الشربيني عاشور
كان شاعر الشباب أحمد رامي في الثمانين حينما سُئِل عن عمره، فأجاب:
“أنا في العشرين الرابعة”.
تبدو إجابة رامي مثاليةً بالنسبة لشاعرٍ، حمل منذ بواكير إنتاجه لقب “شاعر الشباب”، وهي تسمية تعود إلى مجلة “الشباب”، التي دأب على نشر أشعاره فيها، لا إلى علاقة تخصصية لكتاباته بالشباب كفئة عمرية. غير أن هذه التسمية انعكست على حياة رامي وأغانيه بالمعنى “الوجودي”. كان رامي رومانسيًا، ورآه الآخرون كذلك؛ ولذلك فقد تطابق وجوده الشخصي (وجوده في ذاته) مع وجوده في نظر الآخرين ( وجوده لذاته)، ومن ثم لم يعش أيَّ تناقض بين رؤيته لنفسه وبين رؤية الآخرين له. وهنا يمكن تلمس كلمة السر في استمراره النمطي في الكتابة الشعرية من مرحلة الشباب إلى مرحلة الشيخوخة، فعلى مدى أكثر من خمسين عامًا، قضاها في كتابة الأغنية، ظل هو هو؛ المحب المحروم الحائر بين وصل المحبوب وجفائه، ومنذ أطلق أغنياته الأولى بصوت أم كلثوم إلى آخر أغنياته بصوت ميادة الحناوي (أول ما شفتك حبيتك) سيظل أحد آباء الرومانسية المؤسسين في الأغنية الحديثة.
رومانسية رامي المثالية في واقعيتها (الرومانسية في ذاتها جزء من الواقع) تشكلت على هواه، فكانت الحبيبة في شعره خيالاً وطيفًا وحلمًا وأملاً منيرًا أحيانًا، غير أنها دائمًا وأبدًا هي الحب (اللي مفيش غيره). لنجد أنفسنا أمام شاعر، يمثل حالةً خاصةً، إن لم تكن نادرة في شعر الأغاني.
وإذا أخذنا بالمقولة النقدية التي ترى أن الرومانسية بعدد الرومانسيين، فإن شعر رامي المغنَّى (لا أقول الغنائي) يحمل تأكيدًا صريحًا على أحقيته بهذه المقولة، فقد كان رامي نسيج وحده، على الرغم من انتسابه إلى الجين العذري لفئةٍ من شعراء العرب أشهرهم جميل بن معمر، إلا أن عذرية رامي كانت شديدة الخصوصية، نابعةً من ذاته ومنتمية إليه، أكثر من انتمائها إلى تقليد شعري بعينه، بعد أن صبغها بصبغته، ولونها بألوانه الخاصة، وهي ألوان هواه: (خلوني أحبه على هوايا).
هذا التحديد الرومانسي لشعر رامي يمكن التدليل عليه بفحص أغانيه من خلال ثنائية “الموقف والأداة”. فمن حيث الموقف، بقي رامي المحب المكتفي بحبه، العائش في الحرمان، الحائر ما بين القرب والبعد، المشتاق للوصل، والراضي من المحبوب ولو بالجفاء (وعمري ما اشكي من حبك مهما غرامك لوعني . لكن أغير م اللي يحبك ويصون هواك أكتر مني).
وعلى مستوى الأداة، كان التجريد هو الطريقة المثلي للتعبير عن الحبيبة، فلا وجود لعينين كحيلتين أو سوداوين أو عسليتين ولا لشفتين ورديتين أو لخدين تفاحتين، ولا لشِعرٍ ذهبي أو حريري، ولو على سبيل المجاز كما هو الحال ـ مثلا ـ عند مرسي جميل عزيز (يا خدود عسلهم رباني). هذه الحسية المادية منعدمة عند رامي بسبب مثاليته الحالمة، وانغلاق أفق الشاعر على تجربة وحيدة في الحب، وحبيبة واحدة في الواقع، لا يتجاوزها في خاطبه الشعري هي كوكب الشرق أم كلثوم، التي وقع في الغرام بها وبصوتها، منذ أن رآها وسمعها ـ للمرة الأولى ـ في حديقة الأزبكية عام 1924؛ فتعلق بها وجدانيًا، وارتبط معها بما نسميه الآن “أخلاق العناية”، حيث هجر كتابة شعر الفصحى إلا قليلًا، وتفرغ لكتابة الأغاني لأم كلثوم، ومُدارستِها الشعر والأدب العربي، فضلاً عن وجوده كمستشارٍ فني في حياتها، حيث خصصت يوم الثلاثاء من كل أسبوع للقائه في بيتها للعمل والغداء معا.
كانت أم كلثوم كحبيبة وملهمة مصدر تغذية رامي الشعرية؛ ولذلك فقد توقف عن الكتابة برحيلها إلا ما كان في رثائها، بل إنه دخل في نوبة اكتئاب لازمته ستة أعوام إلى أن رحل.
ويتجلى أغاني رامي من حيث الأداة أيضًا في أسلوب اصطياده للفكرة واستقصائها، والدوران في رحابها، لا يخرج عنها إلى أفكار أخرى متفرقة تخرج بالأغنية عن وحدتها، إنها طريقته الفريدة في عَصْرِ الفكرة الواحدة، وتقطير معانيها. غير أن معاني رامي ـ كما أحصت الدكتورة نعمات فؤاد ـ تدور في فلك معجم شعري محدود قوامه 180 كلمة! وليس ذلك فحسب، فإلى جانب محدودية معجمه الشعري، يمكن إضافة (أنيميا) الصورة الشعرية، الذي استعاض عنه بالكثير من المعاني المبتكرة، خفيفة الظل، والصياغات الشعرية بالغة التأثير: (من كتر شوقي سبقت عمري وشفت بكره والوقت بدري)، (حتى الجفا محروم منه)، (واحشني وانت قصاد عيني). (وان مر يوم من غير رؤياك مايتنحسبش من عمري)، (لقيت روحي في عز جفاك بافكر فيك وأنا ناسي). إلى جانب بناء الجمل الشعرية على مقربة من آذان الناس وألسنتهم: (وأنت يا غالي علي َّ كله في حبك يهون).
ولأن المعنى لدي رامي مقدمٌ على الصورة؛ فقد كثرت في أغانيه المطابقة والمقابلة كتقنية فنية بارزة: (أهواك في قربك وف بعدك .. واشتاق لوصلك وأرضى جفاك)، (وسهرت وحدي ونام الليل)، (ما بين بعدك وشوقي إليك .. وبين قربك وخوفي عليك)، (واشوف في حبه سعدي وشقاي).
كان أحمد رامي الذي مرت ذكرى وفاته الثانية والأربعين قبل أيام (توفي 5 يونيه 1981) شاعرًا جميلاً في زمانه وعلى طريقته، وقد أحدثت كتابته للأغنية نقلةً نوعية في الغناء، انتشلته من بركة الابتذال والإباحية التي سادت قبله، وفتحت الباب أمام أجيال من الشعراء الذين التقطوا بصيصًا من أضوائه، وصنعوا منها اتجاهاتٍ متفردةً لأنفسهم في الكتابة، لكنه وبمرور الزمن، وطغيان قيم المادية والاستهلاك على حياة الناس ـ كما هو واقعٌ الآن ـ لم تعد أغاني رامي بموقفه وأداته على ذات الجمال، إلا في ارتباطها بزمانها وناسه وحنين من بقي منهم إلى ذلك الزمان، أي على سبيل ما قد كان، وما قد كان لا يعني إلا الذكرى.