ابن الليل والمقهى

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد أبو درويش 

ينحدر “علي” من الشارع، من سلالة الليل، من أبناء الحارات والأرصفة والمقاهي. لا يُعرَف له أصل، وإن كان يؤكد أن أهله في الإسكندرية، لكن الجميع يهمس، أنه ابن حرام.

لاك البعض، عن أمه كثيرًا، وعن وأبيه الذي لا يعرفه، ويتحول الهمس إلى التصريح والمنابذة في أوقات السمر، وللسب وقت الخناق.

لا يُعرَف فعلًا حقيقة أصل “عليّ”، وإن كان يؤكد أنه إسكندراني، وحين يسأله أحد الفضوليين، يقول إنه هارب من أهله، لأن أبيه وأعمامه يمارسون السرقة، وأمه مطلقة، ولماذا لا تسافر لهم أبدًا؟ ولماذا لا ترى أمك؟ ولماذا لا تحمل بطاقة شخصية؟ أمك عايشة منين بعد الطلاق؟ ولا صحيح إنها..؟

يحاصرون “علي” بالأسئلة التي لا يجد إجابات لكثير منها، ولا يعرف كيف يعبر عن نفسه. وأنه ابن اليوم وليس ابن قبح الأمس. يغيّر من إجاباته أحيانًا فصرّح في جلسة صفاء بعد انتهاء وردية الليل، لأحد أقرانه أنه لا يعرف أبيه، ومن هنا بدأت الضجة والمعايرة، التي ندم عليها طويلًا، وصارت سمعة عليه في كل مقاهي فيصل والهرم، لكنه يؤكد بعد ذلك أنه كان يقصد من ذلك، عدم ارتياحه لأبيه وأهل أبيه، الذين لا يرحبون به، فقال: “لا أعرفه”.

“عليّ” شاب في العشرينيات، بشرته لا تقل سمارًا عن عينيه وشعره، وسيم دون مجهود، حتى أنه لا يمشط شعره المجعد الطويل أبدًا، ضآلة جسده جرأت الجميع عليه، يتحمس لكرة القدم ويشجع الزمالك، لكنه لا يمارس الكرة لعبًا، أو على الأقل الآن، فهو متفرغ حاليًا لرصّ حجارة المعسل في المقاهي.

لعليّ أفضل حجر شيشة من الممكن أن تشربه في حياتك، يهتم بزبائنه اهتمامًا كبيرًا، يفعل الأمر عن حب، هو ماهر جدًا وسريع جدًا في مهامه، لكنه وحين نزور مقهى “سي السيد” يغسل الشيش مرة أخرى ويضع في قلتها النعناع أعلى المياه، ثم يجلبها دون حتى أن نراه، يكتفي هو برؤيتنا فما إن نجلس حتى توضع الشِيَش في مستقرها، يعرف من يشرب السلوم ومن لا يفضل سوى القصّ رغم تعب صدره، ومن يكتفي بالشيشة الفواكه.

لا ينتظر “عليّ” بقشيشًا من أحد، إن دفع له أحد يشكره وإن لم يدفعه لا ضرر ولا “لوي بوز”، ولا “كل سنه وانت طيب يا باشا”. يضايفنا كأننا في منزله، يكاد يرفعنا فوق رأسه من الاهتمام، لا لشيء مروم، فقط هو يحب ذلك جدًا، ويتقنه جدًا.

بعض الزبائن يعاملهم “عليّ” كأهله، الذين يفخر بهم، أمام الناس، يسأل عنهم إذا غابوا ويتصل بهم، ويهتم لحضورهم، في أحيان وهو يجلس القرفصاء على الأرض، ويهمس في أذنهم، يطلب مالًا.

يغادر “عليّ” المقهى دون سبب ويرجع دون سبب، يتوقف عن العمل، لشعوره بالملل من وظيفته أحيانًا، ولشعوره بالمهانة كثيرًا، بسبب المعايرين والزبائن السُخَاف، لا يمتلك “علي” قدرة على الرد بإهانة أحد، ولا يلفظ أي شتائم من فمه، لم أره طيلة سنوات، يسبّ أحدًا، كان وديعًا ككلبٍ هزيل.

يترك المقهى ليعمل في “بيوتي سنتر” يصنع المشروبات وينظف وراء الزبائن ويمسح الحمامات، ثم يشعر بالمهانة في هذه المهنة، فيعود للمقهى مرة أخرى، وحين يسأله أحد الزبائن، “اختفيت فين”، يرد نيابة عنه من يٌقدّم المشروبات “كان شغال حفافة” يضحك الجميع بسخرية، ويبتسم “علي” خجلًا، شهران ويغادر المقهى مرة أخرى، وتتكرر التجربة، وفي أحيانٍ أخرى، يغادر المقهى ليشعر بحريته في الليل، يستيقظ بعد أذان العصر، يخرج لأحد المحال يشتري مكرونة سريعة التحضير، يأكلها في الطريق إلى أن يجد عربة كبدة، فيأكل بضع ساندوتشات كبدة وسجق، يسير بدءً من “كعابيش” مقر سكنه، تجاه شارع العريش المتفرع من فيصل، يحب زحمة العريش بعد المغرب، بنات جميلة، ولمسات سريعة، بعض النهود تلامس الأكتاف، دون اعتذار، ينشغل كلٌ في حاله، لن يضطر للهرب، وإن اضطر ففي خفته وزحمة الشارع سيلاحقون السراب. يعود من جديد للمريوطية، حيث مقهى “سي السيد” هذه المرة يدخل القهوة كزبون، يطلب من “وليد” مقدم المشروبات شاي وحجر قصّ.

يرد وليد:

–          “مش ناوي تتظبط يا عرص؟”

–          “مش راجع القهوة تاني”

–          “هتشتغل حفافة؟”

–          “أحسن ما أبوظ صحة الناس بالشيشة، انجز يا وليد عايز اشرب حجر”

يومان ويعود “عليّ” للمقهى، ليفسد صدور الزبائن بالشيشة، من جديد، وتظل دوائر حياته تدور رحاها دون ملل.

ذات يومٍ وأثناء رواح “علي” صباحًا من ورديته للسكن، صدمته سيارة مسرعة أثناء خلوّ شارع فيصل من زحمته المعتادة في الصباح المبكر، سقط “عليّ” على الأرض، لم ينزف دمًا، لكنه يصرخ من ألم جهنميّ في قدمه اليمنى، كأن جبل سقط فوق أرضٍ فدكّها، ارتمى على الأرض، يحاول المارّة رفعه لنقله لأقرب مشفى وهو يصرخ “رجّعوني القهوة”.  في المشفى لم يجدوا له أي بيانات، تواصلوا مع صاحب المقهى وأبلغوه، أتى هو وكل العاملين، سألوه عن بطاقته ولم يجدوها، فتحرر محضرًا وضمنه صاحب المقهى ببطاقته الشخصية. 

وبعد أن أجرى عملية زرع مسامير في القدم، أعادوه للسكن، كان يصرخ ويبكي طيلة الليل، ولا يعرف المحيطين به، أهلا ليبلغوهم عمّا أصابه.

بعد فترةٍ، كانوا ينقلونه للمقهى، وسط الزبائن التي كانت تتعاطف معه وتسليه وتحنن عليه بأموالٍ أحيانًا، كان جوّ المقهى مناسبًا للتخفيف عنه. وفي أول فرصة وجد فيه قدرة على المشي بقدمه المكتفة بسنّادة، مسك منقد الفحم من جديد لرصّ أحجار الشيشة.

في أيام إغلاق كورونا، وقت الموجة الأولى التي ضربت العالم، كنت قررت الخروج بسيارتي مللًا، من الجلوس في المنزل، أقابل أكمنة الداخلية، في الطرقات، أقول إنني ذاهب لعملي أو عائد منه

–           وماذا تعمل

–          صحفي

–          وريني كارنيه

هكذا كلما نويت الخروج. ذات يوم توجهت لمكان مقهى “سي السيد” أعلى نفق فيصل، اتصلت بصديق بيته مجاور للمقهى وقلت سنجلس بجوار المقهى، وكأننا نعيد أيامنا الخوالي، لم يكن غيرنا في الشارع تقريبا، والجو شتاء وكورونا تحصد الأرواح، وما أن وصلنا المقهى، فوجدنا “علي” يجلس القرفصاء ويحدق في الفراغ.

–          “بتعمل إيه هنا يا علي”

–          “آهو قاعد”

–          “بتشتغل ايه دلوقتي”

–          “مفيش برصّ حجارة بالنهار لأصحاب المحلات”

أدركت حينها أن “علي” سيعيش ويموت داخل مقهى، حتى وإن واتته رياح الغضب أحيانا، لكنه ابن أصيل للمقاهي. عادت الحياة بعد إغلاق كورونا، لكن لم تعد “سي السيد” مرة أخرى، وفتحت أخرى بديلا لها في المكان ذاته، وانتزعت الروح من المكان. ورغم مغادرة جميع العمال للمقهى الجديد، لم يغادر “علي”، وكأنه ينتمي للمكان ذاته، لا الشخوص ولا الأسماء. وكعادته لا يستقر في عمل، يضجر من المقهى ومن الزبائن، فيعود للتسكع وحيدًا حرًا بالليل، ويشرب ويضرب وينظف الحمامات، استراحةً من رصّ الشيشة، لكنه يبقى هو “علي” أفضل من يرصّ حجرًا في فيصل.  

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب