيرتيناكس (2).
عندما دخل روما، أعدم سيفيروس حوالي 30 من أنصار ألبينوس في مجلس الشيوخ. ولتبرير اغتصابه للعرش، أعلن نفسه أبنا بالتبني للإمبراطور ماركوس أوريليوس وادعى أنه ينحدر من نسل الإمبراطور نيرفا (حكم 96-98 م). كما عين كاراكالا، ابنه من زوجته السورية جوليا دومنا، كشريك له في الحكم وبالتالي خليفة له.
أصبح سيفيروس إمبراطورا في الأول من يونيو. استبدل جنود الحرس الإمبراطوري برجاله، وأعدم المسؤولين عن مقتل بيرتيناكس، وأعلن تأليهه. سرعان ما تحول انتباه سيفيروس إلى بيسكنيوس نيجر الذي أعلن نفسه إمبراطورا في سوريا. سيطر نيجر على معظم الجزء الشرقي من الإمبراطورية الرومانية. جعل بيزنطة مقرا له وهزم جزءا من جيش سيفيروس في برنيثوس (في جنوب شرق البلقان). ومع ذلك، سرعان ما وصل سيفيروس إلى الشرق وهزم قوات نيجر بالقرب من نيقية. بحلول أوائل عام 194، كان نيجر يتراجع نحو أنطاكية، واكتسب سيفيروس ولاء معظم آسيا الصغرى ومصر والشرق الأدنى. لحق أنولينس أحد جنرالات سيفيروس بنيجر في أسوس (في جنوب شرق الأناضول)، حيث هزم الإسكندر الأكبر داريوس الثالث. حوصر جيش نيجر وقتل منه عدد كبير ولكنه نجا من المعركة وهرب إلى أنطاكية، ثم حاول الفرار إلى بلاد فارس. غير أنه اعتقل في ضواحي المدينة وقتل. بحلول مايو، استسلم معظم مؤيدي نيجر المتبقون.
بقي منافس واحد فقط لحكم سيفيروس، هو ألبينوس في بريطانيا. فشلت محاولة اغتيال ألبينوس وتم تجريده من رتبة القيصر. أعلن ألبينوس على الفور نفسه إمبراطورا في نهاية عام 195، واستعد للحرب، وعبر إلى بلاد الغال. حصل على دعم الكثير من قوات الغال وجعل لوجدونوم (ليون في فرنسا الحالية) مقره، لكنه فشل في الحصول على دعم جيوش الراين. وصل سيفيروس إلى بلاد الغال مع جيشه في أوائل عام 197، واشتبكت القوتان، خارج لوجدونوم في 19 فبراير. حقق ألبينوس بعض النجاح في المعركة، متغلبا على جناح سيفيروس الأيسر. غير أن هجوما ناجحا للفرسان في جيش سيفيروس جاء في الوقت المناسب جعل ألبينوس يفر. نهبت لوجدونوم وانتحر ألبينوس. أمر سيفيروس بتشويه جسده كتحذير لأي منافس محتمل آخر. ثم قام بتطهير مجلس الشيوخ من التهديدات المحتملة، ليصبح حاكم الإمبراطورية الرومانية بلا منازع.
أعاد سيفيروس تنظيم الحرس الإمبراطوري ونقل السيطرة على الشؤون المالية والمقاطعات والقانون إلى محافظه الإمبراطوري. وبينما زاد سيفيروس حجم الجيش بشكل كبير، فشل في زيادة فعاليته، فقد صد رجال القبائل الاسكتلنديون بسهولة غزو سيفيروس المشؤوم لوطنهم. لخص سيفيروس للأجيال القادمة الفلسفة السائدة لأباطرة أزمة القرن الثالث ناصحا أولاده: “اعتنوا بالجيش، وكل شيء آخر سيهتم بنفسه”. كان سيفيروس أول سلالة سيفيران، المكونة من كاراكالا (211-217) وماكرينوس (217-218) وإيل جبل (218-222) وألكسندر سيفيروس (222-235)، وهم من الأباطرة الفاسدين وغير الفعالين الذين كانت نهايتهم جميعهم سيئة.
وباغتيال آخر أباطرة أسرة سيفيران وهو ألكسندر سيفيروس تبدأ أزمة القرن الثالث. كان عصر الفوضى، المعروف أيضا باسم الفوضى العسكرية وأزمة القرن الثالث، هي نصف قرن من التقلبات الشديدة التي كادت أن تشهد تفكك الإمبراطورية الرومانية العظيمة. طالب بالعرش مالا يقل عن خمسين إمبراطورا، وهو صف طويل من مغتصبي السلطة، الذين مات معظمهم خلال عام أو عامين. انقسمت الإمبراطورية إلى ثلاث دول متنافسة تتنافس على السلطة المطلقة، وغزا البرابرة من كل صنف أراضي الإمبراطورية، وقتل ما يسمى بطاعون قبرص أولئك الأباطرة (والجنود) الذين لم يلقوا حتفهم في القتال.
الأزمة تبدأ
بدأ سبتيموس سيفيروس (193-211)، مؤسس اسرة سيفيران، سياسة استرضاء الجيش وشراء ولائه من خلال زيادة الأجور وغيرها من الإجراءات. رفع سيفيروس رواتب الجندي من 300 إلى 500 ديناريوس سنويا، وهو ما كان متأخرا منذ فترة طويلة، ولكنه في الوقت نفسه وسع القوات المسلحة لمواجهة التحديات من خارج الحدود التي تواجهها روما الآن. من أجل دفع رواتب جنوده، قام بتخفيض قيمة العملة عن طريق إضافة معادن أقل قيمة إلى العملة المعدنية. على الرغم من أن هذا الخفض الأولي لم يتسبب في أي مشاكل اقتصادية، إلا أنه شكل سابقة للأباطرة اللاحقين لفعل الشيء نفسه.
علاوة على ذلك، بسبب تملق الجيش، أضعف سيفيروس المكانة التقليدية لدور الإمبراطور وجعل الموقف يعتمد على ولاء الجيش. وعلى الرغم من أن الإمبراطور كان يعتمد دائما على دعم الجيش بدرجة أو بأخرى، إلا أن مغازلة الإمبراطور للجيش أصبحت أكثر وضوحا. وعلى الرغم من أن خطر هذا التحول في النموذج التقليدي طوال حكم أسرة سيفيران – حيث كان الإمبراطور صاحب منزلة رفيعة بحكم حق الخلافة – لم يمثل مشكلة، فقد أصبح واضحا بعد وفاة ألكسندر سيفيروس آخر أباطرة الأسرة.
سبتيموس سيفيروس
توفي سبتيموس سيفيروس في إيبراكوم (يورك في انجلترا) في فبراير 211 وترك العرش لولديه كاراكالا وجيتا بعد أن نصحهما قائلا “عيشا في وفاق وعليكما بإثراء الجنود واحتقرا أي شخص آخر”. كان كاراكالا دمويا يتعجل تولي العرش وحاول قتل أبيه في انجلترا ورفع السيف عليه وهو يسير خلفه وهم بضربه لولا صياح من رأوه عليه. وبعد أن عاد إلى روما حاول قتل جيتا شقيقه وشريكه في العرش مرارا ولكن حرسه كانوا يحيطون به ويحمونه. ولما أعياه الأمر طلب أن يجتمع به في حضرة أمهما ولما وصل جيتا إلى جناح أمه في القصر عاجله جنود من أتباع كاراكالا فقتلوه بين يدي أمه التي لم تنتبه في محنتها إلى جرح أصاب يدها وأمر كاراكالا بإحراق جثته في الحال.
بعدها هرع على الفور إلى معسكر الحرس الإمبراطوري وأسرف في محاولته للحصول على الدعم – “أنا واحد منكم، لأجلكم وحدكم أتمنى أن أعيش، يمكنني أن أقدم لكم الكثير من الفوائد، لأن جميع الخزائن ملككم”. بعد ذلك توجه إلى الفيلق المتمركز في ألبا على بعد 14 كليومترا من روما ولكنهم لم يفتحوا له الباب لأنهم اقسموا بالولاء لابني سبتيموس سيفيروس الاثنين، ولكنه وعدهم بدوناتيفا ضخمة فلانوا في نهاية المطاف.
كان كاراكالا يصعب التنبؤ بسلوكه وغير صبور وكان مزاجه شرسا. أمر بإعدام العديد من أفراد الأسرة الإمبراطورية تقريبا بمجرد وفاة والده. تبع مقتل شقيقه بعملية تطهير أكثر اتساعا ودموية، شملت الكثيرين من أعضاء مجلس الشيوخ والفرسان البارزين. شملت مقبرة تم التنقيب عنها مؤخرا في يورك عددا من الهياكل العظمية لرجال تم تقييدهم بالسلاسل ثم تم إعدامهم. وتشير بقايا فخار لهذه الفترة تقريبا. ومن الممكن أن يكون الرجال المعنيون من الضباط والمسؤولين الذين قتلوا يوما بأوامر من كاراكالا. كان هناك ضحايا آخرون طوال الفترة المتبقية من حكمه. ابن بيرتيناكس، الذي كان صغيرا جدا وغير مهم بحيث لم يكن يستحق القتل عام 193، مات لأنه لم يستطع مقاومة النطق بتورية تشير إلى مقتل جيتا. الابنة الأخيرة الحية لماركوس أوريليوس اشتبه في عدم ولائها وأجبرت على الانتحار، وهو شيء يقال إن السيدة المسنة فعلته بهدوء كبير وكرامة، كما قتل سائق عربة شهير كان يقود عربة السباق لفريق لا يحبه. يقول ديو إن ما يقرب من 20 ألف شخص لقوا حتفهم في موجة التطهير التي قام بها (3).
كان كاراكالا ضئيلا ولا يتمتع بصحة جيدة ولكنه كان مهووسا بالإسكندر الأكبر، وأحب أن يرى نفسه على أنه قاس ورجل عملي وعدواني، والأهم من ذلك كله أن يرى نفسه كجندي. في حملاته، كان الإمبراطور يرتدي ملابس الجندي ويتصرف مثل الجنود العاديين، حتى إنه كان يطحن حصته من القمح إلى دقيق بنفسه لإعداد وجبته (4).
منح كاراكالا المواطنة الرومانية للأحرار من الرجال والنساء في جميع أنحاء الإمبراطورية، في مرسوم 212 المعروف باسم Constitutio Antoniniana. كان هذا بمثابة تغيير كبير لمصر، حيث كان عدد قليل من الناس في السابق مؤهلين كمواطنين رومانيين. لكن هناك ما يشير إلى أن بعض الطوائف في مصر، أبرزهم مواطنو الإسكندرية، كانوا أحيانا غير راضين عن القوة الإمبراطورية. وعندما أبدع السكندريون هجاء حول تورط كاراكالا في قتل شقيقه جيتا، استخدم الإمبراطور زيارته لمصر في 215 للانتقام، وأقال الحاكم من منصبه، وأمر بذبح شباب المدينة. ويقال إن كاراكالا كان آخر إمبراطور روماني يزور جثة الإسكندر المحنطة، تماما مثلما فعل أغسطس قبلها بأكثر من قرنين من الزمان (5).
ووصل البلاط الإمبراطوري إلى الإسكندرية في نهاية عام 215 م، وظل هناك حتى مارس أو أبريل من العام التالي. وكانت زيارة كارثية حيث لم يظهر كاراكالا أي رحمة تجاه شعب الإسكندرية بسبب الإهانات التي كانت تتردد حوله من سنوات في المدينة والتي وصلت إلى مسامعه. ويتفق كل من ديو وهيروديان على أنه تعرض لانتقادات لقتله شقيقه جيتا، والذي كان أمرا معروفا في مصر نتيجة لدامناتو ميموريا أو محو الذكرى على الأقل. وسخر السكندريون من الإمبراطور لمحاولته محاكاة الإسكندر وأخيل، لأنه كان أصغر بكثير مما كانوا عليه، ولعلاقته بأمه على وجه الخصوص. وتضمنت دعاباتهم الإشارة إلى الإمبراطورة الأم، جوليا دومنا، عل أنها جاكوستا، ملكة طيبة وعلاقتها الجنسية مع ابنها أوديب، وكذلك حملها لاثنين من الأبناء منه هما بولينيكس وايتيوكليس اللذين خاضا قتالا ضد بعضهما البعض. وتكتسب السخرية أهمية خاصة حيث تسخر من العلاقة العدائية بين كاراكالا وجيتا، بينما تشير أيضا إلى أن كاراكالا ودومنا كانا عاشقين، علاوة على جانب ثالث يتمثل في الشائعات عن محاولة كاراكالا قتل والده، مثلما قتل أوديب والده لايوس (عن غير قصد). كان من المفترض أن يتحمل الإمبراطور الجيد مثل هذه السخرية برباطة جأش وهو شيء لم يفعله كاراكالا، بدلا من ذلك انجر إلى غضب قاتل (6).
اسرة سبتيموس سيفيروس والمكان الخالي هو وجه جيتا بعد قتله ومحو ذكراه
والحقيقة أن الشائعات عن العلاقة بين كاراكالا ووالدته كانت نتيجة لبروز جوليا في الصورة العامة الرسمية للنظام، والطريقة التي فسر بها بروزها من قبل الجماهير الإقليمية. والواقع أن سفاح القربى كانت تهمة توجه إلى الأباطرة الذين ينظر إليهم الجمهور على أنهم سيئون، مثلما أشيع عن علاقة نيرون بأمه وكاليجولا بشقيقاته الثلاث.
ماكرينوس والعراف
كان أحد العرافين قد تنبأ بأن ماكرينوس قائد الحرس الإمبراطوري لدى كاراكالا وهو من البربر من عائلة من الفرسان سوف يرتقي أكثر، وفي يوم من الأيام سيكون في الواقع إمبراطورا مع ابنه ديادوميان. ولكن ماكرينوس بدلا من أن يفرح بهده النبوءة تولاه الذعر، فهو يعرف أن مثل هذه النبوءات ستكون عقوبتها الإعدام، بمجرد وصولها مسامع كاراكالا. لم تكن هذه حادثة تافهة. في ذلك الوقت، كان من الممكن أن تحمل مثل هذه النبوءات، جنبا إلى جنب مع العلامات والنذر، رواجا هائلا، خاصةً مع أعضاء سلالة سيفيران المعروفين بالخرافات. كان ماكرينوس مع كاراكالا في حملة عسكرية في الشرق عندما أرسل صديق في روما رسالة إلى الإمبراطور يحذره من النبوءة. تأخرت الرسالة في طريقها إلى كاراكالا لأنها أرسلت أولا إلى جوليا دومنا في أنطاكية، حيث كانت تدير شؤون الإمبراطور بما فيها البريد. في هذه الأثناء، تم تنبيه ماكرينوس (الذي كان مع كاراكالا) من قبل صديق في روما، وأدرك أنه إذا لم يتصرف، فمن المحتمل أن يسعى كاراكالا إلى قتله (7).
في تلك الأثناء، توجه كاراكالا لزيارة ضريح بالقرب من حران (في تركيا). وتوقف الإمبراطور ليقضي حاجته على جانب الطريق، وأثناء صعوده إلى جوداه اقترب منه أحد الجنود وكأنه يهم بمساعدته على الصعود إلى متن جواده وطعنه حتى الموت. وقيل إن القاتل كان فردا بالحرس الإمبراطوري سابقا أعيد تجنيده ولكنه كان يشعر بالمرارة لأنه حرم من رتبة قائد المئة. وقيل إن عملية القتل رتبها ماكرينوس الذي كان يخشى أن يقتله كاراكالا بمجرد وصول النبوءة إليه. وفي غضون دقائق قتل القاتل قبل أن يتمكن من الكشف عن أي تفاصيل عن المؤامرة. كان هذا مصدر ارتياح كبير لقائد الحرس ماكرينوس.
وصل خبر وفاة كاراكالا إلى جوليا دومنا في أنطاكية، وهو ما يعني عودتها إلى الحياة الخاصة. سمح لها ماكرينوس الذي أصبح إمبراطورا بالاستمرار في التمتع بحماية مفرزة من الحرس الإمبراطوري، وفكر الحرس في التمرد ودعم محاولتها لتصبح هي الحاكم الوحيد، ما يجعلها أول إمبراطورة مستقلة في التاريخ الروماني. ولكن فشل المخطط لأن ماكرينوس أجبرها على مغادرة أنطاكية. ماتت بعد ذلك بوقت قصير، إما بالانتحار أو من سرطان الثدي. تركت جوليا أختا حزينة هي جوليا مايسا. استمتعت مايسا بالحياة في البلاط الإمبراطوري خلال فترة جوليا دومنا لدرجة أنها كانت مصممة على عدم السماح لماكرينوس بإنهاء حكم سلالة سيفيران.
كان لدى مايسا ابنتان، جوليا سويمياس وجوليا ماميا، وكان لكل من هاتين الشابتين ابن، إيل جبل وألكسندر سيفيروس على التوالي. كان الصبي الأكبر يعمل كاهنا لإله الشمس هليوجبلوس في سوريا، ونتيجة لذلك عُرف بالاسم المشتق إيل جبل. كان يحظى بشعبية مع الحامية العسكرية في حمص القريبة، وبدأت شائعة تنتشر بين القوات أنه الابن غير الشرعي لكاراكالا. في مايو 218 تم الاعتراف بالصبي البالغ من العمر 14 عاما كابن غير شرعي لكاراكالا ولكن كوريث شرعي له. ودارت المعركة بين القوات المؤيدة لأسرة سيفيران وقوات ماكرينوس وانتهى القتال بهزيمة الأخير. واستعادت أسرة سيفيران عرش روما.
لم يظهر الإمبراطور الشاب الاحترام الواجب لمجلس الشيوخ حيث تبنى ألقابه قبل أن يصوت عليها المجلس. وساءت الأمور أكثر عندما بدأ في اختيار أشخاص غير أكفاء للمناصب العليا. علاوة على ذلك أراد ايل جبل أن ينقل الطقوس الشرقية إلى روما ما زاد كراهية الشعب للنظام. كانت العبادات الشرقية مقبولة في روما، لكن التباهي بالملابس الغريبة والطقوس المنطوية عليها، وظهور لقب “الكاهن الجبار لأله الشمس الذي لا يقهر” بين الألقاب الإمبراطورية، كان غير دبلوماسي. علاوة على ذلك، وجد النقاد من السهل مهاجمة السمعة الشخصية للإمبراطور. وكانت قصص فضائحه وانحرافاته الجنسية مثار حديث في روما (8).
كانت جوليا مايسا هي التي رأت الطريقة التي تسير بها الأمور وقررت التدخل. أدركت أن إيل جبل يجب أن يذهب. لم يكن من المجدي أن تطلب من ابنتها، والدة الإمبراطور، جوليا سويمياس، اتخاذ إجراء فقد كانت تشجع ابنها على غرابة الأطوار الدينية. وتحدثت مع ابنتها الأخرى، جوليا ماميا، وبدأتا في تهيئة ابنها الصغير، ألكسندر سيفيروس، من أجل الخلافة. وضغطت جوليا مايسا على إيل جبل لتعيين ابن خالته البالغ من العمر 13 عاما خلفا له. وأعلن تمهيدا لذلك أن ألكسندر سيفيروس هو الآخر ابن غير شرعي لكاراكالا. في عام 211 م، عُيِّن الصبي قنصلا، وحاكما مشاركا للإمبراطور. بعد مرور عام، فكر الإمبراطور إيل جبل بشكل أفضل في هذا الترتيب. كان واضحا أن ألكسندر سيفيروس أثبت شعبيته أكثر من إيل جبل نفسه، ليس فقط مع جدتهما، ولكن أيضا مع القوات.
شعر إيل جبل أنهم كانوا يستخدمون الصبي كوسيلة لعزله. حاول تنظيم اغتيال الصبي، لكن ذلك لم ينجح لأن القوات الموالية له كانت تحرسه بعناية. في نهاية المطاف، وفي نوبة مزاجية، عزل إيل جبل ابن خالته وجرده من جميع مناصبه ورتبته وأغضب هذا الجيش.
نشر الإمبراطور الآن قصة أن ألكسندر سيفيروس كان مريضا بشكل خطير. كان يأمل في اختبار رد فعل القوات على الأخبار. وفي غضب، طلبوا منه أن يظهر الصبي حتى يروا أنه لم يتم التخلص منه. ودعت جوليا سويمياس إلى اجتماع، قدم الإمبراطور فيه ألكسندر سيفيروس أمام الرجال، لكن هذا لم يثر الامتنان الذي كان يأمله الإمبراطور. بدلا من ذلك، أوضح الجنود الموجودون مدى حبهم للصبي واحتقارهم للإمبراطور.
أثار ذلك غضب الإمبراطور فطلب القبض على من لم يظهروا له الاحترام وإعدامهم فقتله الجنود هو وأمه وقطعوا رأسيهما وجردوهما من ملابسهما قبل أن يجروهما في انتصار دموي في الشوارع ثم ألقوا بهما في نهر التيبر.
صبي مربوط بمئزر أمه
كان ألكسندر سيفيروس واقعا تحت سيطرة والدته، جوليا ماميا، وجدته جوليا مايسا، اللتان كانتا توجهانه منذ بداية حكمه عندما كان صبيا صغيرا حتى إن الجنود كانوا يصفون ألكسندر بأنه “صبي مربوط بمئزر أمه”. كان ألكسندر يبلغ من العمر 25 عاما، لكنه لم ينجب وريثا، وحاول نظامه تغيير العلاقة الوثيقة جدا مع الجيش التي تم تأكيدها في عهد كاراكالا وسيفيروس (9).
كان الإمبراطور متزوجا من امرأة تدعى سالوستيا باربيا أوربيانا، لكن ماميا، التي لم ترغب أن يشاركها أحد في موقع الإمبراطورة، أبعدت زوجة ابنها من القصر. أثار هذا اشمئزاز والد الفتاة لدرجة أنه اصطحبها إلى معسكر الحرس الإمبراطوري للحماية واتهم ماميا بإهانة ابنته. كان هذا سوء تقدير من جانبه. لأن ماميا، التي تجاهلت مشاعر ابنها وأظهرت كل القسوة التي اشتهرت بها نساء أسرة سيفيران، أمرت بإعدام الأب ونفي أوربيانا إلى ليبيا.
على الرغم من عدد من السياسات الإيجابية التي بدأها، لم يكن ألكسندر قادرا على التحرر من قبضة والدته وهذا ما أدى في النهاية إلى سقوط آخر أباطرة أسرة سيفيران وانتهاء حياته نهاية عنيفة. كانت والدة ألكسندر بالفعل مكروهة من القوات بسبب التخفيضات في الرواتب التي بدأتها من أجل توفير المال لأغراضها الخاصة. عندما أصبح من الواضح أكثر وأكثر أن ألكسندر كان مجرد دمية في يد والدته، فقد احترام الجنود، وجاءت الإهانة الأخيرة في حملة عسكرية ضد القبائل الجرمانية في عام 235. كان الموكب الإمبراطوري في موجونتياكوم (ماينتس الحديثة في ألمانيا)، عندما قرر ألكسندر بمشورة أمه التفاوض مع العدو، بدلا من القتال ودفع أموال لخصومه مقابل السلام بدلا من الاشتباك معهم في المعركة. بينما اعتبرت والدته أن هذا الخيار هو الأكثر حكمة، كان قرار ألكسندر باتباع نصيحتها أمرا مخزيا وجبانا، ما حدا بقادة الجيش إلى اغتياله هو ووالدته. ثم تولى زمام الأمور الجندي التراقي ماكسيمينوس (235-238) وأصبح أول من يُطلق عليهم “أباطرة الثكنات” الذين كانوا يأتون ويذهبون بسرعة خلال أزمة السنوات التسع وأربعين التالية.
أول أباطرة الثكنات يتولى عرش روما
تمثل وصول ماكسيمينوس التراقي وهو أول إمبراطور جندي وضيع النسب في تعزيز الانقسامات الموجودة بالفعل داخل المجتمع الروماني. أدى صعود هذا الجندي البربري إلى صعود الروح الوطنية الرومانية بين أعضاء مجلس الشيوخ والجمهور خاصة في روما وإيطاليا وأيضا في أماكن أخرى ما أدى إلى قيام مجلس الشيوخ برفع أباطرته إلى العرش. استاء الجنود بطبيعة الحال من هذا لأنهم اعتبروا أن وضع الأباطرة على العرش وإسقاطهم هو حقهم الحصري. سيطر الصراع على السلطة في بقية القرن بين الأباطرة النبلاء الذين يفضلهم عادة أعضاء مجلس الشيوخ والأباطرة الجنود من وضيعي النسب الذين يفضلهم الجيش عادة.
ماكسيمينوس التراقي
جمع ماكسيمينوس المال للجيش من خلال مصادرة ممتلكات مجلس الشيوخ. وهذا هو السبب في أن المصادر الأدبية المؤيدة للأرستقراطية تصور ماكسيمينوس على أنه مثال للقسوة والبربرية. غير أن الباحثين المحدثين غيروا هذا التقييم إلى حد ما.
وردا على صعود ماكسيمينوس للعرش، نادت الأرستقراطية من ملاك الأراضي في إفريقيا الرومانية بالسناتور المسن جورديان الأول وابنه جورديان الثاني، في منتصف العمر، أباطرة. لم يعمر آل جورديان في السلطة طويلا. دعم كابيليانوس القائد العسكري لنوميديا، ماكسيمينوس وسحق جورديان الأصغر في المعركة، ما أدى إلى انتحار جورديان المسن عندما سمع بالهزيمة. وفي مواجهة ماكسيمينوس، رفع مجلس الشيوخ الروماني اثنين من أعضاء مجلس الشيوخ كبار السن إلى العرش هما بيوبينوس وبالبينوس، غير أن الجمهور الروماني أجبر مجلس الشيوخ على وضع جورديان الثالث حفيد جورديان الأول على العرش. ردا على ذلك، سار ماكسيمينوس بجيشه إلى إيطاليا، وحاصر أكويليا. وهناك تمردت قوات ماكسيمينوس عليه واغتالته (238). في وقت لاحق، أصبح الحرس الإمبراطوري غير راض عن بيوبينوس وبالبينوس واغتالهما. وأصبح جورديان الثالث البالغ من العمر 13 عاما إمبراطورا (238-244). وبعد موت جورديان الثالث في ظروف غامضة في حملة على الفرس تولى فيليب العربي السلطة (10).
أزمة القرن الثالث والإمبرطوريات المنشقة
كانت أزمة القرن الثالث (المعروفة أيضا باسم الأزمة الإمبراطورية، والفوضى العسكرية 235-284 م) هي الفترة التي انقسمت فيها الإمبراطورية الرومانية إلى ثلاثة كيانات سياسية منفصلة: إمبراطورية الغال، والإمبراطورية الرومانية، وإمبراطورية تدمر. هذه الإمبراطوريات الانفصالية، بالإضافة إلى الاضطرابات الاجتماعية والفوضى التي ميزت الفترة، نتجت عن عدد من العوامل: تحول في نموذج القيادة بعد اغتيال الإمبراطور ألكسندر سيفيروس (222-235 م) عام 235 م على يد قواته، وزيادة انخراط الجيش في السياسة، وعدم الالتزام بسياسة خلافة واضحة للأباطرة، والتضخم والكساد الاقتصادي الناجم عن انخفاض قيمة العملة في ظل حكم عائلة سيفيران، وزيادة الضغط على الإمبراطور للدفاع عن المقاطعات من غزو القبائل، والطاعون الذي زاد المخاوف وزعزع استقرار المجتمعات، والجيوش الأكبر التي تطلبت المزيد من الرجال وقللت من قوة العمل الزراعية.
كان الإمبراطور يعتمد دائما على دعم الجيش إلى حد ما ولكن الآن أصبح هذا الدعم أكثر ضرورة. وفي حين أن الإمبراطور كان يأتي إلى السلطة في الماضي من خلال نظام الخلافة – إما باعتباره الابن أو الوريث المتبنى لإمبراطور موجود في السلطة – كان يتم اختياره الآن من قبل الجيش بناء على شعبيته مع القوات وسخائه تجاه الجيش وقدرته على تحقيق نتائج فورية وملموسة. وعندما كان يخفق في أي من هذه المعايير، كان يتعرض للاغتيال ويستبدل بآخر. هذه السمة ميزت كل أباطرة الثكنات وهي الفرق الرئيس بينهم وبين أولئك الذين حكموا قبل وبعد أزمة القرن الثالث.
كان أباطرة الثكنات بصفة عامة يجمع بينهم الرغبة في منافع وفوائد السلطة دون أن تكون لديهم الشخصية ولا القدرة لممارسة السلطة بفعالية. بسبب انعدام اليقين في العصر والتهديد الحقيقي أو المتصور بغزو وشيك من جانب السكان ومجلس الشيوخ والجيش، فإن الرجل الذي يظهر نفسه قويا وشجاعا، والأهم من ذلك قائدا عسكريا فعالا، كانت قواته تختاره إمبراطورا. بعد ذلك كان مجلس الشيوخ الروماني يدعم القرار بناء على سمعة الشخص أو يتم فرضه على المجلس والشعب من قبل الجيش.
ويتميز اغتصاب العرش (الذي يحل فيه إمبراطور آخر) عن المقاومة الإقليمية أو التمرد ضد الحكم الروماني بشكل عام. وقد يختار المغتصب طريق الثورة، ويتمرد على الإمبراطور الموجود في السلطة. وقد ينجح في إزاحة الإمبراطور، ليصبح مغتصبا ناجحا. وكان صعود جالبا وفيسباسيان وسبتيموس سيفيروس للعرش كلها حالات اغتصاب تم تحقيقها من خلال الثورة العسكرية والحرب الأهلية اللاحقة. ولكن إذا فشل وخسر، يصبح مغتصبا فاشلا ويلاقي مصيرا سيئا. قد يحدث اغتصاب ناجح أيضا من خلال الانقلاب: اغتيال أو إزاحة بطريقة أخرى للحاكم الحالي دون انتفاضة عسكرية، على سبيل المثال، مؤامرة في القصر مثل اغتيال كلاوديوس أو دوميتيان (الذي حل محله نيرفا)، أو كومودوس. عادة ما تقلل دعاية الحرب الأهلية من حقيقة أن المغتصب الجديد الناجح قد ارتكب تمردا واغتصابا، من خلال تقديم أسلافه على أنهم غير شرعيين بطريقة ما، عادة من الناحية الأخلاقية: على أنهم كانوا طغاة يتصفون بالقسوة أو الجشع أو الحماقة. وغالبا ما تكون حقيقة مثل هذه القصص غير موجودة، لأن التاريخ يكتبه المنتصرون. مثل هذا الاغتيال المنظم للشخصية لأسلاف فيسباسيان المباشرين واضح في كتاب التواريخ لتاسيتس حيث يكيل المديح والإطراء لفيسباسيان، المنتصر في حرب الأباطرة الأربعة. ونظرا لأن المغتصبين كانوا شخصيات نمطية سيئة، فإن كتاب التاريخ الأغسطي، يكتب بروح من الهزل، سيرة المغتصبين الفاشلين. ولكي ينجح، كان المغتصب بحاجة إلى تأمين دعم جيوشه، من خلال إغداق الهدايا المالية والامتيازات، وكان حريصا على عدم إثارة نفور الجنود. وكان حريصا بنفس القدر، على الأقل في القرنين الأولين الميلاديين، على عدم إثارة نفور مجلس الشيوخ الروماني. يسعى الإمبراطور الجديد الناجح للحصول على موافقة مجلس الشيوخ والوعد بعدم إعدام أعضاء المجلس (وهو الوعد الذي لم يستطع العديد من الأباطرة الوفاء به). ويعلن عن صعوده للعرش من خلال وسائل الإعلام المعتادة، حيث يقوم بسك العملات المعدنية باسمه وصورته ونشر تماثيله الإمبراطورية وصوره المرسومة في المقاطعات. ويشجع الأدباء على الترويج لعهده من خلال تقديم المدائح أو كتابة التواريخ. كان يساعده في ذلك بشكل كبير ثروة من مصادر مشروعة، لم يتم الحصول عليها عن طريق نهب كنوز المعبد أو مصادرة العقارات الأرستقراطية. ويؤكد مكانته بخلفائه المحتملين، سواء أكانوا من أفراد الأسرة أم ورثة تبناهم، واعدا بالاستقرار السياسي. وتطمئن تصرفاته اللطيفة وأخلاقه الحميدة رعاياه، ولاسيما النخبة الحضرية الحساسة، بأنه لن يهينهم أو يغضبهم.
ويكون الإمبراطور بحاجة إلى النجاح العسكري والشخصي لتحقيق الاستقرار في نظامه. وقد تؤدي الهزيمة في الحرب أو الكوارث الأخرى إلى تبخر أنصاره أو الانقلاب عليه. غير أنه عندما تنجح إمبراطورة في حكم الإمبراطورية الرومانية، فإنها تستخدم قريبا ذكرا ليكون إمبراطورا صوريا. فمن ناحية، أصبحت العقيدة أن الإمبراطور الصالح لا يخشى أن يغتصب عرشه، ويقال إن تراجان (98-117م) سلم قائد الحرس الإمبراطوري سيفا قائلا له، “إذا حكمت جيدا، فاستخدم هذا من أجلي، وما لم يكن كذلك، استخدمه ضدي”. من ناحية أخرى، كان الإمبراطور السيئ يرى تهديدات محتملة لسلطته في كل مكان، ما يدفع الخلفاء المحتملين للقضاء عليه، كما فعل قسطنطينوس الثاني مع ابن عمه جالوس، حيث رفعه إلى مرتبة القيصر ثم أعدمه بتهمة التآمر المشتبه به.
في أزمة القرن الثالث، يبدو أن اغتصاب العرش قد انتشر على نطاق واسع، رغم أنه بسبب الهشاشة في طبيعة المصادر غالبا لا تعرف تفاصيل كيف حل إمبراطور محل آخر. حكم العديد من الأباطرة بضع سنوات فقط. ويبدو أن نمط اغتصاب السلطة قد اندمج مع الثورات الإقليمية، حيث أسس الغال “إمبراطورية الغال” مع أباطرتهم (بوستوموس وآخرون)، وفي الشرق، ادعت زنوبيا من تدمر حكم المقاطعة العربية الرومانية وسوريا ومصر. ومع ذلك، لا يمكننا معرفة مدى دعم هذه الإمبراطوريات الانفصالية من قبل سكان المقاطعات غير الراضين عن الحكم الروماني.
كما يفاخر القرنان الرابع والخامس بعدد كبير من المغتصبين، ما أدى في النهاية في منتصف القرن الخامس إلى انتهاء الإمبراطورية الرومانية الغربية. واختار آخر مغتصب للسلطة، واسمه أودواكر، أن يصبح ملكا لإيطاليا بدلا من أن يكون إمبراطورا رومانيا.
المغامرون العسكريون
غير أن تهميش النخب الاجتماعية التقليدية والممارسات السياسية مثلت للأباطرة الجنود في أواخر القرن الثالث مشكلة بالغة التعقيد: كيف كيف يمكن لمثل هؤلاء المغامرين العسكريين من ذوي الأصول المتواضعة مثل كلاوديوس الثاني (268-270) أو أوريليان (270-275 ) أو بروبس (276-282) أن يرسخوا سلطتهم ويعطوا رعاياهم إحساساً بالشرعية؟. كيف يمكن أن ينظروا إليهم إلا على أنهم مغتصبون انتهازيون مقارنة بإمبراطور من ذوي الدماء الزرقاء مثل ألكسندر سيفروس أو امبراطور أرستقراطي من الاسر الكبيرة مثل جالينوس؟. على مستوى أكثر جوهرية، من الواضح أن الهزائم العسكرية والانقلابات وعمليات اغتصاب العرش والحروب الأهلية في القرن الثالث قد فعلت الكثير لخفض قيمة عملة منصب الإمبراطور: كيف يمكن استعادة قيمته ومصداقيته؟.
من المفيد أن نشهد على مدار أواخر القرن الثالث ظاهرتين هامتين لهما معنى في المقام الأول في سياق هذه الأزمة المتعلقة بالشرعية من جانب منصب الإمبراطور بشكل عام والجنود الاباطرة على وجه الخصوص. أولا، أحاط الأباطرة أنفسهم بشكل متزايد باحتفالات متقنة. إذا كان الإمبراطور لا يستطيع الاعتماد على كرامة النسب والمحتد في تحديد الدرجة المطلوبة للمسافة الاجتماعية بينه وبين رعاياه البارزين، فإن هذه المسافة يمكن اعادة تحديدها من خلال الرمز، بالوسائل الاحتفالية. ثانيا، تم التركيز بشكل متزايد على الشخصي والمباشر في العلاقة بين الأباطرة المفردين والآلهة المفردين. وهكذا يذكر أن أوريليان دعا إلى عبادة إله واحد موحد، هو الشمس التي لا تهزم او Sol Invivtus التي ادعى انه نائبها على الأرض. كانت هذه العبادة مشهورة بالفعل لدى العديد من زملاء أوريليان الجنود من شمال البلقان، حيث توجد عبادة الشمس العليا من اليونانية. ومن المعروف انه مع تغير الوضع الشخصي الاجتماعي لأولئك الذين جاءوا لممارسة السيادة على العالم الروماني، أصبحت الطوائف والأديان الجديدة أكثر وضوحا في الحياة العامة للإمبراطورية (11).
بصعود ماكسيمينوس التراقي إلى السلطة، دخلت روما في خمسة عقود ما ينظر إليه بعض المؤرخين على أنه فترة “انتقالية”، ولكن معظمهم يشيرون إليها على أنها أزمة أو فوضى أو انهيار داخلي أو شيء مشابه. وسط قائمة لا نهاية لها على ما يبدو من الأباطرة والمغتصبين والمتمردين والخارجين عن القانون، الذين قتلوا جميعهم تقريبا، واجهت الإمبراطورية تحديات خطيرة من البرابرة خارج حدودها والانهيار الاقتصادي داخلها. بمعنى ما، لم يكن هناك شيء جديد فيما يتعلق بهذه المشاكل، ولم تكن روما غريبة عن الاقتتال الداخلي بين الأسر الحاكمة، والحروب الأهلية، واغتصاب السلطة، وحركات التمرد، والغزوات البربرية، والصراعات الدينية، والكوارث العسكرية، والتضخم، وتعطيل التجارة، والتحصيل الضريبي القاسي وغير العادل، والأوبئة والتأثير المفرط للجيش على السياسة: حتى الآن تعاملت روما معهم واستطاعت البقاء على قيد الحياة. الآن على الرغم من ذلك، حدثت العديد من هذه المشاكل في نفس الوقت، وكل شيء غذى كل شيء آخر في عواء يصم الآذان من ردود الفعل: المشاكل الخارجية والداخلية والعسكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية كلها عززت بعضها البعض بطرق غير مسبوقة ومخيفة للغاية.
إمبراطوريات منشقة
أثناء حكم الإمبراطور جالينوس (253-260)، كان ماركوس كاسيانيوس لاتينيوس بوستوموس حاكما لجرمانيا العليا والسفلى. عندما وقع الإمبراطور فاليريان في أسر الفرس، تُرك جالينوس بمفرده للدفاع عن الإمبراطورية وهذا شجع بوستوموس على تأكيد سلطته. أرسل جالينوس سالونينوس ابنه ووريثه، إلى منطقة بوستوموس من أجل سلامته ومعه سيلفانوس، قائد الحرس الإمبراطوري، لحمايته. كان بوستوموس قد هزم بالفعل القبائل الجرمانية الغازية التي قامت بغارات على أراضيه لكنه كان محدودا في سلطاته بحكم منصبه، فهو مجرد حاكم إقليمي، وليس إمبراطورا، ويفتقر إلى السلطة التي شعر أنه بحاجة إليها للدفاع عن أراضيه. كان جالينوس مستغرقا كلية في معاركه الخاصة، ولم يكن سالونينوس في كولونيا قادرا أو غير راغب في الالتزام بمستوى القيادة في المنطقة التي شعر بوستوموس أنها ضرورية.
في عام 260، زحف بوستوموس على كولونيا، واستولى على المدينة، وأعدم سالونينوس وسيلفانوس، ثم نصب نفسه إمبراطورا للمنطقة. وأرسل رسائل إلى جالينوس يشرح فيها لماذا تصرف على هذا النحو، وأعلن ولاءه لروما، ووعد بأنه لن يرفع السلاح ضد الإمبراطورية أو يتعدى على أي أراض رومانية. على الرغم من ذلك، لم يستطع جالينوس السماح لمثل هذا الجزء الكبير من إمبراطوريته – بلاد الغال وجرمانيا وإسبانيا وبريطانيا – بالانفصال عن الإمبرطورية ببساطة. في عام 263 م قاد جالينوس قواته إلى بلاد الغال في محاولة لطرد بوستوموس لكنه أصيب بسهم في المعركة وانسحب.
واصل بوستوموس حكمه، وحافظ على وعده بحماية روما والدفاع عنها، حتى قُتل على يد قواته في عام 269 عندما رفض السماح لهم بنهب إحدى مدنه (ماينتس في ألمانيا الحديثة) التي تمردت. أعلن ماريوس وهو حداد (وربما جندي في الجيش) إمبراطورا (269) من قبل القوات ولكن تم اغتياله بعد ذلك بوقت قصير، وأصبح فيكتورينوس (269-271 م) إمبراطورا. على الرغم من أن فيكتورينوس كان قائدا عسكريا قديرا، إلا أن عدم قدرته على إبقاء يديه بعيدا عن زوجات الرجال الآخرين أدى إلى مقتله على يد أحد قادته، وصعد دوميتيانوس (271) إلى عرش الإمبراطور. هُزم في معركة من قبل تيتريكوس الأول (271-274)، وهو مسؤول وقائد عسكري قدير ويعتبر الوريث الحقيقي الوحيد لبوستوموس.
جعل تيتريكوس الأول ابنه (المسمى أيضا تيتريكوس) إمبراطورا مشاركا له لتقاسم مسؤوليات الحكومة وإدارة الإمبراطورية بكفاءة أكبر. استقر في المنطقة، وأخمد تمرد القبائل الجرمانية، لكن حكمه انتهى على يد أوريليان في 274 في معركة شالون. سار أوريليان إلى إمبراطورية الغال بعد هزيمة واستيعاب إمبراطورية تدمر التي تشكلت في عهد زنوبيا، زوجة الحاكم الروماني الراحل للمنطقة أذينة.
عندما وقع الإمبراطور فاليريان في أسر الفرس في عام 260، ولم يستطع جالينوس فعل أي شيء حيال ذلك، قام الحاكم الروماني لسوريا، أذينة بتكوين جيش وهاجم الفرس. على الرغم من أنه فشل في تحرير فاليريان، إلا أنه دفع القوات الفارسية للتراجع عن حدود الجانب الشرقي من الإمبراطورية الرومانية. لقد خدم أيضا جالينوس من خلال المساعدة في إخماد تمرد داخل الإمبراطورية من قبل مغتصب محتمل، ومن أجل هذه الجهود، جعله جالينوس حاكما للجزء الشرقي بأكمله من الإمبراطورية الذي كان يمتد من سوريا عبر بلاد الشام.
قُتل أذينة في رحلة صيد عام 266/267، وأصبحت زوجته زنوبيا وصية على ابنهما الصغير وهب اللات. كانت زنوبيا، مثل بوستوموس، حريصة على عدم إبعاد مملكتها عن روما أو استعداء الإمبراطور، لكنها دخلت في مفاوضات مع الدول المجاورة، وضمت مصر، وأصدرت عملتها الخاصة، وطلبت بأن تخاطب هي وابنها بألقاب لا تستخدمها إلا الأسرة الحاكمة في روما.
كان لزنوبيا بلاطها الخاص وخاتمها الخاص وجيش وقائد أعلى للقوات وكانت إمبراطورة في إمبراطوريتها في كل شيء باستثناء اللقب الرسمي. ويبدو أنها كانت تأمل، مثل بوستوموس، أن تبقى على علاقة جيدة مع روما وتؤدي الخدمات العسكرية التي لا تفيد سوى الإمبراطورية، وأن تترك وحدها لحكم المنطقة وربما يتم اختيار ابنها يوما ما ليكون إمبراطورا.
وتركت زنوبيا وحدها في حين كان أباطرة روما يخوضون حروبا دائمة ضد التهديدات الخارجية وضد بعضهم البعض، ولكن عندما جاء أورليان إلى السلطة، وجه انتباهه إلى الشرق في أسرع وقت ممكن. وفي معركة أنطاكية في 272، هزم قوات زنوبيا وجعلها تتراجع إلى حمص حيث هزمها في معركة أخرى. مع هزيمة زنوبيا وانضمام إمبراطورية تدمر ثانية إلى روما، سار أورليان غربا وهزم تيتريكوس الأول في 274، وبهذا قضى على إمبراطورية الغال.
أظهر أورليان الرحمة لكل من زنوبيا وتيتريكوس الأول، وكذلك معظم المدن والبلدات التي اجتاحها، وبعد استعادة الإمبراطورية شرع في معالجة الأسباب الكامنة وراء أزمة القرن الثالث. ومن المرجح أنه كان يعتقد أن إظهار الرحمة إزاء أعدائه من شأنه أن يحول دون حدوث عمليات تمرد أخرى ولكنه لم يعش ليكتشف ذلك حيث اغتيل عام 275 م على يد قادة جيشه.
إصلاحات ديوكلتيانوس
استمرت أزمة القرن الثالث وعهد أباطرة الثكنات بعد أوريليان حتى وصل ديوكلتيانوس إلى السلطة في 284. طور ديوكلتيانوس سياسات أفضل أباطرة الثكنات، وهما جالينوس وأوريليان، في إصلاح الجيش، وإحكام حدود الإمبراطورية، وكذلك إدخال إصلاحات في العملة والحكم. وقضى نظام الحكم الرباعي (أي حكم الأربعة) الذي وضعه بتقسيم عمل الحكم بين رجلين يكون لهما خليفتان موجودان بالفعل عند تولي مناصبهما، وكفل هذا سهولة الخلافة ومنع ظهور المغتصبين المحتملين.
طوى التاريخ عهد الأزمة وأباطرة الثكنات حيث ذهب ديوكلتيانوس إلى أبعد من ذلك في تقسيم الإمبراطورية إلى قسمين – الإمبراطورية الرومانية الشرقية والإمبراطورية الرومانية الغربية – حيث أدرك أن الإمبراطورية قد اتسعت بحيث يصعب على شخص واحد أو حتى أربعة أن يحكموها. كان الخطأ الذي وقع فيه معظم أباطرة الثكنات هو الاعتقاد بأنه يمكن للمرء أن يسخر السلطة السياسية في المقام الأول لصالح الفرد بدلا من مصلحة الدولة والمواطنين. ومن هنا يمكن استبدالهم بسهولة عندما لا تكون أساليبهم أو خياراتهم الشخصية مناسبة للجيش أو المواطنين. لم يكن لدى أي من هاتين المجموعتين ما تخسره في استبدال حاكم أناني بآخر يفضلونه. أصبح هذا النموذج مقبولًا لدرجة أنه حتى أفضل الأباطرة لم يشعروا بالأمان في مواقعهم. فقط بعد إصلاحات ديوكلتيانوس سيتغير النموذج ويضمن مستقبل روما للأجيال القادمة.
أسباب الأزمة
كانت الأسباب المباشرة لأزمة القرن الثالث هي غزوات الفرس الساسانيين والبرابرة الجرمانيين. وكانت الأسباب طويلة المدى جزءا لا يتجزأ من الجغرافيا الإمبراطورية. كانت الإمبراطورية الرومانية تغطي منطقة جغرافية شاسعة من بريطانيا غربا حتى نهر الراين والدانوب في الجنوب وشمال إفريقيا وآسيا الصغرى وسوريا ومصر وحدود بلاد ما بين النهرين.
كان السفر والاتصالات بطيئين وغير موثوقين. وكان عدم الثقة في القوة المركزية للرد في الوقت المناسب، والمناطق الحدودية التي تواجه غزوا محليا أو حربا أهلية في مكان آخر هو السبب في دعم القوى المحلية لمرشحها لمنصب الإمبراطور لاستعادة النظام المحلي. في الأصل، قد يفقد الأشخاص عندئذٍ الثقة في الإمبراطور الذي يعد غير قادر على السيطرة على المناطق الطرفية. أعقب ذلك حلقة مفرغة من الثورات والانقلابات، مع ظهور أباطرة منشقين في بلاد الغال والشرق الأدنى.
سبب آخر طويل الأمد هو تطور عهد الزعامة (الفترة التي تبدأ بتتويج أغسطس إمبراطورا وتنتهي بنهاية أزمة القرن الثالث). سعى أغسطس إلى تجريد مجلس الشيوخ جزئيا من عسكرتهم عن طريق الحد من وصولهم إلى مواقع القيادة العسكرية. قام الأباطرة بترقية عدد صغير نسبيا من أعضاء مجلس الشيوخ كقادة عسكريين ذوي خبرة. أمضى معظم أعضاء مجلس الشيوخ سنة أو سنتين فقط كضباط رفيعي المستوى لكن عديمي الخبرة. روج الأباطرة بشكل متزايد للفرسان كضباط عسكريين ومديرين مدنيين. وكانت النتيجة كادرا من الضباط العسكريين ذوي الخبرة من مرتبة الفرسان أو تمت ترقيتهم إلى مجلس الشيوخ (كان ديسيوس وفاليريان من أعضاء مجلس الشيوخ عند صعودهم للعرش)، وكان لهم علاقة وثيقة بجيوشهم. اعتبر هؤلاء الرجال أن السلطة الإمبراطورية هي من صنع الجيش، وخلال الأزمة تم رفعهم إلى العرش (في كثير من الأحيان) وعزلهم واغتيالهم من قبل الجيش. كان مجلس الشيوخ نفسه الآن بعيدا وغير فعال.
المحسوبية في تحصيل الضرائب
سبب آخر كان الضعف الاقتصادي، لاسيما في المعروض النقدي. كانت ضرائب الإمبراطورية الرومانية منخفضة نسبيا (مقارنة بالمجتمعات الحديثة). علاوة على ذلك، كان مجتمعا يتسم بالمحسوبية، حيث يمكن للأباطرة ومندوبيهم تخفيف الضرائب أو منح حصانة من الضرائب لمكافأة أو تمييز أفراد وطوائف وجماعات بعينها (لم تفرض ضرائب على سكان إيطاليا منذ 167 قبل الميلاد). وبالتالي كانت الإيرادات غير مؤكدة. وقد يلجأ الأباطرة إلى تدابير مؤقتة، مثل بيع الممتلكات الإمبراطورية بالمزاد العلني أو مصادرة ممتلكات الأثرياء المتهمين بالتحريض على الفتنة (وهي سياسة غير محبوبة). اعتمدت الإمبراطورية أيضا على عملتها الفضية، الديناريوس. لم يكن هناك نقود ورقية ولا مفهوم للإنفاق بالعجز. بدلا من رفع الضرائب، لجأ أباطرة الأزمة إلى خفض قيمة العملة، وذلك بغش المحتوى الفضي للديناريوس بالمعدن الأساسي لسك المزيد من العملات المعدنية. ومع فقد الجمهور للثقة في العملة، ارتفع التضخم، ما زاد من ضعف الاقتصاد. تسببت الغزوات والحروب الأهلية أيضا في حدوث اضطراب اقتصادي محلي. في ظل هذه الظروف، ربما كان دافع الجيوش من دعم المرشحين الإمبراطوريين هو الحصول على الدوناتيفا Donativa وهي الهبات والهدايا المالية، كما في الحروب الأهلية السابقة الموثقة بشكل أفضل.
إلى جانب الاضطرابات الداخلية الرئيسة من الأقليات أو السكان الأصليين، كانت حكومة روما في منتصف القرن الثالث في حالة اضطراب باستمرار، وجلبت القوى الإقليمية الأباطرة إلى السلطة وأزالتهم بشكل متكرر. قلة من الأباطرة استمروا أكثر من فترة قصيرة. لعبت المقاطعة العربية من الإمبراطورية دورا ما في الاضطرابات. على الرغم من عدم حدوث نزاعات أهلية داخل المقاطعة، إلا أن شخصيات قوية ظهرت بالفعل من المنطقة. في ظل حكم جورديان الثالث، أدى صعود فيليب إلى وصول مقاطعة عربية إلى أعلى مركز قوة في الإمبراطورية الرومانية – وهي منصب الإمبراطور. وُلِد فيليب لعائلة إقليمية ذات مكانة مريبة في سوريا الحديثة (المقاطعة العربية آنذاك)، وترقى في الرتب العسكرية للاستيلاء على السلطة خلال الفترة المضطربة. تسلط ياسمين زهران الضوء على حياة فيليب كدراسة حالة للتحيز الروماني ضد العرب. صحيح أنه في مصادر بعد القرن الثالث مثل زوسيموس وزوناراس، سميت المنظفة العربية “أمة سيئة السمعة”. ولا يعامل فيليب معاملة طيبة، ويخضع للتصنيف التقليدي للشعوب العربية “تجار وبرابرة”. بعض هذا قد يكون بسبب تلطيخ ديسيوس، خليفته الإمبراطوري، لاسمه. ومع ذلك، حتى اليوم يعتبر فيليب إمبراطورا لم يستوف حقه من الدراسة. ومن المعروف أنه شهد نهاية الغزو الفارسي وترأس الذكرى الألفية لروما. لقد رفع وضع العديد من المدن العربية إلى مكانة مرموقة، ما يشير إلى التأثير الذي اكتسبته هذه المدن في الفترة التي سبقت حكمه (أو ربما ببساطة منح الامتيازات للجزء الخاص به من الإمبراطورية). يدور الكثير من النقاش حول علاقته بالدين (حيث يزعم البعض أنه هو نفسه مسيحي، على الرغم من عدم وجود أدلة دامغة على ذلك). من المؤكد أنه ليس من قبيل الصدفة أن يُعرف فيليب باسم “فيليب العربي”، لكنه هو نفسه ليس له أهمية كبيرة هنا، بخلاف إظهار عامل رئيس آخر للاضطرابات الداخلية التي جعلت التهديدات الخارجية للمنطقة العربية باهتة. كان مقر الإمبراطورية الرومانية في حالة تغير مستمر، وكان لدى أعضاء النخبة العسكرية من أي جزء من الإمبراطورية فرصة للاستيلاء عليه لأنفسهم. مع الكثير من الاضطرابات، لم تكن الحدود العربية الصغيرة والهادئة نسبيًا مصدر قلق لأي شخص بخلاف أولئك المرتبطين بها مباشرة. من غير المحتمل أن يتم وضع أي إستراتيجية كبيرة للرومان، ناهيك عن تنفيذها، على الجبهة العربية في فترة كهذه، كان مستوى التهديد الداخلي مرتفعًا جدًا لفترات طويلة من الوقت.
لم يقترب أي تهديد خارجي من المقاطعة العربية حتى ظهور بلاد فارس في أوائل القرن الثالث، وحتى ذلك الحين، لم تذكر أي سجلات أن المدن العربية تعرضت للهجوم. في هذه الحروب الفارسية لاستعادة بلاد ما بين النهرين، برز فيليب العربي، وهو إمبراطور ينحدر من منطقة البترائية العربية، إلى الصدارة. قام بتسوية الحرب من خلال الدفع إلى بلاد فارس. على الرغم من عدم ارتباطه بشكل مباشر بحكم بالمنطقة العربية في هذا الوقت، إلا أنه يوضح أن أبناء المقاطعات العربية، حتى من أصول محلية، كانوا قادرين على شق طريق لأنفسهم داخل الجيش والحكومة في روما. ومن المعروف، حتى، أن شقيق فيليب عمل محافظًا إمبراطوريا قبل صعود فيليب.
الحرب بين الجنرالات المتنافسين
في حين أنه من الصعب في كثير من الأحيان فصل السبب عن النتيجة في مجتمع يعاني من أمراض خطيرة مثل تلك التي كانت في أواخر الإمبراطورية الرومانية، يبدو أن السرطان الذي قتل الإمبراطورية في النهاية كان سياسيا. أدت الحرب المستمرة بين الجنرالات المتنافسين الذين يسعون وراء العرش إلى تقويض الاقتصاد الروماني وقتل الشعور بالوطنية الذي كان مصدر قوة الرومان الأكبر.
ساهم عجز الأباطرة عن السيطرة على الجيش بشكل كبير في الأزمة الاقتصادية للإمبراطورية المتأخرة. اضطر الأباطرة أحيانًا إلى فرض ضرائب على الناس بمعدلات مرتفعة للغاية من أجل دفع الرشاوى المتزايدة باستمرار والمطلوبة لتهدئة الجيش وجنرالاته، على الرغم من أن أي مبلغ لم يكن كاف أبدا لوقف الانقلابات المستمرة. أصبح تحصيل الضرائب أمرا صعبا لدرجة أن نبلاء المقاطعات، الذين سعوا ذات مرة للحصول على وظائف في المجالس البلدية، بذلوا الآن جهودا كبيرة لتجنبها، حيث أجبرت الحكومة الرومانية أعضاء المجلس على تعويض أي نقص في عائدات الضرائب من ممتلكاتهم الخاصة. ثبت أن تجنب الخدمة الحكومية مستحيل، حيث أجبر المسؤولون الرومان أولئك الذين لديهم أي ثروة (حتى الأطفال الذين ورثوا ممتلكات، في حالات قليلة) على الخدمة. أضيفت إلى الضرائب الرسمية ضريبة غير رسمية: طالب المسؤولون الفاسدون في كثير من الأحيان بأموال من المواطنين لحمايتهم.
عندما ثبت أن الضرائب المرتفعة غير كافية لزيادة الإيرادات المطلوبة، قام الأباطرة (بداية من سيفيروس) بتقليل قيمة العملة المعدنية، وهي شكل من أشكال الضرائب عن طريق التضخم. أدى التضخم المفرط الناتج عن ذلك إلى اكتناز الفضة، ما أدى إلى زيادة تخفيض قيمة العملة، وبالتالي إلى تسريع التضخم. كان سعر مكيال واحد من القمح (8.6 لترات)، 2 سيسترسيس في عام 150 بعد الميلاد، ولكنه أصبح يكلف 400 سيسترسيس في عام 300، أي ارتفع 200 ضعف خلال 150 عاما. وبحلول القرن الخامس، شكلت الفضة 2 في المئة فقط مما يسمى العملات الفضية في روما، والتي كانت 75 في المئة من الفضة في حكم ماركوس أوريليوس. بالنسبة لمعظم الفترة الإمبراطورية المتأخرة، كانت العملة الرومانية عديمة القيمة لدرجة أن الحكومة الرومانية رفضت قبولها في دفع الضرائب، وطلبت سلعا بدلا منها. تم توزيع هذه السلع على الجنود كمكافآت، لأن التضخم محق أجورهم.
قامت روما بإجراء القليل من التحسينات التكنولوجية في التصنيع أو النقل أو الزراعة. وذات مرة، عندما عرض مهندس نقل بعض الأعمدة إلى منطقة الكابيتول باستخدام جهاز ميكانيكي، دفع له الإمبراطور فيسباسيان (69-79 م) مبلغا من المال لكنه دمر جهازه، قائلا، “يجب أن أضمن دائما أن تكسب الطبقات العاملة ما يكفي من المال لشراء الطعام لأنفسهم”.
أدى التضخم المفرط إلى تثبيط جميع أشكال النشاط الاقتصادي وتسبب في انخفاض عدد سكان المدن الغربية، حيث أُجبر أفراد الطبقة الوسطى والدنيا على الانتقال إلى الضياع الكبرى، حيث أصبحوا أقنانا للأرستقراطيين، وورث أطفالهم هذه الحالة. في الواقع، بدأت مجموعة من المناصب العليا والمنخفضة في الحكومة، بما في ذلك منصب الجندي العادي، تنتقل وراثيا، وتم منح النقابات السيطرة القانونية على الحرف المختلفة. لم يبدأ الإقطاع في العصور الوسطى، كما يُعتقد عموما، ولكن في أواخر فترة الإمبراطورية (على الرغم من أن انهيار الإمبراطورية عززه إلى حد كبير، حيث اضطرت كل منطقة إلى مزيد من الاكتفاء الذاتي العسكري والاقتصادي).
بالإضافة إلى ذلك، عانت الطرق من التدهور وانعدام الصيانة، ما أدى إلى إلحاق ضرر بالغ بالتجارة. اتبع الرومان نظاما مبذرا في زراعة المحاصيل أدى إلى انخفاض الإنتاج الزراعي. أدت موجة البرد في المناخ العالمي إلى تفاقم هذه المشكلة وجذب انتباه غير مرغوب فيه من قبل القبائل الجرمانية في الشمال الأكثر برودة.
الفوضى والدمار والتضخم الناتج عن عدم الاستقرار السياسي قوضت الثقة والوطنية الرومانية التقليدية. ترك العديد من الرومان الجيش والسياسة. بشكل عام، لجأوا إلى الدين ليلتسموا فيه العزاء. حققت طوائف مثل باخوس الرومانية، والفارسية (الهندية الأصل) ميثرا، وفريجيان سايبيل، وإيزيس المصرية، شعبية داخل الإمبراطورية (12).
في السنوات من 235 إلى 249، لم تعد هناك أسرة مكثت في السلطة أكثر من بضع سنوات، وكانت الإمبراطورية تحت سيطرة سلسلة من الأباطرة المترنحين الذين تبع بعضهم البعض في خلافة سريعة. الحرب القاسية في الشرق (ضد الفرس) وفي البلقان كلفت الكثير من الجهد وانطوت على خطر اغتصاب العرش. كانت الأموال انخفضت ولا تزال المشاكل دون حل. على الرغم من ذلك، خارج مناطق الحرب سادت الاستمرارية في الفترة 235-249، في تلك الأجزاء لم يكن هناك بعد جو الأزمة. حكم ماكسيمينوس التراقي، وهو رجل عسكري، من فئة الفرسان من 235 إلى 238. كان آخر إمبراطور يحارب الألمان بنجاح داخل أراضيهم. في 235، وصل حتى إلى منطقة هانوفر، حيث خاض معركة، كما علمنا من من البقايا الأثرية. كان ماكسيمينوس قاسيا للغاية من جمع الاموال، ولذلك واجه تمردا في 238، والذي بدأ بين ملاك الأراضي المضغوطين ماليا في شمال إفريقيا الذين أعلنوا حاكم منطقة إفريقيا، جورديان البالغ من العمر 80 عاما، إمبراطورا. أصبح ابنه وسميه جورديان الثاني إمبراطورا مشاركا. حشد مجلس الشيوخ في روما، الذي ارتفع إلى المناسبة، جيشا ونظم بنجاح مقاومة عند معقل أكويليا، بالقرب من تريست الحديثة في شمال شرق إيطاليا، التي يتعين على ماكسيمينوس، القادم من مناطق الدانوب، أن يمر بها. خلال الحصار، قتل ماكسيمينوس من قبل جنوده الذين عانوا من الجوع.
بعد فترة حكم قصيرة وغير حاسمة لاثنين من أعضاء مجلس الشيوخ المسنين، وضع الجنود في روما حفيدا لجورديان على العرش، تحت اسم جورديان الثالث (238-244). اضطر أحد جنرالاته إلى محاربة القوط، الذين دخلوا الآن التاريخ الروماني، في البلقان عام 238، لكن الحرب الكبرى في ذلك العهد كانت ضد الملك الفارسي شابور الأول، في 242-244.
ذهب جيش روماني كبير إلى الشرق لتصفية الحسابات مع الفرس، وانتصر في المعارك الأولى، لكنه واجه مشكلة لوجستية، وخسر معركة كبيرة عند مدخل جنوب بلاد ما بين النهرين وتراجع. توفي الإمبراطور الشاب متأثرا بجراحه. وخلفه المحافظ الامبراطوري، فيليب الملقب بالعربي، وصنع سلاما غير مشرف للغاية مع شابور الأول. كان إمبراطور التالي من فئة الفرسان وأخصائيا عسكريا ولوجستيا من الشرق (حكم 244-249). وفي طريقه من الشرق إلى روما، كان عليه محاربة الغزاة في البلقان، في داسيا، وهو ما فعله بنجاح في 248.
احتفل بالألفية الأولى لروما، لكنه وقع في المشاكل بعد عام. تم إرسال أحد أفضل أعضاء مجلس الشيوخ، وهو ديسيوس، الذي نشأ من أراضي الدانوب، إلى البلقان لقمع اغتصاب للسلطة، ولكن بعد ذلك تم إعلانه إمبراطورا هو نفسه. أخذ جيشا كبيرا من منطقة الدانوب إلى إيطاليا، وهزم فيليب، وأصبح إمبراطورا، ولكن بهذه الطريقة فتح البوابات لغزوات أكثر خطورة في منطقة الدانوب السفلى. أخذ ديسيوس (الإمبراطور 249-251) جيشه إلى هذه المنطقة، لكنه لم يستطع طرد القوط والغزاة الآخرين. هزمه ملك الحرب القوطي كنيفا وقتل في ساحة المعركة. بقي القوط وغزاة آخرون في ما يعرف الآن ببلغاريا لأكثر من عشرين عاما، ينهبون الناس ويرحلونهم.
بعد بعض الأباطرة الي كان وجودهم في العرش كثيرا والمغتصبين والصراع الأهلي بين الجيوش الرومانية أصبح السناتور الإيطالي فاليريان إمبراطورا (253-260). عين ابنه جالينوس شريكا للإمبراطور في الحكم (253-268). في عصرهما، كادت الإمبراطورية أن تنهار بسبب تراكم الحروب وحالات اغتصاب السلطة. من 252 إلى 266 كانت هناك حرب خطيرة ضد الفرس. نهب القوط والقبائل الأخرى أراضي الدانوب وشمال وغرب آسيا الصغرى واليونان بانتظام. هاجم الفرانكس والألامنيون في الغرب. فقدت الإمبراطورية داسيا والزاوية بين نهر الراين والدانوب في جنوب غرب ألمانيا الحديث. لم تكن بلاد الغال وإسبانيا وإيطاليا آمنة أيضا. تعرض شمال إفريقيا ومصر أيضا بشكل منتظم للغزو من قبل عصابات النهب من خارج الحدود. كما انتشر الطاعون مرة أخرى، كما كان في عهد الإمبراطور ماركوس أوريليوس، من عام 252 فصاعدا، لأكثر من عقدين. في عام 260، هزم الفرس فاليريان وأسروه وهو عار لم يسمع به في التاريخ الروماني. كان هناك أيضا العديد من محاولات اغتصاب السلطة، على جميع الحدود حيث ساءت الأمور. وكاد بعض هؤلاء يقسمون الإمبراطورية. وفي بلاد الغال وراينلاند وبريطانيا وشبه الجزيرة الأيبيرية، وجد ما يسمى بإمبراطورية الغال من 260 إلى 274 تحت حكم المغتصب بوستوموس وخلفائه. في الشرق، هزم أمير تدمر أذينة، جنبا إلى جنب مع القوات الرومانية المتبقية، الجيوش الفارسية الغازية، تحت سيطرة الإمبراطور جالينوس، ثم هاجم الفرس في أراضيهم ، في 262 و 266، ولكن في 268 اغتيل في شجار خاص. حاول خليفته، وهب اللات، ووالدته زنوبيا، إنشاء إمبراطورية تدمر المستقلة بين روما وبلاد فارس.
ومن 249 إلى حوالي 284، كان على الإمبراطورية الرومانية أن تعاني من أزمة حقيقية. اندلعت الحروب على جميع الحدود وتقاتلت الجيوش الفردية بعضها البعض في صراعات متكررة باستمرار على السلطة. تعاقب عدد غير قليل من الأباطرة والمغتصبين على السلطة بسرعة مذهلة. يُعرف الأباطرة الذين حكموا بين عامي 235 و 284 باسم “الأباطرة الجنود”، لأن قوتهم كانت تعتمد حصريا على قوة جنودهم ولأنهم حصلوا على تلك السلطة من خلال الانقلابات العسكرية. كل ما كان بإمكان مجلس الشيوخ والسكان المدنيين القيام به هو الانتظار ليروا أي جنرال سيخرج منتصرا من الصراعات المتتالية. من وقت لآخر، تعرضت وحدة الإمبراطورية للتهديد، عندما حكم أباطرة مختلفون أجزاء مختلفة من الإمبراطورية.
دمرت الحرب أجزاء كبيرة من الإمبراطورية مرارا وتكرارا بين 249 و 284 ولم تدفع أي ضرائب تقريبا. في مثل هذه المناطق وانخفض الفائض الزراعي. دمرت الإمبراطورية بأكملها بسبب المجاعة والأوبئة، وخاصة المناطق التي مزقتها الحرب.
هناك، وفي المناطق المجاورة، اتحد الجنود الهاربون والعبيد الهاربون والمزارعون المفلسون وغيرهم من الرجال اليائسين في عصابات كبيرة من اللصوص. حدث شيء مشابه من قبل، في السنوات التي تلت عام 180، في أعقاب حروب الإمبراطور ماركوس أوريليوس في المناطق الواقعة على طول نهر الدانوب الأوسط والأعلى.
اضمحلت التجارة في المناطق التي مزقتها الحرب بسبب الظروف غير الآمنة وانخفاض القوة الشرائية. سقطت العديد من المدن في المناطق المنكوبة في حالة خراب أو تقلصت إلى نسب أصغر. دخل أعضاء المجالس البلدية في ضائقة مالية، عالقين بين تناقص أرباح ضياعهم والمطالب المتزايدة للجيوش ومزودي الجيش بالمؤن وجباة الضرائب الذين يسافرون عبر مناطقهم. علاوة على ذلك، كان عليهم تحمل تكاليف الدفاع المحلي (أسوار المدينة، ميليشيات الطوارئ).
أدى تفاعل ارتفاع الأسعار (الذي حدث بشكل خاص من حوالي 274 فصاعدا)، وانخفاض قيمة العملات المعدنية والمدفوعات الإضافية للجنود إلى تحول كامل في النظام النقدي الروماني في هذه السنوات. أُجبر الأباطرة على تلبية جميع مطالب جنودهم لأنهم يدينون بمناصبهم لهم ويحتاجون الجيوش في الحروب العديدة. في المناطق الفقيرة، لم يكن بإمكان النخب المحلية أن يكون لديها ما يكفي من المال المتبقي لتمويل الأعمال الخيرية، وبناء وصيانة المباني الفخمة، والمظاهر الثقافية والترفيه العام. وهناك شك في أن المواطنين الأغنى، أعضاء النخبة العليا، تمكنوا من الإفلات من الأعباء المتزايدة.
لم تكن الأمور ما بين 235 و 284 بهذا السوء في كل مكان في الإمبراطورية. نجت مناطق واسعة (بريطانيا وإسبانيا وأجزاء من آسيا الصغرى وصقلية وأجزاء من شمال إفريقيا ومصر) من الخراب الذي أحدثته الحرب. كنتيجة جزئية لهذا، أصبحت المقاطعات في إفريقيا وآسيا أجزاء أكثر أهمية نسبيا من الإمبراطورية. تدين الإمبراطورية الرومانية بوجودها المستمر في القرن الثالث وانتعاشها الطفيف في القرن الرابع للنجاح العسكري للأباطرة العسكريين الذين حكموا بين 260 و 284 وإلى الإصلاحات التي أدخلها هؤلاء الأباطرة وأكملها ديوكلتيانوس (الذي حكم بين 284-305).
ومع ذلك، في هذه الحروب، اعتبر المواطنون الرومان الحرب بمثابة هامش عادي ومصدر دخل إضافي مربح، وإن كان محفوفا بالمخاطر، لأنه ينطوي على إمكانية الحصول على الغنائم والأرض (في المستعمرات). بالنسبة للنخبة الرومانية، كانت الشهرة العسكرية أرفع رمز للمكانة، وأفضل وسيلة للوصول إلى مهنة مشرفة في الدولة. علاوة على ذلك، كانت النخبة، أكثر من بقية السكان، هي التي تستفيد من الغنيمة. ولدت الحروب العديدة ثروة من الحكايات والأساطير البطولية التي قيض لها أن تؤثر على العقلية الرومانية لعدة قرون. ومرارا وتكرارا كان يجرى حث الرومان على اتباع الأمثلة التي ضربها اسلافهم في البسالة والتقشف (13).
والأمر الأكثر ضررا هو أن الأخلاق العسكرية استمرت في الانهيار. الخمسون عاما التالية شهدت تعاقب ضباط من الجيش يصلون الى السلطة عن طريق التآمر والاغتيال. كان الجنود يعلنون قادتهم أباطرة ليقاتلوا ضد قادة منافسين، ثم يقتلون في نهاية المطاف على ايدي من يشعرون بخيبة الأمل او التذمر (أحيانا من وحداتهم). عدة مرات، كان اثنان أو حتى ثلاثة أباطرة نصبوا أنفسهم وحاولوا أن يحكموا في نفس الوقت. ساد الجنون وارتفع التضخم. كانت هذه واحدة من أحلك فترات روما. وبدا أنها انتهت على يد أمبراطور عميق الفكر حكم 21 عاما، ولكن عند رحيله، واجه الرجال الأقوياء بعضهم البعض مرة أخرى، واستمرت حرب أهلية ثلاثين عاما حتى أمّن قسطنطين الإمبراطورية لنفسه وغير كل شيء.
ويرى ميخائيل روستوفتسيف أنه ليس من الصعب إعطاء صورة عن الوضع العام للإمبراطورية في القرن الثالث، وخاصة في تلك الفترة بعد ألكسندر سيفيروس، ولكن بعض الحقائق البارزة، والتي تم إثباتها بما فيه الكفاية، تصور الخراب الاقتصادي السريع لها وما يقابله من انحدار الحضارة في جميع أنحاء عالم البحر الأبيض المتوسط. من أبرز الظواهر في الحياة الاقتصادية كان الانخفاض السريع في قيمة العملة والزيادة السريعة في الأسعار. نقطة التحول في الانخفاض التدريجي للعملة الفضية وفي اختفاء العملات الذهبية من السوق كان عهد كاراكالا، الذي أحل الأنتونينياس محل الديناريوس. ومن وقته فصاعدا بدأت القوة الشرائية للعملات المعدنية للإمبراطورية تتضاءل بشكل مطرد. الديناريوس الذي كان يساوي في القرن الأول حوالي ثمانية بنسات ونصف بنس، وهبط قليلا في القرن الثاني، ولم يعد يساوي في منتصف القرن الثالث ربع البنس. وارتبط انخفاض قيمة النقود ارتباطا وثيقا بارتفاع أسعار المنتجات الضرورية. لا تتوفر الإحصاءات، ولكن التحقيق في الآلاف من أوراق البردي تظهر بوضوح، على الأقل بالنسبة لمصر، مدى الدمار الذي سببه ارتفاع الأسعار في القرن الثالث ومدى عدم استقرارها طوال القرن، وخاصة خلال النصف الثاني منه، مقارنة بالأسعار المستقرة نسبيا في القرن الثاني (14).
هذا هو السبب في أن جميع مدن الإمبراطورية تقريبا، حتى تلك الواقعة في أكثر المناطق خصوبة، والتي لا تزال تقع في المناطق الجبلية في إيطاليا والمقاطعات، مرت من وقت لآخر بفترات سيئة للغاية من ارتفاع الأسعار. غالبا ما نجد سنوات من المجاعة الحقيقية، اتسمت الأوقات عموما باضطرابات اجتماعية خطيرة، وأُتهم القضاة ومجلس الشيوخ بالإهمال وكبار مالكي الأراضي وتجار الذرة بالتربح. في ظل هذه الظروف كانت أعمال الشغب والمظاهرات شائعة. كان منع مثل هذه الكوارث بعيدا عن السهولة، بل إنه يكلف المدينة مبالغ طائلة حتى في الأوقات العادية. لذلك، كان منصب مشتري الذرة من أكثر المناصب صعوبة وخطورة في حياة مسؤولي البلدية. يظهر هذا المنصب بشكل متكرر في الشرق أكثر من منصب منسق الإمدادات annonae المقابل أو ما شابه ذلك في الغرب. التفسير بسيط: المدن اليونانية، حتى في بعض أجزاء آسيا الصغرى، لم تنتج الذرة الكافية لسكانها، وكانت المحاصيل أكثر تنوعا في اليونان وآسيا الصغرى، بسبب المناخ الحار وندرة الأمطار وعدم انتظامها، مما كانت عليه في أراضي وسط أوروبا وحتى في إيطاليا وإسبانيا وإفريقيا (15).
ويشير روستوفتسيف إلى أن معظم الأباطرة بعد ألكسندر سيفيروس كانوا تلاميذ مخلصين لسبتيموس، ليسوا أقل إخلاصا من الأباطرة من أفراد أسرته. من وقت لآخر، نلاحظ رد فعل قويا ضد تلك السياسة، ومحاولات يائسة للعودة إلى الأوقات المجيدة والمباركة للأنطونيين، ولكن في الواقع تسببت هذه المحاولات في إراقة دماء إضافية وأسفرت عن ولاء أكثر تكريسا من جانب الأباطرة اللاحقين للمبادئ الرئيسة لسياسة سبتيموس.
عسكرة الدولة
من وجهة النظر السياسية، بدأ سبتيموس عسكرة منهجية للحكومة، والتي كانت بالكامل بيروقراطية في عهد أسلافه. كانت البيروقراطية المعسكرة هي شعار المرحلة، وعلى رأس هذه البيروقراطية ملك يتمتع بسلطة استبدادية وراثية في عائلته، وتستند سلطته إلى ولاء الجيش ومسؤولي الدولة وعلى العبادة الشخصية للإمبراطور. وكان إضفاء الطابع العسكري على البيروقراطية يعادل تحويلها إلى الهمجية، حيث أن الجيش الآن يتألف بالكامل تقريبا من فلاحين من الأجزاء الأقل تحضرا من الإمبراطورية ومن أبناء الجنود والمحاربين القدامى المتوطنين. لتحقيق هذه الأهداف -عسكرة الحكومة وأمن السلطة الإمبراطورية – تم اجتثاث الطبقات العليا القديمة تدريجيا من المناصب القيادية في الجيش ومن المناصب الإدارية في المقاطعات واستبدالهم بأرستقراطية عسكرية جديدة. ومثل الأباطرة أنفسهم، نشأت هذه الأرستقراطية من صفوف الجيش الروماني وكانت، مثل الأباطرة، عرضة للتغيير الدائم: يصعد رجال جدد باستمرار من صفوف الجيش ليحلوا محل أولئك الذين تقدموا إلى مواقع في طبقة الفروسية ومقاعد في مجلس الشيوخ.
كان نظام الإدارة الذي تمارسه هذه البيروقراطية العسكرية يوجه بشكل أساسي من أعلى، وكان طابعها نتيجة طبيعية لانعدام الاستقرار المطلق للسلطة الإمبراطورية. يمكن تعريف النظام بأنه نظام إرهاب دائم يتخذ من وقت لآخر أشكالا حادة.
لعب الدور الأهم في الإدارة آلاف من رجال الشرطة من مختلف الطوائف، وجميعهم عملاء عسكريون شخصيون للإمبراطور. كان واجبهم مراقبة الناس عن كثب في كل من المدن والريف، واعتقال أولئك الذين يعتبرون خطرين على الإمبراطور. ربما تم توظيفهم أيضا لقمع أي متاعب وإضرابات قد تنشأ عن الضغط الشديد من قبل الحكومة على السكان في مسألة الضرائب والعمل الإجباري، واستخدام الإكراه الجسدي ضد أولئك الذين فشلوا في دفع ضرائبهم أو أداء الأعباء العامة التي كانوا مكلفين بها.
ومن السمات البارزة لنظام الإرهاب المنظم هذا التطور الإضافي لمبدأ الإكراه في جميع تعاملات الحكومة مع السكان، لاسيما في مجال الضرائب والعمل القسري. وإلى جانب الضرائب، ولكن أكثر قمعا وإن كان لا يقل عنه منهجية في تطبيقه، كان نظام المصادرة للمواد الغذائية والمواد الخام والسلع المصنعة والنقود والسفن وحيوانات الجر والرجال لأغراض النقل وغيره.
تكملة لنظام المصادرة، طلب من الناس العمل الشخصي، الذي اعتمد على طريقة التجنيد والترتيبات لجميع أعمال الطوارئ المطلوبة من قبل الحكومة. كما ساد نظام الإكراه نفسه في تنظيم الأنشطة الاقتصادية للدولة. تم تكليف الأعضاء الأغنياء بالمسؤولية عن زراعة الأرض المملوكة للدولة، وتحصيل الضرائب والسلع والأموال المصادرة، ونقل البضائع والرجال الذين يتم نقلهم لصالح الدولة. ونظرا لأن نجاح النظام اعتمد على قدرته على الوصول بسهولة إلى كل شخص يتعرض للإكراه والاحتفاظ به، كان هناك ميل طبيعي لربط كل فرد بمكان إقامته وبالمجموعة الخاصة التي ينتمي إليها بالولادة وبالمهنة. يجب أن يبقى حارث الأرض في موطنه، ويجب أن يستمر في عمله دون اعتبار لرغباته وميوله. يجب أن يبقى الجندي في المعسكر، وعلى أبنائه أن يلتحقوا بالخدمة العسكرية بمجرد بلوغهم سن معينة. يجب أن يكون عضو الطبقة الأرستقراطية البلدية في متناول اليد في مدينته لتنفيذ الالتزامات المرتبطة بمنصبه. دعي مالك السفينة للبقاء عضوا في مؤسسته طالما كان قادرا على إدارة عمله وهلم جرا
لم يكن هناك شيء جديد في النظام على هذا النحو. لكن في ظل ظروف الثورة الدائمة، اتخذ أبعادا لا مثيل لها، ولأنه لم تستخدم باعتباره موردا ثانويا، ولكن باعتباره المورد الرئيسي للحكومة، فقد أصبح وباءً حقيقيا قوض ازدهار الإمبراطورية وروح سكانها ودمرها. لم يعد مجرد سلسلة من تدابير الطوارئ التي تنفذ في الأوقات الصعبة ويتم إسقاطها بمجرد العودة إلى الظروف الطبيعية، كما كان الحال في ظل الأنطونيين وحتى في ظل سيفيري. عندما توقفت الظروف غير الطبيعية عن أن تكون استثناء وأصبحت هي القاعدة، أصبحت التدابير التي كانت تعتبر تدابير طوارئ مؤقتة هي النظام العادي للإدارة، وأساس نسيج الحكومة بأكمله (16).
انتشار المضاربات
ليس من المستغرب أن تكون المضاربات الوحشية واحدة من السمات المميزة للحياة الاقتصادية، وخاصة المضاربة المرتبطة بالصرف. هناك وثيقتان تشيران إلى العواقب الوخيمة لمثل هذه المضاربات. في زمن سبتيموس سيفيروس، حوالي 209-211 م قررت مدينة ميلاسا في كاريا حماية المصرفيين، الذين كانوا أصحاب الامتياز الخاص بها، ضد الصرف السري الذي كان يجري في المدينة ما تسبب في خسارة فادحة ليس فقط للمصرفيين الذين استمتعوا باحتكار الصرف، ولكن للمدينة ككل. يظهر الجزء الختامي من الوثيقة أن الأمر لم يقتصر على خسارة للمدينة ما دفع مجلس المدينة إلى اتخاذ مثل هذه التدابير القوية. وقال المجلس إن أمن المدينة يتعرض لعدم الاستقرار من قبل قلة من الحاقدين والأشرار الذين يهاجمونها ويسرقون المجتمع. وقال المجلس إن المضاربة تمنع المدينة من الحصول عل الضروريات وإن المجتمع ككل يعاني من الندرة.
وبناء على هذا أيضا تأخر السداد المنتظم للضرائب للأباطرة. المشكلة لم تقتصر على كسر الاحتكار، بل كانت هناك مضاربات جامحة، ربما تتمثل في اكتناز الفضة الجيدة من قبل المستغلين، الذين حصلوا عليها من خلال دفع سعر صرف جيد. هذا يشار إليه في احتجاج أعضاء المجلس الذي تم إلحاقه بالمرسوم. بعد حوالي نصف قرن (في 260 م) في أوكسيرنخوس، خلال فترة حكم ماكريانوس القصيرة وكويتوس، أدى الانخفاض الهائل في قيمة العملة إلى إضراب رسمي لمديري بنوك الصرف. أغلقوا أبوابهم ورفضوا قبول وتبادل العملة الإمبراطورية. لجأت الإدارة إلى الإكراه والتهديدات. أصدر المسؤول العسكري أمرا للمصرفيين بفتح البنوك وقبول وتبادل جميع العملات المعدنية ماعدا المزيفة.
أدى عدم الأمان العام في الحياة التجارية إلى تقلبات في معدل الفائدة الذي كان في القرن الثاني مستقرا مثل الأسعار. والدليل على هذه النقطة هو بالطبع، هزيل ولا يسمح باستنتاجات واسعة ذات طابع عام.امتنع الناس عن اقتراض المال، وفي السوق كان العرض أكثر من الطلب.
كان هذا الكساد الهائل في النشاط التجاري يعود إلى حد كبير إلى الخطر المستمر الذي تعرضت له المقاطعات التقدمية والأكثر ثراء. كانت الغزوات المتكررة للألمان في بلاد الغال وعلى وجه الخصوص كارثة 276 م، عندما تعرضت أغنى أجزاء بلاد الغال للنهب والتدمير وفقدت الكثير من المدن أي قوة للتعافي. وعانت أراضي الدانوب مرارا وتكرارا من دمار مماثل. استولى القوط والسارماتيون على أكبر وأغنى المدن وكان مصير فيليبوبوليس نموذجا. وأخيرا تم التخلي عن مقاطعة داسيا المزدهرة من قبل أورليان أو جالينوس، وكان على السكان أن يهاجروا إلى أقاليم أخرى في الدانوب. حتى تلك المدن التي لم تتعرض للنهب والتدمير من قبل القوط عانت من اضمحلال سريع وكارثي. وخير مثال على ذلك هو بانتيكابيوم (كيرش الحالية) في شبه جزيرة القرم، التي كانت تابعة للقوط منذ منتصف القرن الثالث. لم تكن المدينة قد دمرت لكن ظروف الحياة كما تكشفت عن طريق التنقيب والعملات، تغيرت فجأة وسادها القمع والفقر.
كان الأكثر كارثية هي الحروب المستمرة بين الأباطرة المتنافسين. لم يكن الشر الحقيقي خسارة البعض الآلاف من الأرواح في المعركة، وهي خسارة يمكن تعويضها، لكن الاستحالة المطلقة لترسيخ أي مظهر من مظاهر الإدارة المنظمة والقانونية في ظل هذه الظروف. كان كل طالب للعرش وكل إمبراطور، يحتاجون أولاً وقبل كل شيء المال والغذاء والملابس والأسلحة وما إلى ذلك لجيشه، ولم يكن لدى أحد الوقت أو الرغبة في التصرف بطريقة قانونية بأسلوبه أو الاكتفاء بالدخل العادي للدولة. سياسة كل الأباطرة، مع وجود استثناءات قليلة للغاية لم تستمر، كانت إلى حد ما مشابهة لتلك الخاصة بماكسيمينوس – جبايات إجبارية للجنود، مساهمات إجبارية من المال والمواد الغذائية والعمل الإجباري. وليس أقل الشرور هو السلوك الخارج عن القانون تماما من الجنود والضباط والمسؤولين، والذي كان طبيعيا تماما في ظل الظروف السائدة. وتشير العديد من المصادر الموجودة لدينا حتى على قلتها إلى تجاوزات الجنود.
حالة الحصار
في ظل ظروف “حالة الحصار” التي كانت الحالة الدائمة للإمبراطورية، كانت البيروقراطية العسكرية، سواء المسؤولين الحكوميين أو مسؤولي البلدية، يتصرفون بنفس طريقة الجنود. كان الأولون مدينين بحياتهم للإمبراطور، وتعرض الآخرون للتهديد بالإهانة والخراب والإعدام إذا لم ينجحوا في تنفيذ أوامر البيروقراطيين الإمبراطوريين. وهكذا عانت كل طبقات السكان بشدة تحت ضغط الحروب الخارجية والداخلية. لم تكن عمليات السطو من قبل الجنود كلها بسبب الجشع. إفقار المقاطعات وسوء تنظيم خدمات الإمداد والنقل غالبا ما أجبر الجنود على أعمال العنف لمجرد حماية حياتهم. الطبقات العليا في المدن، الذين كانوا مسؤولين عن سكان مناطق المدينة، بذلوا قصارى جهدهم لإنقاذ ما تبقى من ثرواتهم واضطهدوا الطبقات الدنيا. كانت الطبقات الدنيا بالفعل مضطهدة ومسلوبة من قبل الجميع. يضاف إلى ذلك الأوبئة المتكررة، والتي كانت إلى حد كبير بسبب سوء تنظيم الحياة بشكل عام والفقر ونقص التغذية والظروف غير الصحية في المدن، وما شابه ذلك.
لا غرو في مثل هذه الظروف أن تكون السمة الاجتماعية والاقتصادية البارزة لتلك الفترة هي نقص السكان. الأوبئة أهلكت الشعوب وكذلك الغزوات والحروب الأهلية والأجنبية. ولكن الأكثر خطورة كان انعدام الأمن العام وقمع الدولة المستمر لرعاياها. تحت ضغط هذه الظروف، التي بدت دائمة، هرب الناس من أماكن إقامتهم وفضلوا على حياة المدن والقرى التي لا تطاق حياة المغامرة والسرقة في الغابات والمستنقعات. الفوضى المطلقة للقوات البحرية تسببت في إحياء القرصنة، وأصبحت البحار مرة أخرى غير آمنة كما كانت في بداية القرن الأول قبل الميلاد في بعض الأماكن، مثل صقلية (تحت حكم جالينوس) والغال. ونظمت الطبقات الدنيا من السكان تمردات رسمية، جرى قمعها بالوسائل العسكرية. ومن الواضح أنه في ظل هذه الظروف كان عدد قليل جدا من العائلات سواء من الطبقات العليا أو الدنيا تهتم بتربية الأطفال.
هجرة السكان، والتي كانت محصورة في الفترة الإمبراطورية المبكرة إلى مناطق قليلة، مثل اليونان وإلى حد ما إيطاليا، وكان سببها في الغالب الهجرة إلى أجزاء أخرى من العالم الروماني، أصبحت الآن السمة البارزة لحياة الإمبراطورية.
تضاؤل الانتاجية العامة للامبراطورية
ويوضح روستوفتسيف أنه نتيجة لهذه الظروف تضاءلت الإنتاجية العامة للإمبراطورية باستمرار. تحولت مساحات أكبر وأكبر من الأرض الصالحة للزراعة إلى أرض بور. أهملت إعمال الري والصرف، وهذا لم يؤد فقط إلى انخفاض مستمر في مساحة الأرض المزروعة، ولكن ربما أيضا انتشار الملاريا، والتي أصبحت تدريجيا واحدة من أفظع ويلات البشرية. تبادل البضائع أصبح غير منتظم أكثر وأكثر، وأصبحت أجزاء مختلفة من الإمبراطورية تعتمد بشكل متزايد على ما ينتجونه بأنفسهم. ومن هنا تكرر حدوث المجاعات، ومن هنا أيضا تدهورت الصناعة، التي عملت أكثر وأكثر لتلبية طلبات مجموعة محلية صغيرة من المستهلكين الذين اقتصرت طلباتهم على أرخص المنتجات وأكثرها سهولة. بشكل طبيعي سعى كل بيت، سواء كان كبيرا أو صغيرا، إلى أن يصبح مكتفيا ذاتيا قدر الإمكان، وازدهر الإنتاج المنزلي كما لم يحدث من قبل. لا يمكن اتخاذ تدابير جزئية لمواجهة هذا التدهور التدريجي. وضعت مجموعات من أسرى الحرب في الأراضي المهجورة واتخذت التدابير لجعل المدن مسؤولة عن الأراضي البور واعتبر هروب الشخص من مكان إقامته جريمة، ولكن كل شيء كان دون جدوى.
لا يمكن إيقاف عملية الاضمحلال بمثل هذه التدابير. انخفضت إنتاجية الإمبراطورية بشكل مطرد، ووجدت الحكومة نفسها مجبرة على اللجوء بطاقة متزايدة إلى العنف والإكراه.
هذا بإيجاز كان هو الوضع العام للإمبراطورية. إذا شرعنا في البحث عن أدلة محددة حول المقاطعات الفردية، نجد أنها هزيلة للغاية. غير أنه من الممكن رسم صورة أكثر تفصيلاً على الأقل من آسيا الصغرى ومصر. في آسيا الصغرى وكذلك في سوريا، كان من أهم سمات الحياة العودة التدريجية إلى النظام الإقطاعي. أصبحت عائلة تدمر المحلية حكاما لفترة من الوقت للجزء الشرقي من الإمبراطورية، وهبت ما تسمى بثورة الإيساوريين في آسيا الصغرى، وكلها مثلت أعراضا لنفس الميل نحو تكوين دول شبه مستقلة داخل الإمبراطورية. أصبح عرش الإمبرطورية في ظل الأباطرة الجنود مطمعا للجميع حتى أن رجلا اسمه بروكيولوس من ليجوريا وأحد زعماء قبيلة إنجوني (ألبينجا بالقرب من جنوة حاليا) المتخصص في السرقة والسطو، أصبح ثريا ومؤثرا، وشكل جيشا قوامه ألفي رجل، وبمساعدة جيشه تطلع إلى عرش الإمبراطورية الرومانية (17).
جانب آخر من الحياة في آسيا الصغرى توضحه وثيقة معروفة جيدا تسجل التماسا مقدما إلى الإمبراطور فيليب العربي من شخص اسمه أوريليوس إيكلكتوس من خلال وسيط اسمه ديدموس الذي كان عضوا في الشرطة العسكرية باسم مجموعة من مستأجري الأراضي الإمبراطورية، يشكون فيها من تعرضهم لظلم فظيع من قبل أولئك “الذين من واجبهم حماية الناس…هؤلاء الرجال – ضباط وجنود ووجهاء المدينة السلطة المنفذة (القضاة)، وعملاؤك المرؤوسون”. عريضة مماثلة إلى جورديان الثالث (238 م)، مقدمة إلى الإمبراطور تصور تقريبا نفس الظروف في سكابتوبير، وهي قرية تراقية في إقليم باوتاليا. الملتمسون ليسوا مستأجرين للإمبراطور، لكنهم أصحاب الأراضي والمنازل. شكواهم، مرة أخرى، هي الابتزاز من قبل الجنود وصغار عملاء الأباطرة. كان من سوء حظ القرية أنها تقع بالقرب من منتجع صحي وبالقرب من منطقة سوق مهم ولها معرض موسمي رائع. في الظروف العادية كان من الممكن أن يكون ذلك نعمة، وهكذا كان لفترة طويلة، ولكن في القرن الثالث أصبح وباء حقيقيا للقرويين. كثرة زوار المنتجع الصحي والمعرض، والمسافرون الآخرون، استخدموا القرية كمكان مناسب للراحة من الرحلة وكمصدر للإمدادات. طالب الجنود بالسكن والطعام مجانا، وتدريجيا حولوا القرية إلى مكان للفقر والبؤس حتى أن عدد سكانها انخفض بشكل مطرد. القرويون يستجدون المساعدة، وما لم يحصلوا عليها فإنهم يهددون بالفرار من موطنهم، وبالتالي حرمان الخزانة الإمبراطورية من المدفوعات والخدمات الأخرى.
شواغل المصري المؤرقة
وتعطي أوراق البردي صورة جيدة، وإن كانت غير كاملة، عن الظروف في القرن الثالث. نظرة عامة ممتازة على الشواغل الرئيسة للسكان العاديين من مختلف الطبقات في مصر مزودة بقائمة من الأسئلة الموجهة إلى العرافة (الكاهن). ربما كانت أسئلة عادية من تلك التي تطرح بشكل شائع، ولذلك تم فهرستها من قبل شخص ما ممن أراد أن يسأل البعض منهم أو ربما كان عليه أن يسألهم أو يجيب عليهم. بعض الأسئلة لها طابع محايد، مثل الأسئلة التي كان من الشائع توجيهها في القرن الثاني: “هل يجب أنا أتزوج؟” أو “هل احتمالية ممارسة الأعمال التجارية جيدة؟”. ولكن من أصل واحد وعشرين سؤالا محفوظة في البردية هناك ثمانية على الأقل تتعلق بهذا الوقت بالذات (نهاية القرن الثالث)، وتعكس شواغله الخاصة: “هل تباع ممتلكاتي؟”. وهو سؤال يشير بوضوح إلى مصادرة الممتلكات. يتم طرح نفس السؤال في شكل مختلف، “هل سيتم بيع عقاري بالمزاد؟”. نماذج أخرى للأسئلة هي: “هل سأصبح متسولا؟”. “هل سيتعين علي الفرار؟”. “هل أصبح مبعوثا؟” “هل أصبح عضوا بالمجلس البلدي؟” “هل سينتهي هروبي؟”. “هل سأتقاضى راتبي؟” وما إلى ذلك. ويرى المرء ما هي المخاطر الكبيرة التي كانت تهدد حياة الرجل المهنية. لقد نشأت هذه الأسئلة من تدخل الدولة في حياة الفرد. كان حدثا يوميا أن تباع ممتلكات الرجل، أو يصبح متسولا، أو يضطر للهروب من مكان إقامته أو ما هو أسوأ من ذلك، أن يصبح عضوا في المجلس، أو مبعوثا إلى العاصمة باسم مدينته التي طبعا تورطه في نفقة كبيرة. لمحة أخرى في الوضع في منزل كبير، ربما ينتمي إلى واحد من رجال هرموبوليس العظماء، تصل إليه “رسالة من وكيل لسيده”، يعدد نفقاته لوقت معين. ترتبط معظم العناصر بالمصادرات والرشاوى أو المدفوعات المنتظمة للجنود.
ملامح الحياة المصرية الغالبة في القرن الثالث كانت هي التراجع التدريجي لسكان الأرض، وتدهور نظام الري وزيادة الأرض البور والأرض غير المنتجة. كان السبب المباشر لبوار الأرض هو بالطبع الإهمال وما يترتب على ذلك من تدهور نظام السدود والقنوات في جميع أنحاء البلاد. هذا التدهور كان ضارا ليس فقط لأصحاب الأراضي الخاصة ولكن أيضا بفلاحي الدولة. كان السبب هو الحروب المتكررة والثورات، إلى سوء إدارة توزيع العمل بين السكان، والمكاسب والرشاوى غير المشروعة التي كان مسؤولو الدولة منفتحين عليها. حاولت الحكومة استعادة إصلاح الري قدر المستطاع، لكن اتبعت أسلوبها المعتاد في العنف والإكراه.
تشير محاضر اجتماعات مجلس مدينتي أوكسيرينخوس وهرموبوليس في النصف الثاني من القرن الثالث إلى أعضاء المجالس والمسؤولين حصرا للخدمات – كيف يتم توزيعها بين الرجال الأكثر ثراء في المدن ومن سيتم اختيارهم ليكونوا الضحية التالية التي يحكم عليها بالدمار والفرار. في عهد أوريليان، أجرى مجلس مدينة أوكسيرينخوس نقاشا دافئا حول الأموال التي سيتم إنفاقها على التيجان التي كان من المقرر تقديمها للإمبراطور احتفالا بانتصاره الأخير. ولما كان النصف الثاني من القرن الثالث يعج بالحروب، كانت تحركات القوات إحدى أكبر هموم مجالس المدينة حيث كان عليهم جمع وتوصيل المواد الغذائية للجنود (18).
الهبوط إلى درجة أدنى في السلم الاجتماعي
أثر نظام المصادرات والمسؤولية الملقاة على كاهل قضاة المدينة وأعضاء مجالس المدينة والمواطنين الأغنياء بشكل عام على تنظيم الصناعة وأعاد الظروف التي كانت سائدة خلال العصر البطلمي. الصناعة التي أصبحت إلى حد ما متحررة في القرن الثاني، عادت لتخضع مرة أخرى لسيطرة الدولة، والتي كانت تمارس بطريقة مماثلة للعصر البطلمي. وكان السبب في إعادة تنشيط صناعة القماش هو كثرة الطلب من قبل الدولة لملابس الجنود. وتعطينا ورقة بردي لمحة عن التنظيم في هذا الفرع من الصناعة كما تسجلها وقائع اجتماع مجلس مدينة أوكيسرينخوس 270-5. كانت المسألة محور النقاش هي تسليم أثواب الكتان للمعبد. يظهر من الجدل أن كلا من التصنيع والتسليم كان منظما وفقا للطريقة البطلمية. كانت المدينة تقوم بجمع الغزل من الفلاحين وتعطيه للنساجين. إن كان هناك نقص في المواد، يتم شراؤه من قبل المدينة من السوق. اضطر النساجون للعمل لصالح المدينة بسعر ثابت ولتوصيل أكبر عدد مطلوب من الملابس. ربما تم بيع الفائض للتجار والعملاء من القطاع الخاص. يمكن ملاحظة نفس العودة إلى النظام البطلمي في تنظيم بعض فروع الصناعة وتجارة التجزئة التي كانت حيوية لتزويد المدن، على سبيل المثال، تصنيع وبيع الزيت، حيث نلتقي بأصحاب الامتياز الذين تم منحهم احتكار تجارة التجزئة، والذين يظهرون كمستأجرين لمصانع الزيت المرتبطة بالمعابد. ومن الجدير بالذكر أن نفس التطور كان قائما في تنظيم المستلزمات لمدينة روما في عهد ألكسندر سيفيروس وأوريليان. البرجوازية البلدية في مصر التي نظمت لأول مرة من قبل سبتميوس، كانت في وضع سيئ مثل البرجوازية في أجزاء أخرى من العالم الروماني. كل يوم كانوا مهددين ليس فقط بالخراب بفقدان ممتلكاتهم ولكن أيضا الهبوط الاجتماعي، ما يعني أنهم سيتوقفون عن الانتماء إلى الطبقات الرفيعة ويهبطون إلى مرتبة طبقات أدنى. هذا ينطوي على المسؤولية عن السجن والعقاب البدني على أيدي مسؤولي الدولة، والتي كانت سمة شائعة للحياة في القرن الرابع، كما نعرف من ليبانيوس.
في بداية القرن الثالث، في الواقع، كان يتم إعفاء من تخلوا عن ممتلكاتهم من العقاب البدني وفقا للأوامر الإمبراطورية. من الواضح أن العقاب البدني في كثير من الأحيان كان يتبع الخراب المالي، وكان السبيل الوحيد للهروب منه فرار الشخص من موطنه. كانت عمليات الهروب هذه من الأحداث اليومية.
الجنود والقهر والابتزاز
كان الجنود هم أدوات القهر والابتزاز، وفقًا للممارسات الإدارية المعتادة في القرن الثالث. لقد مثلوا رعبا حقيقيا للسكان وكانوا يستخدمون كثيرا لأغراض مختلفة. في وقت ما بعد عام 242 م أمر قائد مئة جنديا بالعثور على ورثة أعضاء لجنة مالية بلدية كانوا مسؤولين عن مدفوعات ضيعة إمبراطورية وكان التخلف عن السداد يهدد نجاح شحن الذرة إلى الإسكندرية ومن ثم إلى روما أو إلى جنود الاحتلال في مصر.
وكواقع كان الجنود هم سادة الموقف في مصر، وحتى في الخلافات بينهم، كان الفلاحين وملاك الأراضي يلجأون ليس إلى الإدارة النظامية ولكن إلى قائد المائة صاحب السلطة المطلقة.
كانت الأوامر الموجهة للجنود باعتقال أعضاء المجالس البلدية وإرسالهم إلى كبار المسؤولين العسكريين شائعة جدا في مصر في القرنين الثالث والرابع. في ظل مثل هذه الظروف ليس من المستغرب أن نجد أن الحياة لم تكن آمنة في مصر وأن الأرض كانت موبوءة باللصوص. أولئك الذين فروا، كان لا بد أن يعيشوا على السطو لتجنب الموت جوعا. ومن ثم كثيرا ما يذكر في القرن الثالث رجال جرى تعيينهم خصيصا من قبل القرى للقبض على اللصوص. وليس من المستغرب أن كل الوثائق التي تشير إلى تعقب اللصوص تعود إلى القرن الثالث والرابع. من الشائع أيضا في ذلك الوقت أن رجال الشرطة النظاميين لم يكونوا بالكفاءة اللازمة للقيام بالمهمة وتعين أن تعاونهم قوات مساعدة. وتعد إحدى الوثائق ملفتة للنظر بشكل خاص حيث كتب المسؤول الإداري: “تم إرسال إشعار إلى متعقبي اللصوص المدرجة أسماؤهم أدناه للانضمام إلى شرطة القرية والعثور على المجرمين الذين يتم البحث عنهم. إذا هم أهملوا في القيام بذلك، فليتم إرسالهم إلى معالي المحافظ في الأغلال”.
الرجال الخمسة المدرجون في القائمة هم من السكان المحليين، وهم بالتأكيد لم يتم تدريبهم مطلقا على وظيفة البحث عن اللصوص واصطيادهم. أما عدد المشردين الذين كانت الإدارة تبحث عنهم، فهو مبين في وثيقة من زمن جورديان، حيث كان رئيس شرطة القرية يقسم أمام شرطي البلدية لمدينة هيرموبوليس أن الرجال الذين ينتمون إلى قرية أخرى والذين تبحث عنهم الإدارة لا يختبئون في قريته (19).
البيروقراطية العسكرية تصعد في مصر
من الواضح إذن في مصر أن القرن الثالث كان هو الوقت المناسب لبروز بعض السمات التي ساعدت قلة من الرجال ليس فقط على الاحتفاظ بثراوتهم ولكن أيضا زيادتها، بينما عانى الآخرون من أكبر المصاعب. وإلى جانب بعض أقطاب الإسكندرية كثيرا ما نجد أعضاء من البيروقراطية العسكرية ينتهزون الفرصة للاستحواذ على الممتلكات وزيادتها وذلك للصعود إلى مكانة مرموقة بين الأرستقراطية الإقليمية. وذكر العديد من هؤلاء الجنود السابقين بالفعل. وقد نضيف إلى القائمة بوبليوس فيبيوس، وهو جندي سابق ومسؤول مع حاكم مصر، فيما بعد مسؤول مجلس محلي في الإسكندرية ومالك كبير للأراضي. الصورة وإن كانت غير مكتملة، إلا أنها تظهر بوضوح شديد الفوضى والبؤس الذي ساد طوال الوقت الإمبراطورية الرومانية في القرن الثالث وخاصة في النصف الثاني منه، وكيف وصلت الإمبراطورية تدريجيا إلى هذه الحالة المزرية. كان الأمر يعود إلى مزيج من الحرب الأهلية المستمرة والهجمات الشرسة من قبل الأعداء الخارجيين. تفاقم الوضع بسبب سياسة الإرهاب والإكراه التي تبنتها الحكومة تجاه السكان، باستخدام الجيش كأداة.
ويكمن مفتاح الوضع في الصراع الأهلي الذي أثار هجمات الأعداء المجاورين وأضعف قوة الإمبراطورية في المقاومة، وأجبر الأباطرة، في تعاملهم مع السكان، على اللجوء المستمر إلى أساليب الإرهاب والإكراه، التي تطورت تدريجياً إلى نهج منظم للإدارة. في سياسة الأباطرة فشلنا في اكتشاف أي خطة منهجية. كان الرضوخ التدريجي لتطلعات الجيش وضرورة الحفاظ على وجود الإمبراطورية والحفاظ على وحدتها. ولم يكن معظم أباطرة هذه الفترة المضطربة من الرجال الطموحين بل كانوا على استعداد للتضحية بمصالح المجتمع من أجل تطلعاتهم الشخصية.
لم يطلبوا السلطة من أجل السلطة. الأفضل بينهم أجبروا على تولي السلطة، وفعلوا ذلك جزئيا انطلاقا من إحساس طبيعي بالحفاظ على الذات، وجزئيا كتضحية واعية بأرواحهم من أجل المهمة النبيلة المتمثلة في الحفاظ على الإمبراطورية وحمايتها. إذا كانت الدولة قد تحولت، على أيدي الأباطرة، إلى الوضع المشار إليه أعلاه، عن طريق تحطيم الدور الذي تلعبه الطبقات المتميزة والمتعلمة في حياة الإمبراطورية، وعن طريق إخضاع الشعب لنظام إدارة قاس وأحمق قائم على الإرهاب والإكراه، وبخلق أرستقراطية جديدة نشأت من صفوف الجيش، وإذا أنتجت هذه السياسة تدريجيا دول عبودية مع أقلية حاكمة صغيرة يقودها ملك استبدادي، كان قائدا لجيش من المرتزقة وميليشيا تم حشدها إجباريا، لم يكن الأمر على هذا النحو لأن هذا هو المثل الأعلى للأباطرة، بل لأنها كانت الرغبة الصامتة للجيش، الذي كان على الأباطرة الامتثال لها وإلا فإن الدولة سوف تدمر ويطول أمد الحرب الأهلية إلى أجل غير مسمى.
إذا لم يكن طموح الأباطرة هو الذي جر الدولة أعمق إلى خليج الخراب، وهدد بتدمير أسس الإمبراطورية، فما هو السبب الجوهري الذي دفع الجيش إلى التغيير المستمر للأباطرة، وقتل أولئك الذين وضعوهم على العرش للتو، وأن يقاتلوا إخوانهم بشراسة قلما يوجد لها مثيل في تاريخ البشرية؟. هل كان هذا “جنونا جماعيا” استولى على الجنود ودفعهم إلى الأمام على طريق الدمار؟. ألن يكون غريبا أن يستمر مثل هذا المرض العقلي لمدة نصف قرن على الأقل؟. التفسير المعتاد الذي قدمه الباحثون المحدثون يشير إلى أن التشنجات العنيفة في القرن الثالث كانت مصاحبة للتحول الطبيعي والضروري للدولة الرومانية إلى ملكية مطلقة. الأزمة كما يقال كانت سياسية. ونشأت من خلال مسعى الأباطرة للقضاء على مجلس الشيوخ سياسيا والتحول من الحكم الأغسطي الثنائي إلى ملكية محضة، وفي السعي نحو هذا الهدف اتكأ الأباطرة على الجيش، وأفسدوه فانطلق ليثير حالة الفوضى التي شكلت فترة انتقالية أدت إلى إنشاء الاستبداد الشرقي في القرن الرابع (20).
الجيش يقاتل الطبقات المتميزة
كان هذا هو المعنى الحقيقي للحرب الأهلية في القرن الثالث. حارب الجيش الطبقات المتميزة، ولم يتوقف عن القتال حتى فقدت هذه الطبقات كل ما لديها من هيبة اجتماعية وتمددت بلا قوة تحت أقدام الجنود شبه البرابرة. ولكن هل يمكننا أن نقول إن الجيش خاض هذه المعركة لمصلحته، وبخطة محددة لخلق نوع من الاستبداد أو الديكتاتورية للجيش على بقية السكان؟. لا يوجد أدنى دليل يدعم هذا الرأي. كان اضطراب جوهري يحدث ويتطور. وقد يكون هدفه النهائي مفهوما بالنسبة لنا، ولكنه لم يكن مفهوما حتى بالنسبة لمعاصريه وأقل من ذلك بالنسبة للجهات الفاعلة التي صنعت المأساة.
كانت القوى الدافعة هي الحسد والكراهية وهؤلاء وأولئك الذين سعوا لتدمير حكم الطبقة البرجوازية لم يكن لديهم برنامج إيجابي. العمل البناء التدريجي قام به الأباطرة الذين بنوا على أنقاض نظام اجتماعي مدمر أيضا، أو بشكل سيئ، بقدر ما أمكنهم ولكن ليس على الإطلاق بروح المدمرين. لقد استبدلت الطبقة المميزة القديمة بطبقة أخرى، أما الجماهير، التي كانت بعيدة كل البعد عن أن تكون أيسر حالا، فقد أصبحت أكثر فقرا وأكثر بؤسا. كان الاختلاف الوحيد هو أن صفوف المتألمين تضخمت، وأن الحالة المتحضرة القديمة للإمبراطورية اختفت إلى الأبد.
إذا كان الجيش قد قام بدور المدمر للنظام الاجتماعي القائم، لم يكن ذلك لأنه كجيش يكره هذا النظام. لم يكن موقف الجيش سيئا حتى من الناحية الاجتماعية نظرا لأنه كان المصدر الطبيعي للمجندين للبرجوازية البلدية. كان بمثابة عنصر تدمير لأنه مثل، في نهاية القرن الثاني والثالث، تلك الجماهير الكبيرة من السكان التي لم يكن لها نصيب في الحياة الحضارية الرائعة للإمبراطورية. كان جيش ماركوس أوريليوس وجيش كومودوس بالكامل تقريبا جيشا من الفلاحين، وهي طبقة مستبعدة من مزايا الحضارة العمرانية، وكانت هذه الطبقة الريفية تشكل غالبية سكان الإمبراطورية. كان بعض هؤلاء الفلاحين من صغار أصحاب الأراضي، وكان البعض من المستأجرين أو الأقنان المملوكين لدى كبار الملاك أو الدولة، وككتلة كانوا رعايا، بينما كان أعضاء أرستقراطية المدينة هم الحكام، وكانوا يشكلون الطبقات الأدنى في مقابل الطبقات الأعلى في المدن. وباختصار، كانوا طبقة خاصة يفصل بينها وبين الطبقات المتميزة خليج واسع، طبقة كان من واجبها دعم الحضارة الرفيعة للمدن بكدها وعملها، بضرائبها وإيجاراتها. مساعي الملكية المستنيرة وأسرة سيفيران لرفع هذه الطبقة والارتقاء بها في برجوازية قروية، واستيعاب جزء كبير منها بقدر الإمكان في الطبقات المتميزة، أثارت في أذهان الطبقة الدنيا وعيا بموقفهم المتواضع وعزز ولاءهم للأباطرة، لكنهم فشلوا في تحقيق هدفهم الرئيس. في الحقيقة، قوة النظام الملكي المستنير كانت قائمة على برجوازية المدينة، ولم يكن من أهداف البرجوازية أن توسع صفوفها إلى ما لا نهاية وأن تتقاسم امتيازاتها مع أعداد كبيرة من الوافدين الجدد.
الطبقة الدنيا ومخزون الحقد
وكانت النتيجة أن الخضوع البليد الذي كان على مدى قرون هو الحالة العادية لهذه الطبقة الدنيا تحول تدريجيا إلى شعور حاد بالكراهية والحسد تجاه الطبقات المتميزة. انعكست هذه المشاعر بشكل طبيعي في صفوف الجيش، الذي يتكون الآن حصريا من الفلاحين. عندما أصبح الجيش، بعد اغتصاب سبتميوس سيفيروس للعرش، يدرك تدريجيا قوته وتأثيره على الأباطرة، وعندما أكد أباطرة أسرة سيفيران مرارا وتكرارا ولاءهم للجيش وتعاطفهم مع الفلاحين، وعاملوا برجوازية المدينة بقسوة، استسلم الجيش تدريجيا لمشاعره وبدأ في ممارسة ضغط شبه واع على الأباطرة، وكان رد فعله عنيفا على التنازلات التي قدمها بعضهم للطبقة المكروهة. حاولت البرجوازية تأكيد نفوذها والحفاظ على امتيازاتها، وكانت النتيجة حربا مفتوحة من وقت لآخر واستئصالا لا هوادة فيه للطبقة المتميزة (21).
أكثر ما يميز مزاج كل من الفلاحين والجنود هو تدمير أوجستودنوم أو أوتون (مدينة في فرنسا الحالية) في عهد تتريكوس وكلاوديوس 269م- عندما اعترفت المدينة بكلاوديوس، أرسل تتريكوس مفرزة من جيشه ضد المتمردين وانضمت إليهم عصابات من اللصوص والفلاحين. لقد قطعوا إمدادات المياه وأخذوا أخيرا المدينة المزدهرة ودمروها تماما لدرجة أنها لم تتعاف أبدا. وهكذا دمر أعظم إبداعات فترة التحضر في بلاد الغال – ليون وأوتون – من قبل الجنود والفلاحين الغاضبين. وتعرضت واحدة من أغنى مدن آسيا الصغرى، وهي تيانا، لخطر معاناة نفس المصير في زمن أوريليان. لقد أنقذها الإمبراطور، والكلمات التي استخدمها لإقناع الجنود بعدم تدميرها مثيرة للاهتمام:
“نحن نخوض الحرب لتحرير هذه المدن. إذا أردنا نهبهم، فلن يثقوا بنا بعد الآن. دعونا نبحث عن غنائم البرابرة ونحمي هؤلاء الرجال باعتبارهم شعبنا”. من الواضح أنه لم يكن من السهل إقناع الجنود بأن مدن الإمبراطورية لم تكن أعداءهم الرئيسين. كان موقف الجنود تجاه هذه المدن مثل موقف القوط الذين ينهبون المدن الرومانية.
الفلاحون والجنود والعلاقات الوثيقة
كانت العلاقات الوثيقة القائمة بين الفلاحين والجنود ملحوظة. من خلال الجنود أرسل الفلاحون التماساتهم إلى الإمبراطور في زمن كومودوس وسبتيموس وكذلك في عهد فيليب وجورديان. في الواقع، لم يكن لدى معظم الجنود أي معرفة أو فهم للمدن، لكنهم حافظوا على علاقاتهم مع قراهم الأصلية، وكان القرويون يعتبرون جنودهم رعاتهم الطبيعيين وحماتهم، وكانوا ينظرون إلى الإمبراطور على أنه إمبراطورهم وليس إمبراطور المدن.
كل هذا يُظهر أن التشنجات اللاإرادية بين القرى والجيش لم تنكسر أبدا، وكان من الطبيعي أن يشارك الجيش تطلعات القرى وأن يعتبر سكان المدن أجانب وأعداء.
على الرغم من الظروف المتغيرة في نهاية القرن الرابع، بقيت العلاقات بين الجيش والقرى كما كانت في القرن الثالث. كانت المدن لا تزال قائمة، وما زالت الطبقة الأرستقراطية البلدية تستخدم من قبل الحكومة لتحصيل الضرائب وفرض العمل الإجباري على سكان القرى. لا عجب أنه حتى بعد أن فقدت المدن نفوذها السياسي والاجتماعي بشكل شبه كامل، فإن مشاعر الفلاحين تجاهها لم تتغير. بالنسبة للقرى، كانت المدن لا تزال هي مصدر الظلم والاستغلال. في بعض الأحيان تكون هذه المشاعر واضحة في التعبير عنها من قبل كتّاب القرن الرابع، من كتاب غرب الإمبرطورية (بشكل رئيس الأفارقة) وشرقها، وخاصة الغرب. معلوماتنا جيدة بشكل غير عادي عن سوريا، وبشكل خاص منطقة أنطاكية، وذلك بفضل ليبانيوس وجون كريستوستوم. أحد الموضوعات الرئيسة التي نجدها في كلا الكاتبين هي العداء بين المدينة والريف. في هذا الصراع المستمر، لم يكن للحكومة سياسة محددة، لكن الجنود وقفوا إلى جانب الفلاحين ضد الرجال العظماء من المدن. يتجلى تعاطف الجنود بشكل كافٍ في المقطع الشهير في خطاب ليبانيوس De patrociniis، حيث يصف الدعم الذي قدموه لبعض القرى الكبيرة التي يسكنها الفلاحون الأحرار، والتجاوزات التي انغمس فيها القرويون، والوضع البائس لأرستقراطية المدينة، التي لم تكن قادرة على تحصيل أي ضرائب من الفلاحين وتعرضت لسوء المعاملة على حد سواء منهم ومن الجنود. كان ليبانيوس نفسه مدنيا ومالكا كبيرا للأراضي، وعانى من كل الانزعاج الناتج عن هذا الوفاق الودي بين الجنود والفلاحين. المستأجرون في إحدى عقاراته، ربما في يهودا، الذين لم يظهروا أي علامة على التمرد لأربعة أجيال، أصبحوا متململين وحاولوا، بمساعدة ضابط كبير، كان راعيهم، إملاء شروط العمل الخاصة بهم على مالك الأرض. بطبيعة الحال يجب أن يكون ليبانيوس حانقا ويشعر بالمرارة تجاه الجنود والضباط. من ناحية أخرى، لا يمكن تفسير الدعم الذي تقدمه القوات للقرويين فقط بالجشع. كان جنود المقاطعات لا يزالون هم من الفلاحين، وكان ضباطهم من نفس الأصل. لذلك كان لديهم تعاطف حقيقي مع الفلاحين وكانوا على استعداد لمساعدتهم ضد سكان المدن المحتقرين.
لا شك في أن أزمة القرن الثالث لم تكن سياسية بل كانت اجتماعية في طابعها. لقد حلت برجوازية المدينة تدريجيا محل الطبقة الأرستقراطية للمواطنين الرومان، مجلس الشيوخ وطبقة الفروسية. لكنها هوجمت الآن بدورها من قبل جماهير الفلاحين. في كلتا الحالتين تم تنفيذ العملية من قبل الجيش بقيادة الأباطرة. انتهى الفصل الأول بثورة قصيرة ولكنها دموية 69-70 م، لكنها لم تؤثر على أسس ازدهار الإمبراطورية، لأن التغيير لم يكن جذريا. بدأ الفصل الثاني، الذي كان له تأثير أوسع بكثير، الأزمة المطولة والكارثية في القرن الثالث. هل انتهت هذه الأزمة بانتصار كامل للفلاحين على برجوازية المدينة وخلق دولة جديدة كلية؟. لا شك في أن برجوازية المدينة، على هذا النحو، قد سُحقت وفقدت التأثير غير المباشر على شؤون الدولة الذي مارسته من خلال مجلس الشيوخ في القرن الثاني، ومع ذلك لم تختف. وسرعان ما أقامت البيروقراطية الحاكمة الجديدة علاقات اجتماعية وثيقة مع البقية المتبقية من هذه الطبقة، وما زال القسم الأقوى والأغنى منها يشكل عنصرا هاما من الأرستقراطية الإمبراطورية. كانت الطبقة التي أخذت في الاختفاء هي الطبقة الوسطى، المواطنون النشطون والمقتصدون في آلاف المدن في الإمبراطورية، الذين شكلوا الرابط بين الطبقات الدنيا والعليا. لا نسمع عن هذه الطبقة إلا القليل جدا بعد كارثة القرن الثالث، باستثناء الدور الذي لعبته، بصفتها أعضاء المجالس المحلية في المدن، في تحصيل الضرائب لصالح الحكومة الإمبراطورية. أصبحت هذه الطبقة مضطهدة أكثر وأكثر وتناقصت أعدادها بشكل مطرد. أولئك الذين نجوا تعلموا من التجربة المريرة كيفية تحويل الضغط إلى كاهل الطبقات الدنيا.
وضع الفلاحين لم يتحسن
بينما مرت البرجوازية بهذا التغيير، فهل يمكن القول إن وضع الفلاحين قد تحسن نتيجة لانتصارهم المؤقت؟. لا شك في أنه في النهاية لم يكن هناك منتصر في الحرب الطبقية الرهيبة لهذا القرن. إذا كانت البرجوازية قد عانت بشدة، فإن الفلاحين لم يكسبوا شيئا. سوف يدرك أي شخص يقرأ شكاوى فلاحي آسيا الصغرى وتراقيا، أو خطب ليبانيوس وخطب جون كريسوستوم وسالفيان، أو حتى قوانين ثيودوسيوس وجستنيان، أن الفلاحين في القرن الرابع كانت أوضاعهم أسوأ بكثير مما كانت عليه في الثاني. إن الحركة التي بدأت بالحسد والكراهية، واستمرت بالقتل والدمار، انتهت بمثل هذا الكآبة الروحية لدرجة أن أي ظروف مستقرة بدت للناس أفضل من الفوضى التي لا تنتهي. ولذلك وافقوا طواعية على الاستقرار الذي أحدثه ديوكلتيانوس، بغض النظر عن حقيقة أنه لا يعني أي تحسن في ظروف جماهير سكان الإمبراطورية الرومانية (22).
وهكذا نشأت دولة ديوكلتيانوس وقنسطنطين. في تنظيم الدولة لم يكن للأباطرة مطلق الحرية. لقد تسلموا ارثا ثقيلا من القرن الثالث، وكان عليهم الالتزام به. لم يكن هناك شيء إيجابي في هذا التراث سوى حقيقة وجود الإمبراطورية بكل مواردها الطبيعية. كان الرجال الذين سكنوها قد فقدوا توازنهم تماما. سادت الكراهية والحسد في كل مكان: كان الفلاحون يكرهون ملاك الأراضي والمسؤولين، وبروليتاريا المدينة يكرهون برجوازية المدينة، والجيش مكروه من الجميع، حتى من قبل الفلاحين. لقد كره الوثنيون المسيحيين واضطهدوهم، واعتبروهم عصابة من المجرمين العازمين على تقويض الدولة. كان العمل غير منظم والإنتاجية آخذة في الانخفاض ودمرت التجارة بسبب انعدام الأمن في البحر والطرق ولا يمكن للصناعة أن تزدهر، لأن سوق المنتجات الصناعية كان يتقلص بشكل مطرد وتناقصت القوة الشرائية للسكان ومرت الزراعة بأزمة رهيبة، لأن اضمحلال التجارة والصناعة حرمها من رأس المال الذي تحتاجه، وسلبتها مطالب الدولة الثقيلة اليد العاملة والجزء الأكبر من منتجاتها. ارتفعت الأسعار باستمرار، وانخفضت قيمة العملة بمعدل غير مسبوق. تم تحطيم النظام الضريبي القديم ولم يتم وضع نظام جديد. كانت العلاقات بين الدولة ودافعي الضرائب قائمة على السرقة المنظمة إلى حد ما: كان العمل القسري والتسليم الإجباري والقروض الإجبارية أو الهدايا هي النظام السائد. كانت الإدارة فاسدة ومحبطة. كانت كتلة فوضوية من المسؤولين الحكوميين الجدد تنمو، متداخلة مع الموظفين الإداريين السابقين. كان المسؤولون القدامى لا يزالون موجودين، ولكن، بعد توقع مصيرهم الوشيك، سعوا جاهدين للاستفادة من فرصهم الأخيرة. تم تعقب برجوازية المدينة واضطهادها وخداعها وإساءة معاملتها. لقد تم القضاء على الطبقة الأرستقراطية البلدية من خلال الاضطهاد المنهجي وتدميرها من خلال المصادرات المتكررة والمسؤولية المفروضة عليها لضمان نجاح المداهمات المنظمة للحكومة على الشعب. وهكذا سادت أفظع الفوضى في جميع أنحاء الإمبراطورية المدمرة. في مثل هذه الظروف، ستكون مهمة أي مصلح هي تقليل الفوضى إلى نوع من النظام المستقر، وكلما كانت الأساليب أبسط وأكثر بدائية، كان ذلك أفضل. تم تدمير النظام الأكثر تهذيبا وصقلا في الماضي تماما بصورة يصعب معها ترميمه. ما كان موجودا هو الممارسة الوحشية للقرن الثالث، فظة وعنيفة كما كانت. نشأت هذه الممارسة إلى حد ما بسبب الموقف، وأبسط طريقة للخروج من الفوضى هو إصلاحها واستقرارها، وتقليصها إلى نظام وجعل النظام بسيطا وبدائيا قدر الإمكان. كان إصلاح ديوكلتيانوس وقنسطنطين هو الابن الشرعي للثورة الاجتماعية في القرن الثالث، وكان لا بد أن يتبع نفس الخطوط الرئيسة. في مهمتهما كان هذان الإمبراطوران يتمتعان بقدر ضئيل من الحرية مثل أغسطس. بالنسبة لكليهما كان الهدف هو استعادة الدولة. بعبقريته نجح أغسطس ليس فحسب في استعادة الدولة ولكن أيضًا ازدهار الشعب. ضحى ديوكلتيانوس وقنسطنطين، بالتأكيد ضد إرادتهما، بمصالح الشعب من أجل الحفاظ على الدولة وإنقاذها (23).
____________________
1 – Carl J. Ricahrd, Why We Are All Romans: The Roman Contribution to the Western World, Rowman & Littlefield, (London 2020), p. 36.
2 – Iain Spence, Douglas Kelly, and Peter Londey, (eds.), Conflict in Ancient Greece and Rome, Vol. 2, pp. 796.
3 – Adrian Goldsworthy, How Rome Fell: Death of a Superpower, Yale University Press (London, 2009), p.71.
4 – المصدر السابق ص 73
5 – Christina Riggs, the Oxford Handbook of Roman Egypt, Oxford University Press, 2012, p. 27.
6 – Caillan Davenport, the Sexual Habits of Caracalla: Roman, Gossip and Historiography, Histos 11 (2017) 75–100.
7 – Alan K. Bowman, Peter Garnsey and Averil Cameron, (eds.), the Cambridge Ancient History, 2nd edition, 2008, p. 21.
8 – Guy de la Bédoyère, Praetorian: the Rise and Fall of Rome’s Imperial Bodyguard, Yale University Press, (New Haven, 2017), p. 226.
9 – David S. Potter, A Companion to the Roman Empire, Blackwell, (Massachusetts, 2006), p. 154.
10 – Michael Kerrigan, Dark History of the Roman Emperors, Amber Books Ltd, (London, 2012) digital edition, pp. 329-330.
11 – Peter Sarris, Empires of Faith: The Fall of Rome to theRise of Islam, 500-700, Oxford University Press, 2011, p.16.
12 – Richard, pp. 35-38.
13 – L. de Blois and R.J. van der Spek, An Introduction to the Ancient World, 2nd edition, Routledge, (New York 2008), p.154.
14 – M. Rostovtzeff, the Social and Economic History of the Roman Empire, 2nd ed., Oxford University Press, (London, 1957), p. 470.
15 – المصدر السابق ص 146 و147
16 – نفس المصدر 448-450
17 – نفس المصدر 472 و473
18 – نفس المصدر 483
19 – نفس المصدر 486-488
20 – 491-493
21 – 492
22 – 495-497
23 – 500