نهى محمود
أفكر كثيرا جدا في مشهد “دينزل واشنطن” داخل قاعة المحكمة وهو يدلي بشهادته عن حادثة الطائرة المحطمة التي كان يقودها، أفكر في الضغط الكبير الذي مارسه عليه كل من حوله، وكم الأكاذيب التي عاشها وأحاط بها نفسه لينجو من السجن.
وأبتسم بانتصار عندما عجز عن التفوه بالكذب الذي كان سينقذ شركة الطيران وصناع الطائرة وسمعته وماء وجهه، كان سينقذ الجميع ويخسر ذاته للأبد.
قال لابنه عندما زاره في السجن فيما بعد: لم أكن أقوى على النطق بكلمة واحدة
أخرى من الكذب.
يسيطر عليّ ذلك المشهد طوال الوقت / أجربه كل يوم وأنا افتح عيني وأخطو نحو
تفاصيل الأيام المتشابهة المرسومة بقلم من الطباشير الأبيض على أسفلت الشارع
الذي تسكنه روحي. تبدو حبيسة، عاجزة عن كسر طلاسم الخطوط البيضاء الخشنة المتعرجة الضيقة.
تقف روحي كلها على طرف شفتيّ، تمارس المزيد من الابتسامات التعيسة، تقول الكلام الكاذب ذاته، عن أن كل الأمور تبدو على ما يرام، يخرج من أحشائي، يجرف فيها مثل شوكة عملاقة.
أجرر قدمي نحو المزيد من الأيام المتشابهة، أسير في نفق مظلم في نهايته البعيدة
قوس كبير من ألوان الشمس، لا يمكنني رؤيته بعيني لكن قلبي يشعر بدفئه.
في الحلم المعتاد يدق قلبي من السعادة والشوق، نبدو معا أصغر عشر سنوات، نقف فوق كورنيش صخري له سور، أمامنا ما يشبه شلال، أظننا كنا عند شلالات نياجرا.
شاهدت المكان في فيلم “رجل اسمه أوتو” لتوم هانكس منذ أيام، وفي اللحظة ذاتها فكرت أني في حياة أخرى ومع شريك لم أقابله أبدا قد أذهب لهناك، عندما أمتلك ورقة بيضاء وقلم لأكتب من جديد تعويذة حب.
يمكنني أن أبدأ كل شيء من جديد، طالما أحببت الخطابات، سأكتب مئات الخطابات للرجل الغريب سأخبره أني أحبه دائما، أحبه كل يوم وكل لحظة، أحبه وسط كل
ما أفعل وسط التعاسة والانشغال والإخفاقات الكثيرة وكسرة القلب والمواقف المحرجة، أحبه وسط النوم الذي أمارسه للهرب أو للسقوط في حفرة أليس أو لأخذ هدنة من الحزن. أحبه دون أن أمتلكه يوما.
أحبه حتى عندما اغادر البيت مبكرا جدا، وأمشي في شوارع أعرفها وأبكي.
في طقس البكاء غير المبرر، لا أهتم كثيرا لأسباب البكاء، فأنا في الأصل تركت كل شيء داخلي على حاله، الصناديق المغلقة، الأتربة، خيوط العناكب، الصور، خناجر ممتلئة بدمائي، قصاصات بها قصص حب قديمة، ذكريات موجودة ولا أذكرها لكني أعرف أنها هناك.
أمضي مع نسيم صباحي بارد ونهار ممتد وبكاء حار يمنحني فيما بعد أجنحة، أجلس في مكان أعرف أنه نهاية جولتي تلك، أربت كتفي وأبتسم، أقول لي احيانا إنها هرموناتي وأحيانا الخلافات اليومية الثقيلة التافهة في البيت. وأحيانا أربت فقط واهمس لي “معلش”.
أحمل ثقل كذبة كل يوم، ودموعي، وأمضي بتعثر شديد داخل النفق، أفكر في السطور الأولى للخطابات، أفكر في شغفي بالكتابة عن ذلك الوهج الذي أشعر به داخلي، كرة لهب تتحرك في قلبي.
وخطابات.. مئات الخطابات في حياة ـخرى
أكتب له فيها عن أحلامي به، عما يدور هناك، ما يقوله كل منا للآخر،
أخبره أني أظن أن مشاعري تلك قديمة جدا وأني ربما أحببته حتى في الحياة السابقة أحببته دون ان أمتلكه أبدا، وأتمنى أن يستحق حبي ولا يخذلني هذه المرة.