محمد الفخراني
ما الذي يمكن أن تفعله الحكاية؟ لا حَدّ لهذا.
ولا للخيال حَدّ فيما يمكنه الذهاب إليه.
الخيال والحكاية هُما بَطَلا الرواية الجديدة للكاتبة العمانية “هدى حمد”، والصادرة عن دار الآداب اللبنانية، بعنوان: “لا يُذْكَرون في مَجاز”.
في روايتها، تُنْشئ الكاتبة بالخيال والحكاية مكانًا مَرْئيًّا غير مرئي، لا غُرَباء يدخلونه، وإذا دخلوه لا يَخرجون، لكن ثَمَّة امرأة دَخَلَتْه، هي أول امرأة تَدْخله، “بثنة الثائبة”، فتكون سببًا ليصير المكان مرئيًّا ومَحْكيًّا.
قرية لها طابع سحري أسطوري تَبْنيها الكاتبة من خيال وحكايات، وتُسمِّيها “مَجاز”، وتَصنع لها مفاتيحَ بنائِها وهَدْمِها، والمفاتيح ليست إلا حكايات، وحدها الحكاية سِرُّ القرية، وسِرُّ ناسها وأهلها.
والناس ينقسمون في “مَجاز” إلى صنفين، أحدهما يعيش داخل “الحصن”، والآخر خارجه، لكن هناك ليالٍ للحَكْي، يلتئم فيها الجميع داخل الحصن، ليحكي لهم “ألماس” حكايات تُسَرِّي عنهم وتأسِرهم، وتُبقيهم تحت سطوة المكان وسطوته هو شخصيًّا.
“ألماس” الحارس لسُلْطَة حاكم الحِصْن، وفي الوقت نفسه هو الحاكم الحقيقي على “مَجاز”.
كاتبة تبحث عن حكاية:
في مُفْتَتَح الرواية نرى كاتبة تُعاني حَبْسَة الكتابة، وحلمًا تراه في نومها من وقت لآخر، وفيه ترى “الأرَضَة” تأكل دماغها، يزورها الحلم منذ طفولتها، ومع كل زيارة ترى تفصيلة جديدة، وفي هذه المَرَّة الأخيرة تسمع صوتًا هامسًا لامرأة، هي تعرف الصوت لكنها لم تتمكَّن من تمييز الكلمات، وفي صباح اليوم التالي تجد أن “الأرَضَة”، في عالم الواقع، قد أكَلَت جزءًا كبيرًا من مكتبتها المنزليَّة المُشْتَرَكة مع زوجها، وأثناء إنقاذهما المكتبة تَعْثُر الكاتبة على طَرْد بريدي وصلها في وقت سابق ولم تفتحه، حتى لم تقرأ اسم المُرْسِل، وتستوقفها رسالة مُصاحِبة للطَّرْد تقول: “ربما آن الأوان لتنظري لِما تَرَكَتْه جَدَّتك الثالثة والثمانون من أجلك”، التوقيع: جَدَّتك الأولى.
نعرف فيما بعد أن الجَدَّة الثالثة والثمانون هي نفسها “بَثْنَة الثائبة”، أول امرأة تدخل قرية “مَجاز”.
داخِل الطَّرْد تجد الكاتبة كتابًا ضخمًا، جلده الخارجي كأنه من قرون بائدة، ومكتوب بلغة ميكروسكوبية لا تعرفها، لكنها تُمَيِّز عناوين فصوله التسعة.
ترسم “هدى حمد” شخصية الكاتبة داخل الرواية بجُمَل قصيرة وإشارات بسيطة، صياغات وتكوينات سهلة، فهي: مُتَفَرِّغة للكتابة، تحب التحدُّث عن الكتابة والأفلام، لا حياة واقعية لها خارج منزلها، لديها كَنَبَة صفراء أثيرة، نعرف العلاقة الرهيفة للكاتبة بالعالَم، واختياراتها منه، فما يربطها بالعالم الواقعي خيوط بسيطة تختار مفرداتها.
هي التي تعيش بين كُتُبها وأفكارها وتفاصيلها المنزلية الصغيرة، لديها مكتبة كبيرة مفتوحة على غرفة المعيشة والمطبخ، ومكانها الأثير هو كَنَبَتِها الصفراء، كأنما لا تريد لشيء أن يُعَكِّر حالة الحلم/ الطفو التي تعيشها، هي أيضًا، ولأجل العثور على حكاية تكتبها، مستعدة أن تسافر إلى المجهول والمَنْبُوذ.
وجُمْلة مَشْهَدِيَّة حسَّاسة على لسان الكاتبة داخل الرواية، تُعَبِّر بها عن نفسها، تقول: “لا أدري لماذا يكون الصوت الذي تُحْدِثه السكين فوق أجزاء الخُضار المُستسلمة فوق لوح التقطيع الخشبي، مُقابِل مكتبةٍ مفتوحة، مُوَلِّدًا لشعور آمِن”.
سيِّدة الخرافات “الحقيقية”:
جدَّة تَنْبُذُها عائلتُها منذ ثلاثين سنة، لأنها تقرأ للناس الحَظّ، يأتون إليها بأنفسهم لتقرأ لهم، قال لها ابنها: “تُمارسين الخرافة المُحرَّمة”، “سيدة الخرافات الكبرى”، وحَمَل أسرته ليعيش في “مسقط”، وتركوا الجدَّة وحيدة، لكن الحفيدة الطفلة، الكاتبة فيما بعد، كانت قد حَكَت لجدَّتها حلم “الأرَضَة”، فابتسمَت الجدَّة لحفيدتها وقالت لها: “إنها علامة”.
الحفيدة التي صارت كاتبة، لن تُكَذِّب “العلامة” ستَدْخل حوارًا قصيرًا ومشدودًا مع زوجها، ثم تُجَهِّز حقيبتها، ومعها ذلك الكتاب الضخم، هدية جَدَّتها الثالثة والثمانون “بثنة الثائبة”، وتسافر إلى جدَّتها الأولى المنبوذة، وفي طريقها إلى تلك القرية البعيدة داخل الصحراء، تطير “أَرَضَة” مُلوَّنة من داخل الكتاب وتمنع عنها الرؤية، فتنحرف السيارة بقوة، وبَعْد زمن لا تعرفه، تَفيق الكاتبة لتجد نَفْسها فوق فراش أرضي في غرفة طينية، مُصابَة بكسور ورضوض، ورأسها مشقوق ومربوط بإحكام، وقُبالَتها تجلس تلك الابتسامة التي تملأ الوجه الدائري، فتعرفها الكاتبة على الفور، إنها الجَدَّة.
والجَدَّة التي تَعَلَّمت فى الكتاتيب، وتُجيد القراءة والكتابة، ستُمَرِّر الكتاب إلى حفيدتها، تَضعه في يدها وتطلب منها أن تقرأه، هي الحفيدة المُختارة، فحفيدات “بثنة” إمَّا مُمَرِّرات للكتاب أو قارئات له، والقارئة لا تظهر إلا كل مئة عام، والآن، الكاتبة، هي المُختارة لهذه المئة.
تقرأ الكاتبة لجدَّتها، سِتَّ حكايات عَمَّن يُطْلَق عليهم “المَنْسيُّون”، يَمْنَع “ألماس” أن تُذْكَر أسمائهم وحكاياتهم في “مَجاز”، لأنهم برأيه “آثِمون”، تَسَبَّبوا في انقطاع المطر وموت الزَّرع وحتى الرُضَّع، ولن تعود الحياة إلى “مَجاز” وناسها، إلا بنَفْي “المَنْسيِّين” إلى “جبل الغائب”، بشرط أن يُقِرَّ الواحد منهم أولًا على نفسه بأنه آثِم.
مُفارَقَة فنية:
هناك مُفارَقَة في عنوان الرواية ومَتْنِها/ حكايتها، وقرية “مَجاز” نفسها، هي أن الشخصيات التي مَنَعَ “ألماس” أن يأتي الناس على ذِكْر أسمائهم، وقالت الرواية فى عنوانها إنهم لا يُذْكَرون في “مَجاز”، هم أنفسهم من تَذْكُرهم الرواية، وأكثر الأسماء التي يَذْكُرها الناس في “مَجاز” ويَحْكون حكاياتهم، ويُفَكِّرون فيهم وينشغلون بهم، فدائمًا هناك أسئلة عنهم: “ماذا يَحْدُث لهؤلاء المَنْفيُّون إلى جبل الغائب؟ ماذا يحدث لهم هناك؟ وهل فِعْلًا يأتي المطر وتتعافَى حيواناتهم وينمو زرعهم عندما يتخلَّصون من هؤلاء إلى الجبل الخاص بهم؟”.
كأن عنوان الرواية ضِمْنِيَّا يَذْكُر “المَنْسيِّين” دون غيرهم، وكُتِبَ لأجلهم، لم يَنْقُصه غير أن يُحَدِّد أسمائهم، مثلما كُتِبَت الرواية لأجلهم، وذُكِرَت حكاياتهم في كتاب تقرؤه الكاتبة لجدَّتها الأولى، بعد أن وصلها من جدَّتها الثالثة والثمانون، ولولاهم ما وُجِدَت بالأساس حكايات عن “مَجاز”.
عنوان الرواية يُخَصِّص نَفْسَه للمَنْفيِّين المَنْسيِّين إلى “جبل الغائب”، كأن الرواية اختارتهم ليكونوا عنوانًا لها، وبالتالى هم مَذْكورون، وأكثر أشخاص معروفين ويتناقل الناس حكاياتهم، وهذا ما فَعَلَتْه الرواية، سِتُّ حكايات عن مَنْفِيِّين، وبداخل هذه السِتّ توجد حكايات أخرى.
الكُلّ للحكاية.. الحكاية للكُلّ:
في رواية “هدى حمد” الكُلّ يَحكي والكلّ له حكاية، تبدأ الرواية بكاتبة تحكي عن حياتها وعلاقتها بالعالَم والكتابة، ولأجل الحصول على حكاية هي مُستعدة أن تخوض المجهول، ونَدْخل طوال الرواية عالمًا مليئًا بحكايات وحَكَّائين: الضحَّاك، بثنة، صُفَيْراء، الخبَّابة، وغيرهم، الكل حَكّاء ومَحْكِيّ له، في دورة لا تنتهي من حكايات وخيال.
كأنما شَرْط ضِمْني داخل الرواية: “لا أحد يظهر إلا لتكون له حكاية يحكيها، أو حكاية جاء منها”.
سنعرف أن الحكاية هي سِرُّ حياة الناس في “مَجاز”، الحكاية تأتي بالمطر والزَّرْع، وليس التضحية بالمَنْسيِّين ما يفعل، الحكاية حَرَّكت الكاتبة داخل الرواية لتبحث عن فكرة تكتبها، الحكاية تَمْنح أهل “مَجاز” الحياة عندما يستمعون إليها في اجتماعهم داخل الحصن، هى أيضًا ما تجعل منهم مَنْفيِّين إلى “جبل الغائب”، هي ما جَعَلَت ﻠ “الخبَّابة” جبلًا خاصًا، وأنشأت جبلًا ثالثًا اسمه “جبل الممكن”، الحكاية أخْفَت العالم الخارجي عن “مَجاز” وكَشَفَتْه لها، هي السبب الحقيقي لكل شيء، الفرح والألم، السبب للحب، وخسارته، والحصول عليه من جديد (مثلما نقرأ في حكاية “بثنة الثائبة” والشاعر، وحتى في حكاية “ألماس”، و”الخبَّابة”).
نُصادِف في الرواية الكثير من كلمة “الحكاية” ومُشْتَّقاتها، فهي ما يَبْني ويُبْنَى عليه داخل الرواية.
“لا شيء يُسَرِّي عن الناس في مَجاز غير حياكة القصص”.
“ألماس” يقول ﻠ “حويضر” المَنْفِيّ: “ربما تعود إلى مَجاز على شكل قصة تُرْوَى”، حتى المنفيُّون لديهم فرصة العودة إلى “مَجاز” لكن على شكل حكاية، وهل هناك ما هو أفضل؟
العلاقة بين الحكايات:
تأخذ العلاقة بين الحكايات داخل الرواية أشكالًا مُتَعَدِّدة، مثلما هو حال الحكايات مع البشر، في الرواية تكون الحكايات مُتداخِلة أحيانًا فيما بينها، وأحيانًا تَسْبِق إحداها الأخرى، أو تتوازَى، أو تُفَسِّر إحداها الأخرى، متشابكة أو مُتَمَاسَّة، كأنما تُغَذِّي وتُحيي بعضها بعضًا، وتحكي عن ولبَعْضها بعضًا، ونكتشف أن كل شخصيات الرواية رغم أزمنتها وأماكنها المختلفة تربطها علاقات بطريقة ما، وتُؤثِّر في مصائر بعضها بعضًا.
تَنْسِج “هدى حمد” تفاصيل الحكايات، وكأن كل حكاية تَعرْف الجزء الغائب من حكاية أخرى، لا حكاية معزولة أو منفصلة، دورة الحكي لا تنقطع في لغة للرواية سَلِسَة، وإيقاع يميل إلى أن يكون سريعًا دون تَسَرُّع، وجُمَل قصيرة سهلة.
من ألعاب الكتابة:
هل كان مُتَعَمَّدًا؟ أنْ تكون أسماء مُعْظَم الشخصيات داخل الرواية إمَّا في صيغة التصغير مثل: “حويضر”، “نجيم”، “صفيراء”، أو في صيغة التكبير، على وَزْن فَعّال أو فاعل مثل: “الضَحَّاك، “الخبَّابة”، وحتى “بَثْنَة الثائبة”، لو أنه مقصود، ليَكُن، ولو أنه غير مقصود، فهذا، برأيي، لأن الكتابة بنفسها تُقَدِّم للكاتب هدايا أثناء كتابته، ربما لا يَنْتَبِه لها إلا فيما بعد، وبنفسها الكتابة تُكْمِل للكاتب بعض تفاصيلَ داخل نَصِّه، فالأسماء المُصَغَّرَة أو المُكَبَّرَة للشخصيات داخل الرواية تُناسِب حالة الحكايات والأوهام والأسطورة في قرية “مَجاز”، والأسطورة بطبيعتها، ومعها نوع مُعَيَّن من الحكايات، إمَّا أنها تُكَبِّر الأشياء والأشخاص أو تُصَغِّرهم، هي بأيّ حال لا تضعهم في حجمهم الطبيعي.
لكنَّ الحكاية في الرواية لها رأي مُكَمِّل: فتصغير الأسماء هنا ليس للتقليل، وإنما لتجعل أصحابها أكثر تَمَيُّزًا، وكأنها تُنَقِّيهم وتَسْتَبْعِد منهم كل شيء عدا جوهرهم، مثل “نُجَيم”، الذي يعشق النجوم في حكايته الخاصة، وتعشقه “ثُرَيَّا” السماء وتتحوَّل بشريَّةً لأجله.
والقرية نَفْسها تحمل اسم “مَجاز”، كأنها مكان غير واقعي بما تحمله كلمة “مَجاز” في معناها، هي تُعَادِل خيالًا ما، لكن الخيال أيضًا واقعي بطريقته، وله رؤيته وطريقته في أن يكون حقيقيًّا، مثلما للحقيقي طريقته في أن يكون خياليًّا.
لكُلٍ من الواقعي والخيالي طريقته للحضور في العالم، وهما في الوقت نفسه يتماسّان ويتناغمان معًا.
مَنْسِيُّون أَم مُختارون:
أفكر في المَنْسيِّين/ المَنْفيِّين، داخل الرواية إلى “جبل الغائب”، الممنوع ذِكْر أسمائهم في “مَجاز”، أراهم مُختارُون، ومَذْكورون بشكل خاص، هم مَنْ تَحَرَّروا، بحكايتهم الخاصة، من تَحَكُّمات “ألماس” والأوهام التي غَرَسَها في ناس “مَجاز” فجعلهم محبوسين سواء داخل الحصن أو خارجه.
المَنْسيُّون، تَحَرَّروا بالحكاية إلى حكاية مجهولة في “جبل الغائب”، فلا أحد يعرف ما يَحْدُث لهم فِعْلًا هناك، كلٌّ منهم يذهب إلى قِصَّتِه، تحديدًا القصة التي يتصوَّرها لنفسه، فإذا كان أهل “مَجاز” يعتقدون دون تأكيد أن المَنْسيِّين يواجهون مجهولًا أو هلاكًا ما في “جبل الغائب”، فإن ما يحدث بدايةً أن المَنْسيِّين يتحرَّرون، ثم في “جبل الغائب” يحصل كلٌّ منهم على قِصَّتِه الخاصة، من غير المُتَوَقَّع أن تكون لهم جميعًا القصة نفسها.
“ألماس” بنفسه يتحدَّث عن تلك القصة الخاصة في حوار مع “الخبَّابة” و”الضحَّاك”، بالجزء الأخير من الرواية.
“ألماس” والمَنْسيِّين:
أفكر أن “ألماس” يَرى في كل المَنْسيِّين انعكاسًا له، حتى لو أن هذا ليس واضحًا على السطح له هو نفسه، أو أنه لا يريد الاعتراف بصوت مسموع، فقط ربما اعترافه داخلي عميق، كلهم “ألماس” بطريقة ما، يرى فيهم قوته وضَعْفه، إذن لماذا يَنْفيهم؟ سأفكر هنا أنه يتصَرَّف معهم من نقطتين، الأولى هي وَعْيه المباشر، عقله الواعي، يَنْفيهم لأنهم مَصْدَر تهديد له، فكلٌّ منهم له حكاية خاصة مميَّزة، تُهَدِّد حكايته الشخصية، و”ألماس” يعرف أن الحكاية تأسِر ناس “مَجاز”، هو أيضًا يفتدي نفسه بالمنسيِّين، “ألماس” المُتَيَّم بالخلود مثلما قالت له “الخبَّابة”، كان طفلًا هشًّا مُعَرَّضًا للموت ونَجا بحكاية بها ساحر، كان “ألماس” طفلًا ضعيفًا مُنْطفئًا تحوَّل إلى هذا الرجل القوي اللامع.
وهنا، “ألماس”، رغم قوته وأسطوريته، فإنه الخائف الكبير في “مَجاز”، يخاف الموت، يبحث عن خلود، فيفتدي نفسه بضحايا.
النقطة الثانية في علاقة “ألماس” بالمَنْسيِّين: هي أن لا وعيه، وعقله الداخلي، يتعامل معهم (وأتوقَّع أنه يَلْمَح هذا داخل نفسه من وقت لآخر)، ويَنْفيهم لأنهم صورته بطريقة ما، لأنه يحبهم، ويريد أن يصنع لهم خلودًا ما.
يَسْتَحِقُّ ألماس” أن يكون أكبر “المَنْسيِّين”، أصحاب الحكايات الممسوسة بأسطورة وسِحْر، هو بداخله يعرف هذا عن نفسه ويُحِبُّه.
“ألماس” يُبْعِد “المَنْسيِّين” لأن عقله الداخلي، لا وعيه، يحبهم، يحب صورته المُنْعَكِسة فيهم، ويحب حكاياتهم الأسطورية التي تُضاهي حكايته الشخصية، هم جاءوا من المكان نفسه الذي جاء منه: الحكاية الخيالية الممسوسة بأسطورة، لذا هو ظاهريًّا يَنْفيهم، لكنه في الحقيقة، مثلما يتمنَّى لا وعيه، يُرْسلهم إلى “الخلود”، لأن “جبل الغائب” الذي يُرْسَلون إليه، لا أحد يعرف ما فيه، ولا ما يَحْدُث لهم هناك، حتى إن حكاية السَّحَرَة الموجودون هناك ويَتَغذّون على المَنْفيِّين ليست أكيدة.
حتى وإنْ لم يَخْلُد المَنْفيِّين بأجسادهم، فالحكاية ستمنحهم خلودهم، يعرف “ألماس” هذا عن الحكاية، وعاشَها منذ أول يوم له في الحياة.
برأيي أن “ألماس” لو اختار مكانًا يذهب إليه سيختار “جبل الغائب”.
في عالَمَيْن:
نرى الكاتبة داخل الرواية وكأنها في عالَمَيْن، فهي في البيت الطيني لجَدَّتها الأولى تقرأ لها كتاب “بثنة الثائبة”، وفي الوقت نفسه هي على سَريرٍ داخل مستشفى، وتشعر بحركة زوجها وأسرتها، وتسمعهم، وتحاول أن تتجاوب معهم، لكنها لا تستطيع، ربما لأنها لم تَنْتِهِ بَعْد من قراءة الكتاب لجَدَّتها، ولأن هذا بعض ما تفعله الحكاية: تُدْخِلنا عوالمَ مختلفة بالوقت نفسه، وتُسافر بنا في أزمنة وأماكن متوازية متقاطعة.
قصص حب:
عندما يبدو بشكل نهائي أن “ألماس” لا يَعْنيه غير أن يكون مُتَحَكِّمًا في “مَجاز”، ونَفْي المزيد من أهلها إلى “جبل الغائب”، وليس لديه غير قطعة الجليد تلك بَدَلًا من قلبه، نكتشف في حكايته الخاصة وحكاية “الخبَّابة”، أنه أحد العُشّاق الكبار، عاشق مُتَيَّم، له قصة حب مع “الخبَّابة”، لم يتوقف عن حُبِّها يومًا، وهو في النهاية سيُقَبِّل يدها أمام الجميع، ويبكي، ويُنَفِّذ طَلَبَها بتحرير أسرى ثلاثة من السجن، مُقابِل أن تَرْفَع الفِطْر السَّام الذي تتركه في طريقه كالشوك كلما أراد صعود جَبَلها إليها.
وعندما تَتَّهِمه “الخبَّابة” وتقول له: “أنت مُتَيَّم بخلودك، وسيَبْقى خلودك هو لهاثك الأبدي”، تَسقط من عينيه دمعة ويقول بصوت مُتَحَشْرج: “الرغبة في الحب لا تنفصل عن الرغبة في الخلود”.
واضحٌ وقتها أن “ألماس” مُسْتَعدٌّ للتنازل عن “خلوده”، وكل شيء، لأجل حبيبته “الخبَّابة”.
الحب، هو الذي تَسَبَّب في مجييء “بثنة” من بلدها إلى “مَجاز”، ومثلما نقرأ في حكايتها، سنعرف أن الحب هو مَنْ حَوَّلَها إلى.. أو في الحقيقة رَدَّها إلى ذاتها.
وفي “مَجاز” قصص حب أخرى تصل إلى مداها في شوط الجنون.
الحب حاضِرٌّ في الحكايات من البداية.
كَتَبَ.. يَكْتُب.. يعيش:
“ألماس” يمنع الكُتُب عن “مَجاز”، وفي حكايته الخاصة نعرف لماذا يمنعها، وأنَّ أمّه كانت لها أوراق كتَبَت فيها يوميَّاتها، تَعلَّمَت القراءة والكتابة كي تَكتب كتابًا، وعندما سألَها مُعَلِّمها ماذا ستكتب فيه، قالت: “أشياء.. أشياء قد يقرأها شخص ما يأتي بعدي”، أمنية لكلّ مَنْ يَكتب شيئًا.
المُفارَقة (غير المُسْتَغْرَبَة) أنه بعد موت أُمّه، لم يستطع “ألماس” التخلُّص من أوراقها (ربما في لا وعيه، بجزء عميق داخل نَفْسه، أحَبَّ الاحتفاظ بها)، لَمْلَمَ الأوراق ووضَعَها في مكان آمِن داخل الحصن، وبنفسه أهداها ﻠ “الخَبَّابة” فيما بعد.. لتتحقَّق أمنية الأم.. وتُقْرأ حكايتها من بَعْدها.. فتعيش.
سنعرف أن أهل “مَجاز”، وبشَكْل خاص “المَنْسِيُّون” يُحبُّون الكتب ويُدْخِلونها سِرًّا.. تعيش الحكاية دومًا كما هو مُتَوَقَّع منها ولها.
كُلٌّ يذهب إلى قِصَّته/ حكايته:
في الجزء الأخير من الرواية يؤكِّد “ألماس” أنَّ كل مُنْسيّ/ مَنْفِيّ يذهب في “جبل الغائب” إلى تَصَوُّراته، يعيش هناك القصة التي يَتَخَيَّلها لنفسه، بالتالي فإن كل الاقتراحات عن حياة “المَنْسيِّين” في “جبل الغائب” غير حقيقية، وفي أفضل حالاتها غير مُؤكَّدة.
“كل واحد منهم ذَهَبَ إلى القصة التي يتَصَوَّرها”، هكذا يَرُدُّ “ألماس” عندما تسأله “الخَبَّاءة” عمَّا هو موجود في “جبل “الغائب” وحال “المَنْسيِّين” هناك، لكنَّ “الضحَّاك” يتحدَّث عن سَحَرَة هناك يأكلون “المَنْسيِّين”، وهنا يستعمل “ألماس” فكرة “الضحَّاك” ضِدَّه ويَقْلِبها عليه بأن يقول: “هذا ما يتصوَّره الضحَّاك”.
ما قالَه “ألماس” هنا يَنْفَتِح على خيالات وتَصَوُّرات أخرى كثيرة تَليق بطبيعة الحكايات وجمالها وانفتاحها على بعضها بعضًا وعلى عوالم وأحلام أخرى.
انكشاف العالَم الخَفيّ:
الثلاثة الذين حَرَّرهم “ألماس” من السجن بطلب من “الخبَّابة” هم: “بثنة الثائبة”، و”صفيراء”، ورجلًا يُسَمَّى “الموت”، يَصعد الثلاثة جبلَ “الخبَّابة” ويضعون معها خطة تطيح بالحصن وتكشف العالم الخَفيّ/ نِصْف الحقيقة الغائبة، لأهل “مَجاز”.
أفكر أن “ألماس” كان يعرف أن هذا اليوم آتٍ لا مَحالة، حتى لو أنه لم يتكلَّم عنه أبدًا حتى مع نفسه، فإن جزءًا بداخله كان يعرف، وأن الحكاية ستُعيد تشكيل كل شيء في “مَجاز”، عَرَفَ أنه سيجلس تلك الجلسة هناك بعد أن يَنْهدم كل شيء، “ألماس” لم يُقاوِم، فقط جلس ينتظر مصيرًا جديدًا، أو.. فقط ينتظر، كان يعرف أن الحكايات التى يأسِر بها أهل “مَجاز”، هي نفسها ستُحَرِّرهم بطريقتها.
هل كان “ألماس” يتمنَّى ذلك اليوم؟ برأيي نعم، فلا بد أن هذا الرجل مَلَّ سنوات الأسْر داخل الحصن، وأسْرِه لنفسه بالدرجة الأولى، مَلَّ “خلوده” الوهمي، الذي كان مُضطرًّا للتضحية بآخرين لأجله، مَلَّ أن يَحكي الحكايات نفسها، لا بد أن رجلًا مثله، صَنْعَتُه الحكاية، وعاش منها ولأجلها، سيتمنَّى أن يعيش حكاية جديدة، ويَدْفع لأجلها من نَفْسِه مهما كَلَّفَه.
عندما انهار الحصن، بَقَى “ألماس” جالسًا على كُرْسِيِّه المعتاد، مُتَّكئًا على عصاه الثخينة، لأيام أو أسابيع دون حركة،، ظَهْره إلى “مَجاز”، ووجهه ناحية العالَم الخَفي، لا نرى تعبيرات وجهه، ولا عينيه، أتوَقَّع أنه كان يبتسم بمزيج من سخرية ورِضا، كأنما يقول: “أخيرًا..”، أفْتَرِض أنه سيقولها.
يَبْقَى “ألماس” بمكانه، وناس “مَجاز” يخشون الاقتراب منه، ما زالت الحكايات التي نَسَجَها حول نفسه، وداخل الناس، تُؤثِّر فيهم، وتَصْنع حوله تلك الهالة السحرية، حتى يقترب منه طفل.. أخيرًا، ويكتشفُ حقيقة.
الحكاية تَجْد دائمًا مَنْ يرويها:
تُؤمِن الرواية في قُدرة الحكاية على الحياة، والاستمرار فيها على اختلاف الزمان والمكان، وأنَّ الحكاية تجد دائمًا مَنْ يرويها، وتَمْنَح “خلودًا” لراويها، نرى في “مَجاز” “الضحَّاك” وهو يَذْكُر أسماء “المَنْسِيِّين” ويحكي حكاياتهم ﻠ “بثنة الثائبة”، وهذه الحكايات يَضُمُّها كتاب، تتركه “بثنة” لحفيداتها، إحداهن كاتبة تبحث عن حكاية تكتبها.
حكايات “المَنْسيِّين” الممنوعة داخل “مَجاز” هي مَنْ أعطت “الضَحَّاك” حياته وخلوده، فقط لأنه لم يَتَخَلَّ عنها وحَكاها، الحكايات حَرَّرَت “بثنة الثائبة”، وناس “مَجاز” كُلّهم، حَرَّرَت “ألماس” نفسه، لأنه بطريقة ما كان حبيسًا لقرية “مَجاز” ولرغبته في خلود وهمي، الحكاية أيضًا حَرَّرَت الكاتبة داخل الرواية من حَبْسَة الكتابة.
إلى الكتابة من جديد:
تنتهي الكاتبة داخل الرواية من قراءة الكتاب لجَدَّتها، لكن الأسلئة لا تزال تدور، تقول الكاتبة لجَدَّتَها: “أريد أن أعرف ماذا حَلَّ بالمَنْسيِّين”، فتَرُدُّ الجَدَّة: “كما قال ألماس يا صغيرتي.. يمكنك الآن أن تصنعي قصَّتكِ”.
أيضًا بعد انتهائها من قراءة الكتاب، تستطيع الكاتبة أن تفتح عينيها، أخيرًا، وهي في سريرها بالمستشفى، وترى حولها وجوهًا مألوفة تنتظر منها أن تقول أيّ شيء، فتقول: “أريد الآن أن أعود إلى كَنَبَتي الصفراء، لأكتب شيئًا”، هنا، يمكن اعتبار/ تَخَيُّل، أنَّ كل ما سَبَق هذه الجُمْلة هو نفسه الرواية التي كَتَبَتْها الكاتبة بعد إفاقتها، وعودتها من بيت جدَّتها/ المستشفى، لتَكْتُب رحلتها مع الجَدَّة و”مَجاز”، فقط جاءت الجُمْلة في نهاية الرواية بَدَلًا من أن تكون في أوَّلِها، لتَصْنع ما يُشْبِه حَكْيًا دائريًّا.
عادت الكاتبة داخل الرواية من رحلتها في الخيال والحكاية كي “تَصْنع قِصَّتها”.
كُلُّ مَنْ له حكاية سيُذْكَر، مَنْ له حكاية لا يُنْسى.