حنان ماهر
يستخدم مصطلح الصورة الفنية في دراسـة الـنص الشعري لأنها وسيلة فاعلة توصلنا إلـى إدراك تجربـة الـشاعر والوعاء الذي يستوعب تجربة الشاعر عن طريق السمو باللغة ومعرفة الدلالة والمعني الكامن خلف الصورة ومفرداتها.
نجد في الديوان الصورة تنمو داخل ذهن الشاعر مع نمو النص الشعري في تكامل مع ثقافته ووعيه وذاتيته التي بها موهبة الشاعر وعليه فإن “قوة الشعر تتمثّل في الإيحاء عن طريق الـصور الـشعرية لا فـي التـصريح بالأفكار مجردة ولا المبالغة في وصفها، تلك التي تجعل المشاعر والأحاسيس أقـرب إلى التعميم والتجريد منها إلى التصوير والتخصيص، فالشعر يعتمد على شعور الشاعر بنفسه و بما حوله شعوراً يتجاوب هو معه ، فيندفع إلى الكشف فنياً عن خبايا النفس أو الكون استجابة لهذا الشعور في لغة هي صور إيحائية لا صور مباشرة”. محمد غنيمي هلال، دراسات ونماذج في مذاهب الشعر ونقده، دار نهضة مصر للطبع، القاهرة، ص60.
نحن بصدد ديوان ” مليكة الظل والضجيج ” للشاعر أ. امبارك إبراهيم القليعي الصادر عن “المصرية المغربية للنشر والتوزيع”.
العنوان
هنا هناك من تكون صاحبة الأمر وتملك السلطة علي الظل والضجيج جاءت ” مليكة” على صيغة تأنيث للمليك الذي هو صيغة مبالغة للملك وذلك دلالة علي الكثرة والمبالغة في وصف الصفة وكثرة الضجيج وظله الذي داخل وحول الشاعر والذي بالتبعية أدي إلي كتابته في نصوص. هذا الضجيج الذي يؤرق ذات الشاعر ويحاول المتلقي معرفته واستخراج دلالة الصورة الفنية المكتوبة. ممكن تكون الدلالة هي القصائد لما فيها من ظلال وضجيج تجربة ووعي الشاعر . ويمكن أن تكون أرضه التي بها جمال الظلال وكذلك بها الكثير من الضجيج وما في ذلك من دلالة إثارة المشاكل التي تواجه بلده. وكذلك هي امرأة احدثت في نفس الشاعر الكثير من الظلال بما فيها من هدوء وسكون، والضجيج بما فيه من أحاسيس كثيرة مختلفة. هو عنوان به حيوية وأصوات وفخامة المليكة.
الغلاف
يسيطر عليه الظل بلونه الأسود وباقي الغلاف باللون الرمادي. هذا يدل على أن في انتظار المتلقي نصوص بها ألم وحزن وجدال كبير مع الذات ويظهر العنوان واسم الشاعر بلون أبيض دلالة أنه النور والمرشد للكاتب والديوان.
الإهداء
إلي السيدة الفاضلة أم الشاعر بوصف ينبئ أنها لها الأثر الكبير في روح ونفس الشاعر. فهي “التي انشقت كقمر لأوجد أنا كأرض”. الاهداء به تكريم ودلالة حبه الكبير لها.
الصورة الفنية ودلالتها
في محاولة للوصول إلي شعرية النص ومحاول ادراك ومعرفة الخصائص الفنية والجمالية والتكوينية للقصائد. فنجد أن النص يسير في مساره الدلالي والجمالي عبر تفكيك لغة الاتصال بين النص والمتلقي. فالنص يبني لغة جديدة ذات دلالة جديدة يستنبطها المتلقي في محاولة لبناء علاقة مع النص ومعرفة مواطن الجمال فيه عبر صوره ومجازه الشعري.
والأسلوب الذي اتخذه الشاعر يشكل المنجز التراكمي لديه من ثقافة وخبرات وموهبة وهو كاشف لما يحمله النص من أفكار وإمكانيات الشاعر. استخدم الشاعر عدة مقومات في الكتابة كانت الصورة الفنية أحدهم.
بالنسبة للديوان” مليكة الظل والضجيج” يظهر لنا من بداية العنوان أن المتلقي لن يدرك معني الشيء إلا بوجود واتصاله مع شيء آخر أي أن كل صورة أو فكرة أو حدث له إما دلالة ما أو اتصال مع شيئا آخر.
فلن نفهم الظل إلا بوجود الضجيج ويحاول الشاعر بناء صور في مخيلته ومن ثم مخيلة المتلقي عبر مدركات وعي شعوري ومؤثرات حسية مثل الأصوات و ورسم حيز مكاني وموروث والمقابلة واستخدام الصور كأقنعة وتأنيس الأشياء لتجسيدها وغيرها. وذلك لإبراز التعبير عن الذات المتصلة بالعالم من حوله ومن ذلك يحدث التأثير الذهني علي المتلقي الذي يعيش نفس المواقف.
وتكمن أهمية الصورة الشعرية في الطريقة التي يتم بها كتابة التخيل من تشبيهات واستعارات جديدة في النصوص حيث أن الشاعر لا يقوم بتشكيل صورة لفظية فقط بل إنه يسعى إلى خلق صورة ذهنية لدي المتلقي حتي يتمكن من خلق استجابة حسية. فالصورة الفنية التي بها استعارات تشبيهية هي أساس النص الشعري والفن الذي يميز النص وتساعد على فهم الفكرة وتقوم بتمثيل أفكار ومشاعر المتلقي تجاه النص فهي مرتبطة بالأحاسيس الإنسانية النابعة من تجارب الشاعر وبعده تجارب المتلقي لتقوم بخلق نسيج شعري متداخل.
نقرأ علي سبيل المثال من هذه التشبيهات والاستعارات ” عاشقة تمضغ قلوب عاشقيها”
و” جراحها لم تزل تنزف ظلا”
و” وتمشط شعر المصائب “
و” تتهجي الهجير ثم تكتب حرائقها”
و” أرض تلملم جلدها وتهم بالرحيل “
وهناك الكثير والكثير من الصورة الفنية الشعرية الاستعارية التي تثري الأفكار ولها قدرة أكبر علي الإيحاء والدلالة وجذب انتباه المتلقي ويجعله يراقب ويترصد ما يؤول إليه النص والاشتباك في أجوائه بتفاصيله وجزئياته .
كذلك الشاعر يقوم بأنسنة الأشياء ويجسدها ويعطيها صفات بشرية فنجد الأشياء تشعر وتعبر عن نفسها عن طريق صور الشاعر ولغته.
نجد ذلك في ” الوقت…
قاتل ومقتول
المبتهج الوحيد
هو الغائب”
هنا تظهر الصورة الوقت بتناقضاته فهو السعيد وهو القاتل والمقتول ويتركنا في معضلته عندما يغيب بانتهائه.
و” الصحراء أظافرك
تدميني عن التقائنا
العاقة لأبيها الماء..”
هنا صورة تصور الصحراء بحدتها وقسوتها التي تشبه العقوق بل ورسم صورة بصرية لها بشكل الأظافر دلالة رغم نعومة الأظافر إلا إنها إذا أصابت جلد أحدهم جرحت وخدشت. الشاعر يرسم مشهدا متخيلا تتبني عناصره على حواس الإنسان فهو يجعله من خلال الكلمات يرى رسالة الصحراء.
و ” الرحيل
فكرة لم تكن مطروحة
كانت تقاتل الهزال بسحرها
وتطبخه بقدورنا الفارغة…”
هنا صورة بها دلالة الصراع القائم بين فكرة قبول رحيل الأم وبين تصديق وقبول ذلك وتوضح كم كانت مقاتلة قوية وشجاعة وتقاوم مرضها الذي أدي إلي هزالها. وفيه تضخيم للصورة والحدث لما في من ألم.
و” في يوليو
الظهيرة قاسية جدا”
الصورة هنا بها توضيح مدي معاناة ذات الشاعر من حرارة الجو والقسوة يشعر بها الإنسان من القريب وهو تجسيد أن للظهيرة مشاعر مختلفة منها القسوة. بل أن الظهيرة ليست حرارة فقط هي أفكار وأثرها يزيد مع التعب والكد علي ممارسة الحياة اليومية بكل مقاوماتها.
و” المدينة تتوكأ علي الغواية
وتنشد هرمها عبر اليوتيوب”
هنا صورة مركبة فالمدينة أصبحت عجوز لا تقدر علي التحرك إلا بشيء تتوكأ عليه من كثرة ما مر عليها. بل أنها لا تتوكأ علي عصا ولكن علي الغواية بما فيها من انحراف وفساد وضياع. هنا صورة تفتح ذهن المتلقي لاستيعاب الفكرة وترسيخها والنفور من مساوئ المدينة التي ابتعدت عن المبادئ الحق نقرأ ” تغني وحدها للخوف وللقلق وللموت” تكملة لتجسيد الدلالة لما صار في هذه المدينة من انحراف الذي أدي إلي خوف وقلق بين من فيها.
الشاعر كذلك يستخدم الصور كمفتاح للذاكرة والارتباط بالمكان والأرض وما في ذلك من بعد دلالي عن الأصالة.
نجد ذلك علي سبيل المثال في “الوقت ثور
ترك الطريق المعبد
اتجه إلي منحدر جبلي”
هنا الوقت الذي يمثل وقت وزمن الشاعر يتركه ويتجه إلي مكان آخر. وتوظيف الجبل هنا لأنه من الموجودات المكانية حول الشاعر.
و ” المائدة الأسطورية التي أعدتها
كنت أحملها علي ظهري
وأطوف بها
ليأكل منها الإنس والجن والطير ”
هنا صورة ارتبط فيها الحيز المكاني للشاعر بالموروث الشاعر وظف فكرة الموائد التي تصنع في الاحتفالات بأنها أسطورية للمبالغة في الصورة لتصل أكبر قدر من التخيل والدلالة إلي المتلقي وكذلك ما في الصورة من كرم وايثار وهذا موجود في بيئة الشاعر في العموم وخص به نفسه باستخدام ضمير المتكلم. كل ذلك رسم صورة تخيلية لدي المتلقي وتذكر معها أحداث تمر مرت عليه في حالة من اشتباكه مع النص والديوان ككل.
و” في ليل يوليو
المطرز بالوهج
حيث الهضاب
والسهول الممتدة
إلي سطوع وشيك في القلب “
هنا كذلك توظيف ناجح للموجودات المكانية والبيئية حول الشاعر لرسم صورة ذهنية واسعة الدلالة.
و” لن نستطيع تمييزها من أعين الذئاب
كلاب برية
فرت من بين أسنانها
فاستعدوا بابتسامة للنهش”
لقد أصبحت عناصر الطبيعة الموجودة مرايا يستجلي فيها الأثر والمصير الذي انتهى إليه الإنسان فلا شك أنه يتماهى مع ذلك الذئب مثلا في وجود الكلاب.
وكذلك ” هنا كل شيء يختلط
الأساطير بالحقائق
الأبيض بالأسود…..
المدينة معلق في أذنيها الصمت…
وأسوي من دموعي
شرابا طهورا
أقدمه لطلاسمهم”
هنا الصور الفنية تمزج بين المرئي من الحياة وما فيها من أحداث تمر علي الشاعر والتي أدت لكتابة هذه الصورة وبين اللامرئي من الأساطير والطلاسم التي تكون مختزنة في وعيه. هذا يؤدي إلي ربط الذات المدركة للعالم حوله وحول المتلقي بما في المخيلة من أساطير عرفها.
كل ذلك يمثل بالنسبة للشاعر مرتكزا ذاتيا لتجربته في تمثيلها للانتماء والجذور وهذا يعطي ايحاء ادراكي للزمن لدي الشاعر بما فيه من أثر.
الشاعر كذلك يستخدم الصور كأقنعة يتخفي خلفها المعني ليمرر ويقنع المتلقي بتجربته ويكتب الصور مشحونة بالإيحاء ويترك للمتلقي محاولة كشف هذه الأقنعة.
نقرأ ” اتجه نحو منحدر جبلي
في أسفله كائن يشبهني تماما”
يوهمنا الشاعر بالتخفي خلف قناع كائن يشبهه و يترك للمتلقي مساحة التخيل لهذا الكائن وهل يشبهه معنويا أم ماديا؟ وهنا يقول الشاعر أننا كلنا في النهاية نشبه بعضنا نتساوى في كوننا كلنا إنسان.
وكذلك ” أنا سيد العراء
وقائد الغزوات
وفاتح بوابات الزمن”
الشاعر يعمق حضور الصور من خلال المونولوج الدرامي لدلالة إحساس الشاعر بالحنين إلي مواقف وأحداث.
وكذلك ” أنا الليل الوسيم …
أنا المسافة ما بين الخرافة والملل
ما بين الحقيقة والخيال”
هنا الصورة الفنية الشعرية تدل علي الأمل في التغيير من تغيير شكل الليل الأسود القاتم إلي الوسامة.
وكذلك ” أختبئ تحت أظافري
عند ظهور ظلها الشبح”.
هنا الصورة تدل علي الهروب من الواقع ومن فكرة موت الأم هو هروب معنوي وتحت الأظافر يدل علي ضآلة الشعور والإحساس بالنفس بعد فقد الأم.
الصور الفنية في الديوان كذلك تمنح القصائد تحولات مستمرة في الشعور والرؤي ويجعل ذلك القصيدة لها معطيات خارجية تمنحها حضورا اجتماعيا ويعبر عن ذلك برمزية الذي يعطي صور حسية لتكوين مشهد كامل كل ذلك من تفاعل ذات الشاعر مع وعي تجريبي وتصل الدلالة إلي لحظات التأمل بالنسبة للشاعر، تأمل النص وتأمل الذات وتأمل الواقع حوله ومدي التغيرات التي تحدث. وبعده تأمل المتلقي للنص.
ونجد ذلك علي سبيل المثال في ” الوقت ثور
قذف لتوه في إلي حلبة المصارعة “
وكذلك ” فيؤكد اليقين
أننا استحلنا إلي بحيرات وسيعة من العرق”
وكذلك ” سخية أنت حد الجنون
حين توزعين الموت بعدالة علي أولادك”
وكذلك” أنا منبع الخصوبة
وأنت مصبها”.
وكذلك ” حدثنا عن العتمة
الحاضنة لنوافذنا
عن الموت المعلق
في سقوف حلوقنا
عن الكون الذي لمَّ حقائبه
عن الجدران التي هدها الملل”
وكذلك ” جمر في العروق
وانشقاقات في النفس
وأوهام سائلة تستوطن القلب
ومازال صهد يوليو
يرسم خرائطه علي وجوهنا”
وكذلك ” سأبقي حيث كل شيء يبقي
وربما أسمي نفسي بالعدم ”
ونجد الشاعر هنا يوهم المتلقي أنه تأمل ووعي القصيدة من أول صورة لكن الشاعر يشكل صور تفاعلية متصلة معتمدة علي صور متتالية متشابكة مع صورة التالية كل ذلك في إطار مسارات إنسانية تصل بين المتلقي والنص مما يجعل المتلقي يشتبك ذهنيا مع النص فيصل إلي الدلالة أو المعني والأثر.
التعبير عن معاني النصوص باستخدام أساليب خارجية وصور حسية يكون وقتها التعبير له أثر نفسي وهو ما يكون دلالة مختلفة أمتع من الألفاظ الحقيقة في التعبير عن المعني مثل استخدام الأصوات والألوان والحركة داخل النصوص. الصورة تأتي بترتيبها في الذهن بعد سماع المعاني وإذا استخدم الشاعر أصوات وألوان تعطي صورة أوقع ومجسدة في ذهنه.
مثل ” كان صوتها
يأتيني مثل أسراب الطيور
تلامس الغمام بأجنحة فضية
تقودها ملائكة الروح
مصحوبة بجوقة موسيقية”
وكذلك ” النجوم تتشكل في حلقات
ثم تنفجر ألعاب نارية
البندقية معدة للطلق”
هنا تجد لذه المعني للصورة فالتعبير المجرد لن يخلق فضولا لدي المتلقي أما عندما يقوم بسرد قصائده بطريقة التمثيل وخلق صور حسية يجعله…
وفي ” الطحالب الملونة “
المقابلة هنا في اللون الأخضر الذي له دلالة الخير والنماء لكن هنا الطحالب لا تدل علي ذلك مما يعطي وضوح وإدراك المعني. وهي صورة تعطي دلالة النفور.
ونجد كذلك كتابة انعكاس الصورة والصور المقابلة لها في تفعيل الطاقة الشعرية في النصوص فيستدعي الشاعر الصور والأحداث بلغة درامية لتجسيد التوتر من خلال مقابلة الصور.
مثل ” كان الكائن يرتج رقيقا كورد
فجره الحنين”
و” علي جانبيها أشجار مروية بالقلق”
و ” أنا موتها الرقيق”
و ” كل شيء يختلط
الأساطير بالحقائق
الأبيض بالأسود
الموت بالحياة
العتمة بالضوء
النار بالماء
والحلم بالواقع”
هذه المقابلة توقظ في المتلقي عواطفه وتجعله يشارك الشاعر في انفعالاته وأفكاره ويضع مقارنات تعمل علي نقل الإحساس بدرجة أكبر وتقوم بالإشارة إلي عناصر مختلفة متقابلة مما يؤدي إلي نقل الفكرة والإحساس بدرجة أكبر.
في النهاية
ظهرت براعة الشاعر في تحويل المعاني إلى ألفاظ حيث يقوم بتشكيلها وإخراجها في صورة فنية جمالية. الشاعر لا يقوم بتشكيل صورة لفظية فقط بل إنه يسعى إلى خلق صورة ذهنية لدي المتلقي حتي يقوم بخلق استجابة حسية منه ودلالة. الشاعر عنده محتوي حسي وعقلي عن طريق التخيل الذي يؤدي إلي الأحاسيس المكتوبة. وعن طريق وعي التجربة وما بها من لغة تنقل الواقع المادي ومشاكسة اللحظة بما فيها من أثر اجتماعي ونفسي كي يتحقق وجود الصورة المتوهجة التي تعبر عن عمق الفكرة.