“اسمي مصطفى محمود” .. سيرة متكسرة على مرايا الذات

اسمي مصطفى محمود
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

الشربيني عاشور

بدءًا من العنوان “اسمي مصطفى محمود”، سندرك أننا أمام تقنية الراوي المتكلم، الذي سيقدم من خلاله الكاتب الصحفي وائل لطفي روايته، وأن هذا الرواي سيكون هو نفسه “مصطفى محمود” المفكر والكاتب المعروف، والشخصية الرئيسية بل والوحيدة في الرواية، فكل من سترد أسماؤهم من الشخصيات مجرد ظلال، لا يبرر وجودها في النص سوى تماسها الشخصي مع الراوي.

يخاطبنا مصطفي محمود كقراء محتملين مباشرةً من العالم الآخر، من عالم الغيب، حيث السكون وانتفاء دواعي الصراعات أو الأحلام، وما تجتره على صاحبها من انتصارات وانكسارات، منطلقًا من لقائه مع محمد حسنين هيكل في الأهرام ليتلقى خبر عودته للكتابة، بعد أن أوقفه جمال عبد الناصر عنها!

يبدو خطاب الدكتور مصطفى إلينا نوعًا من التأمل والمراجعة الذاتية لأبرز مفاصل رحلته في الحياة، بكل ما حفلت به من مواقف وآراء، وصراعات نفسية وفكرية. ووفقًا للخيال الروائي يتأمل مصطفي محمود حياته بشفافية تليق بمكانه في العالم الآخر، وبصدق يبلغ حد اعترافه بالكذب! إنه يكاشفنا بمراجعاته لهذه الحياة بخصوصيتها وعمومها؛ وبذلك يأخذ السرد شكل السيرة الذاتية، إلا أنها سيرة ترتكز على عكاز “التحولات”، كما يفصح عنها العنوان الشارح على غلاف الرواية، ومن ثم فهو  لا يسرد تاريخًا شخصيًا، وإنما يعيد قراءة هذا التاريخ  بنبرة تشريحية لما انطوي عليه من مواقف وأحداث وآراء تجلت من خلالها تحولاته وتحولات المجتمع الذي توجه إليه بخطابه الفكري والثقافي طوال حياته.

لا يخفي الدكتور مصطفى منذ الأسطر الأولى كراهيته لمحمد حسنين هيكل المتعالي، وحقده الشخصي على جمال عبد الناصر الديكتاتور الذي منعه من الكتابة، وكذلك الواقع السياسي الذي لم ينل فيه حقه كمفكر وصحفي. لا يخفي انقلابه على اليسار، والعمل على تدميره، وولائه المطلق لأنور السادات الذي يدعوه صديقي، والذي لا يمنعه الإعجاب به من أن يصفه صراحة، بأنه “خبيث لبد في الذرة وتمسكن حتى تمكن”، وعندما تمكن انقلب على عبد الناصر وسار على خطاه بأستيكة فمحاه ومحاها!

لا ينكر مصطفى محمود الدور الذي لعبته أفكاره في هدم التوجه الاشتراكي الناصري، وتبنيه لصيغة أخرى من الانفتاح والرأسمالية. ولا أنه صاحب الدعوة لـ (أسلمة العلوم)، التي استفاد منها الأخوان المسلمون، وأكلوا بسببها (البُغاشة). كما لا ينكر أنه وظف أفكاره في خدمة السادات، بعد أن وجد فيه السادات ضالته، في انقلابه على خطى عبد الناصر، وتبنيه لشعار دولة (العلم والإيمان)، وهي التسمية التي حملها برنامجه التليفزيوني الشهير (العلم والإيمان)، الذي استهدف به فكَّ النزاع بين العلم والإيمان، وزرع مفهوم الإعجاز العلمي في القرآن، ما أدى لظهور جيل من المتكسبين بهذا المفهوم مثل الدكتور زغلول النجار.

يعترف مصطفى محمود بتبنيه لذات اللعبة التي لعبها “حسن البنا” على المصريين باستغلال خوفهم على هويتهم الدينية، وإقناعه لهم بأن الإنجليز سيغيرون هويتهم. وهي اللعبة التي سيلعبها مصطفى محمود في حربه على الاشتراكية واليسار. تلك الحرب التي استخدم فيها كل الوسائل، حتى ولو أدى الأمر إلى “تغيير بعض الحقائق، وقلب بعضها الآخر، وتزييف بعضها الثالث”؛ ففي الحرب كل الوسائل مشروعة! وهو لا يخجل من اعترافه بأن كل ما قاله في السد العالي كان مجرد أكاذيب! إلا أنه يبرر كذبه قائلاً: “لقد كان العهد الذي ظهرت فيه هو وقت الأكاذيب، واعترف أني كنت أحد رموز هذا العهد”. وكأي كاذب فقد اعتمد أحيانًا على ذاكرة الشعب الضعيفة!

هكذا يستمر بطل الرواية في تشريح سيرة تحولاته بلا مواربة أو تجمل، بل إنه يبلغ منتهى القسوة في محاكمة ذاته عندما يقول: “كنت رجلًا صغيرًا، أهدف للثروة وقد رزقتني الله الكثير”. أو حينما يصف نفسه بأنه كان: “رجل دعاية سوداء من الطراز الأول”. إلى أن تتكشف له ذاته كاملة، فإذا هو جملة من التناقضات الحادة، التي انتهت به وحيدًا مريضًا معزولًا، يتحدث إلى الجن في خلوته، كما أذاعت عنه ــ دون رغبته ــ إحدى صديقاته التي لم يسمها في الرواية، إلا معروفة بالنسبة لنا نحن قراء الرواية أو متلقي خطابه، وهي الكاتبة “لوتس عبد الكريم”. ثم يكون آخر ما يتأمله هو جنازته، التي لم تخرج بالشكل الذي يليق به، بعد أن قاطعه الإسلاميون وادعوا بأنه كان شيوعيًا يحمل مسبحة، واليسار الذي اتهمه بالدروشة! 

لعبة السرد

اختبأ وائل لطفي خلف بطل الرواية في سرده لتحولاته، وهو سرد ذو صوت واحد (منولوجي)، ونجح في لعبته الروائية بهذا الاختباء فلا تشعر به كقارئ، وإنما تشعر بصوت البطل فقط، وهو يجري عمليته التشريحية لحياةٍ متكسرةٍ على مرايا الذات. لكن المدهش أن بطل الرواية نفسه، سيفاجئنا في الثلث الأخير من الرواية، بكشف لعبة المؤلف، فيبدو الأمر كما لو أنه جزء من المكاشفة، ولكن على مستوى التقنية، كما هو الحال على مستوى السيرة، وهنا تبدو لعبة السرد أكثر تشويقًا عندما نعرف أن مصطفى محمود يوظف المؤلف “وائل لطفي” للحديث إلينا من خلاله. فأيهما يتحدث إلينا ؟ وأيهما يوظف الآخر؟ “أكتب لكم من العالم الآخر بلسان المؤلف”!

كلاهما إذن ينتحل صوت الآخر، وكلاهما ينجح في لعبته السردية. التي أسهمت لغتها في تكريس الانتحال بازدواجيته؛ فهي لغة تجنح إلى الكتابة الصحفية الخالية من الدسم البلاغي، لغة عارية مجردة من أيِّ زينة أو أردية جمالية. وهي بذلك تلائم حالة الاعتراف والمكاشفة من جهة، وتناسب التكوين الشخصي للبطل والمؤلف معًا، فكلاهما صحفي، كما تتسق في بساطتها فنيًا مع حالة الشخصية الرئيسة التي عرفت بقدرتها وعملها على “تبسيط العلوم”، حتى ولو كانت علومًا معقدة، ومن ثم فهي أقدر ما تكون في التعبير عن الشخصية، أو تعبير الشخصية عن نفسها.

يأخذ الهيكل العام للرواية، شكل المقالات المعنونة والمنفصلة خارجيًا، والمترابطة داخليًا بخيطٍ رفيعٍ من حياة الشخصية الرئيسية حيث تتشكل وحدتها الموضوعية. وهنا لا يعتمد الإطار الخارجي للرواية على أرقام أو تقسيم لفصول من أي نوع، وباستثناء عناوين المقالات المتواترة حتى النهاية لا يوجد أي تأطير خارجي للسرد. كذلك فلا أحداث أو حركة خارجية متطورة ظاهريًا، وإن كان ذلك يحدث ضمنيًا في إطار استعراض تحولات الشخصية النفسية والفكرية، والتي تبدأ من لحظة كراهية المجتمع ذي الصبغة السياسية التي لا تأخذ فيه الشخصية الرئيسية ما تستحقه من التقدير  ــ من وجهة نظرها ــ إلى أن تصعد لما تستحق ثم تعود من جديد للأفول والتلاشي في عالم الغيب الذي تتحدث إلينا منه، على أن غياب الأحداث أو الحركة الخارجية للشخصية لا ينظر إليه هنا باعتباره عيبًا فنيًا، وذلك من ناحيتين؛

الأولى: أن الشخصية تتحدث من عالم الغيب، وهو عالم سكوني متوارٍ تمامًا، ولا مجال لرصد حركة الشخصية فيه، وهو أيضًا عالم يكاد لا يسمح للشخصية إلا بتأمل ذاتها وحياتها ومواقفها، والإيحاء بهذا التأمل للمؤلف لكي ينوب عنها في الكلام.

الثانية: أن الرواية كجنس أدبي كسرت قوالبها المتوارثة، فلم يعد هناك تعريف محدد يحيط بها، حتى أصبح النظر النقدي إليها ـ من بعض الوجوه ـ يقوم على أن كل رواية تأتي بمعاييرها الشكلية، ومن ثم فلا نستطيع أن نسقط عليها أية معايير خارجية، وإنما ينبغي التعامل معها من خلال معاييرها الخاصة التي تبني نفسها عليها. 

“اسمي مصطفى محمود” رواية سلسلة، خفيفة ظل، وممتعة، نظرًا لطبيعة شخصية البطل ومكانته، ومدارات حياته الثرية، وما تفصح عنه من تحولات على المستوى الفكري والاجتماعي. وكان يمكن أن تكون الرواية أكثر جمالاً لو أنها لم تنتهِ بإقحام ملحق لحوار سعاد حسني مع مصطفي محمود، حتى وإن وضِع بعد انتهاء النص الروائي، كما كانت لتكون أكثر جمالاً لو أن “مصطفى محمود” هو الذي كتبها فعلاً لا إيهامًا!

 

مقالات من نفس القسم