د. محمد سليم شوشة
تمثل رواية أيام الشمس المشرقة للروائية المصرية ميرال الطحاوى الصادرة عن دار العين 2022 تجربة إبداعية مختلفة وثرية ومهمة وفيها قدر كبير من المغايرة عن السائد فى مكونات وملامح مشروع ميرال الطحاوى الروائى السابق عليها، حيث تبدو أبرز ملامح الاختلاف فى الانفلات من الذاتية والخروج إلى نطاق أرحب وأوسع فى رؤية الآخر ورصد معاناته، فقد كانت هناك دائما شخصية تمثل ظلا للمؤلفة أو لمنشئة الخطاب الروائى فى رواياتها السابقة، هذه الشخصية تتمركز فى السرد أو تأخذ موقعها فيه بوصفها مركزه أو محور هذا العالم الروائى المتخيل أو المرصود، فيمكن أن نلمس هذا فى الخباء والباذنجانة الزرقاء وبروكلين هايتس التى تبدو ظاهريا على قدر من التماس أو التقاطع مع هذه الرواية أيام الشمس المشرقة، ولكن تبدو الفوارق بينهما فى الحقيقة كبيرة وجوهرية.
تبدو ميرال الطحاوى فى هذه التجربة الروائية الجديدة قادرة على النزول إلى الشارع والغوص فى تفاصيل الحياة لاصطياد النموذج الدال ورصده أو تشكيله وبروزته فى سردها بشكل مختلف على مستويات الرصد والإحساس به. فهى فى تقديرنا تصنع فى هذه الرواية نماذجها وتدخل مرحلة مغايرة من تجربتها الإبداعية ومشروعها الروائى، ربما لا تكون القضية أو الظاهرة التى تقاربها جديدة تماما وهى المرتبطة بأحوال المهاجرين ووضعياتهم فى هذه المجتمعات الجديدة وما يعيشون من حال من المغامرة التى يكونون فيها محملين بميراث وأحمال نفسية تحتل الذاكرة وتقسم الذات وتجعلها تبدو مشطورة أو منقسمة أو فيها بعض الازدواج المرضى.
يركز خطاب رواية الشمس المشرقة على رصد الظاهرة ورصد النموذج الإنسانى فى إطار تكوين نفسى أو داخلى يبدو هو الأساس، ولهذا فإن أبرز ما فى هذه الرواية من القيم الجمالية انطلاقها فى التبئير والإحساس بالعالم من داخل الشخصية، وكأن داخل الإنسان كون قائم بذاته، ومن سبره أو الإحساس به وتشكيله وعكسه فى السرد تكون حركة السرد بعد ذلك فى العالم المحيط، ولهذا فإن خطاب الرواية يركز بدرجة كبيرة وعفوية على اللحظة الراهنة،ـ ليرصد واقع الشخصية وبخاصة من الناحية النفسية، يرصد الآلام والخيبات والفشل والإحباط أو يرصد حالات التكسر والتمزق البطيء ويرصد الخسارات الجسيمة أو الناعمة سيان، ثم من هذه اللحظة الراهنة التى تأخذ موقعا مركزيا تكون الحركة بعد ذلك نحو الماضى أو جذور الشخصية وماضيها المؤلم أو المحبط أو الفاشل لتجذرها فى الألم أو تكشف أنها ما كانت تفر إلا من خيبة إلا إلى خيبات جديدة لكنها ربما تكون بطعم آخر، قد يكون بطعم أرض الشمس المشرقة ومثل حرائقها الموسمية.
تركز الرواية مع ثلاث شخصيات أساسية هى نعم الخباز ونجوى وأحمد الوكيل، وتكون نعم فى القلب منهما ليس لمجرد كونها الأقدم فى هذا المهجر أو الأكثر مساحة داخل فضاء الحكاية ولكن لكونها الرابط بين الشخصيتين إما بالزواج أو بالصداقة، وربما عبر شخصية نعم الخباز ننفذ إلى أهم نقاط تميز هذه الرواية فى مشروع ميرال الطحاوى السردى الذى كان فى كثير من جوانبه يقارب حالات من التفوق القبلى أو حالات الطموح العلمى والارتحال نحو تكوين الذات عبر السفر أو الدراسة ولكن لا يتم خدشه تقريبا إلا عبر بعض إشكالات الجسد، أما نعم الخباز فهى نمط من نوع مختلف تماما ومغاير للنماذج الإنسانية التى اهتمت بها ميرال الطحاوى عبر أعمالها الأخرى.
تقارب هذه الظاهرة أعمال أصوات روائية مهمة وبعضها عالمى مثل إيزابيل ألندى وكازووإيتشيجورو وفى الرواية العربية إنعام كجه جى وطارق الطيب وغيرهما، ولكن يبدو أن لهذه الظاهرة العالمية تجليها أو انعكاسها المختلف وتنوعها من أديب لآخر، ولذا فهى قادرة وقابلة لأن يتأسس عليها إبداع سرد متجدد ومتنوع بحسب تنوع هذه الأنماط وبحسب ما يتلبس بها من البؤس أو تصادف فى تجربتها من الوقائع أو الأحداث المختلفة.
لم ينزلق خطاب رواية أيام الشمس المشرقة نحو رصد مساحات الحنين أو التلفت إلى الوراء أو رصد مشاعر الفقد والانقسام بين مكانين أو عالمين وثقافتين، ولكنها بدت مختلفة عن هذا المسار شبه التقليدى وحاولت التركيز على واقع الشخصية وعلى تفاصيلها الصغيرة فى هذا الواقع الجديد، والمثال الأساسى والجيد والضابط لإيقاع السرد فى هذه الرواية هى نعم الخباز التى هى نموذج لمحاولة الاندماج والرضا بهذه الحياة المهجرية الجديدة والقبول بها بكل ما فيها مع الإصرار على السعى نحو الأفضل وعلى أن تظل لها أحلامها التى تسعى لتحقيقها طوال الوقت، ولهذا فالمساحة التى تحاول فيها نعم الخباز التقرب من سليم النجار ورصد وتمثيل حركتها ودأبها وصراعها الخفى مع نجوى هى من المساحات الثرية جماليا فى هذه الرواية. وتقود هذه المساحة التى تشكل فيها نموذجها ويستمتع الخطاب السردى برصد حركاتها وحيلها نحو نقطة التميز والاختلاف الأساسية فى استراتيجية السرد فى هذه الرواية، وهى التنقيب فى التفاصيل الصغيرة ورصد الشخصية عن قرب وعبر خطوط دقيقة أو اقتراب بدرجات أكبر ويكون فيها الأساس للجوانب النفسية أو التنامى النفسى التدريجى وتشكيل حالات من الحرمان المتجذر الذى يتنامى أو يتضاعف ويتراكم عبر الزمن حتى يصل إلى نقطة معينة تصبح فيها الشخصية عاجزة عن حمل كل هذا التراكم من الألم فلا يكون أمامها غير إفلاته أو التخفف منه أو التلاشى والانسحاق تحت وطأته.
تبدو استراتيجية الخطاب السردى فى هذه الرواية تمثيل نحو النسج والغزل الهادئ من التفاصيل الصغيرة، وجعل صورتها تتراكم تدريجيا ويكاد يكون هذا مع شخصيات الرواية ونماذجها كل، وعبر سيرتين إحداهما فى الماضى قبل المجيء إلى الشمس المشرقة وأخرى فى الوقت الراهن فى هذه الأرض وتلك البيئة الجديدة تتشكل حيوات هذه الشخصيات على هذا النحو من الغزل التدريجى. وتصبح الشخصيات كلها متجذرة فى الماضى أو ذات حكاية قديمة وماض يتم تقريبه واستحضاره عبر الذاكرة وصورة أخرى ماثلة بقوة عبر حركة الشخصية فى راهنها الجديد. وتأتى الحكايات الماضية فى نوع من الاتصال أو يتم استرجاعها بوصفها كتلة واحدة متصلة لتكون حاضرة فى ذهن المتلقى بعد البدء بمشهد واحد من الحاضر أو الزمن الآنى، ثم تأتى بقية تفاصيل قصتها الراهنة وهذا الزمن الآنى بنوع من التجزئة أو التفتيت والتداخل مع الشخصيات الأخرى عبر تقاطعاتهم فى الحياة بشكل حقيقى إمام عبر تداخل المكان أو المصالح مثل الزواج أو الصداقة أو بعض المساعدات التى يحتاج فيها بعضهم لبعض، فيما يمكن أن يشكل استراتيجية سينمائية تعتمد على التقديم التاريخى ثم بلورة الحاضر أو العودة إلى هذا الخط الزمنى الآنى الذى يجمعهم كلهم فى وعاء واحد، تتنوع الشخصيات نعم ولا يبدو هذا العالم محدودا بهذه النماذج المختارة التى يتم التركيز عليها، حيث يتم رصد سياق كامل فيه شخصيات أخرى من الأجانب أو الجنسيات المختلفة غير العرب من الأفارقة مثل ميمى دونج أو إلكسندر أو إيمى وغيرها من الشخصيات، فنكون فى المجمل أمام عالم روائى متشعب وله نسيج متشابك وواسع.
ومن الأنماط المتميزة والمختلفة والنماذج الإنسانية الثرية شخصية سليم النجار وقد اعتمد فيه خطاب الرواية على استثمار تقنية مهمة قلما يعتمد عليها الروائيون العرب وهى الراوى غير الموثوق به، فحياة سليم النجار يتم رصدها أو تتبعها وبخاصة فى الماضى عبر تصوراته ورواياته المختلفة والمتعددة، فهو يغزل أسطورته ويشكل حياته وتاريخه كما يريد فيبدو عبر هذا التكوين دالا على أكثر من قيمة جمالية أولها فكرة الكذب والتنويع فى الحكاية أو غزلها بحسب ما يريد وبحسب تصوراته الحياتية المتغيرة وقناعاته الكونية وفلسفاته الحياتية المتبدلة عبر الزمن، والحقيقة أن الراوى غير الموثوق به لم يكن فقط فى شخصية سليم النجار فقط، بل لها بعض الظلال فى شخصية نعم الخباز وأحمد الوكيل، ولكنها تبدو أكثر اكتمالا ونضجا فى شخصية سليم النجار الذى كان خطاب الرواية فى أعلى درجات التوفيق حين جعله نصف مثقف أو كاتب أو مؤلف روائى لم يعثر على ذاته أو يحققها بالكتابة بعد فوفر طاقته التخييلية لهذه الألعاب التى يمارسها على شخصيات عالمه وبخاصة شخصية نجوى التى توفرها أو تستحضرها له نعم الباز كما لو كانت تهىء له مائدة لتسترضيه ثم تقلبها عليه أو تسحبها منه فى وقت آخر حين يتبدل مزاجها.
ومن أهم القيم الجمالية الناتجة عن تقنية الراوى غير الموثوق به هو توظيف هذه الأكاذيب فى تصوير الشخصية أو مقاربتها نفسيا، فكل شخصية تبدو كما لو كانت ترسم حياتها أو تختار مصيرها أو تشكل تاريخها على طريقتها وبحسب ما تتمنى وتحلم أو كأنها ترسم صورتها الراهنة والآنية عبر تلاعبها بماضيها وتاريخها فى بلادها الأصلية التى لم يعد بالإمكان التأكد منها، وربما يكون من جماليات هذه التقنية هو إطار توظيفها الأشمل، فهى لا تأتى فى إطار رواية أصوات وإنما رواية راوٍ عليم واستراتيجية سردية يهيمن فيها صوت واحد يعلم الحقيقة ولكنه يترك لكل شخصية مساحة من التحرر تمارس فيها أكاذيبها التى هى بالأساس مجدية لكشف عجز الشخصية أو إكمال أبعادها الداخلية وكأن هذه الشخصية مطاردة بماضيها وتاريخها الذى تضطر للكذب لتجميله بالضبط كما هى مطاردة ومطرودة بما كان فى حياتها الماضية من الفقر والقسوة والإهمال والفشل والفساد.
وفى الرواية ملمح جمالى مهم آخر يرتبط بتصوير البيئة أو الجغرافيا الحاضنة لهذه الحكايات، وكشف تفاوتها البيئى وتنوعها الذى يبدو مستجيبا للتنوع الحاصل فى مصائر البشر والشخصيات الروائية، وهو ما يشكل كذلك إطارا مكانيا مختلفا وثريا ويسهم فى إمكانات استقبال المتلقى لهذا العالم الروائى وتخيل هذه الجغرافيا واستشعار حركة الشخصيات فيها فيما يشكل نمطا من الحركة الكونية التى تجعل الرواية متجاوزة للحدود المكانية التقليدية أو للقصة الفردية لتصبح راصدة لحركة كون كامل من الظلم والتفاوت والتنوع والمأساة التى يكاد يتطابق فيها الإنسان باختلاف أعراقه بل يتطابق فيها الإنسان والحيوان فى عالم من النكبات والأزمات والكوارث والمآسى العمياء التى لا تميز بين البشر، ولهذا فإن الحوادث المأساوية تكاد تشمل الإنسان والحيوان وتشمل أهل الشمس المشرقة من المهاجرين والهاربين وكذلك أهل الجنة الأبدية وتشمل كلاب البحر التى تجبر فيها الأمهات أبناءها على الفطام القسرى وخوض تجربة الغوص وخوض غمار الماء والحياة الجديدة التى يتحتم فيها الانفصال وتنفلت فيها الفروع من جذوعها وجذورها لتواجه مصائرها منفردة، وهو تقريبا ما يكاد يكون حاصلا مع كافة النماذج البشرية التى قاربها خطاب الرواية. على أن جماليات البيئة أو الطبيعة ربما يتجاوز هذا المعطى التفسيرى وتلك القيمة الدلالية التى تتوحد فيها عناصر الكون إلى تشكيل محددات بصرية تثرى خطاب الرواية وتجعله مجسدا لحياة من لحم ودم وفيه وفرة فى التفاصيل الخاصة بالطبيعة التى تبدو هى الجانى أو المشكل لحياة الناس وليس مجرد السياسة أو الثقافة أو حركة التاريخ، بل تبدو الطبيعة نفسها فاعلا ومؤثرا بقوة وكأن البشر فى مصائرهم أقرب لحال كلاب البحر التى تنفق وتتزاوج على الشاطئ وتترك المياه ملونة بالدماء فى مواسم متعاقبة بالضبط مثل حال مركب عين الحياة البائسة المتسللة إلى حدود أريزونا للدخول إلى شواطئها فتصبح معلقة لحين وتضطر الأمهات فى النهاية لترك الأطفال السبعة وراء المركب فى المياه عالقين بأطواق النجاة ليلتقطهم الغرباء وتحتضنهم طبيعة جديدة أو شاطئ جديد مخلفين وراءهم كثيرا من الجدل والخلاف فى الرأى بالنسبة لطبقات أخرى غير أمثالهم من المهاجرين أو الهاربين، لتكون قصة المركب اختزالا وتكثيفا رمزيا لقصص البشر الذين مرت حكاياتهم فى فضاء الرواية ومازالت منفتحة على احتمالات أخرى متروكة من النجاح أو الفشل، من التحقق أو الانتهاء والسير البطيء نحو نهايتهم البائسة على نحو ما كان مع ميمى الملكة الإفريقية الغامضة التى تجسد نموذجا جديدا ومختلفا لمظاهر استغلال جديد واقتصاد مختلف يرتبط بثقافة ما بعد الحداثة وعصر التوحش الرأسمالى الذى يحول كل شىء إلى سلعة حتى بويضات النساء المتعثرات فى إيجاد سبيل مناسبة للعمل أو الكسب. والحقيقة أن هناك نقاطا وجوانب أخرى كثيرة جديرة بالتأمل فى الخطاب السردى لهذا الرواية وتكوينها الجمالى أو رسالتها وقيمها الدلالية، منها مثلا خطاب الغرائبية والأسطورة أو التشكيل العجائبى لبعض الحكايات المرتبطة بجذور هذه الشخصيات أو النماذج الإنسانية التى تقاربها على نحو ما نجد مع أم أحمد الوكيل وإن كانت الحكاية فيها قدر من الافتعال الذى يكاد لا يتطابق بشكل دقيق مع محددات الثقافة المصرية أو العربية أو ربما ثقافة المشرق بشكل عام، وأن هذه العجائبية أو الفنتازيا القائمة على اللعن والطرد والجنون والإثم لم تصل إلى هذا الحد الموصوف فى الرواية وقد يكون الهدف منها مغازلة الترجمة أو النقل إلى لغات أخرى قد تنجذب إلى هذه العجائبية المشرقية على نحو ما قد نجد لدى سلمان رشدى، فهذه الشجرة التى ارتبطت بشخصية أم أحمد الوكيل المجنونة أو المضطربة أو التى تلبس بها الجن هى شجرة على قدر كبير من الافتعال الذى قد يتجافى مع بقية الرواية المنقبة بدأب فى شخصياتها لاستيلاد جمالياتها الخاصة عبر استكشاف البشر وغابات نفوسهم أو تكوينهم الداخلى الغامض والجدير بالبحث والمشكل لعجائبية عصرية من نوع مختلف عن هذه العجائبية التقليدية التى يمثلها نموذج الشجرة التى تم ربط أم أحمد الوكيل بها ونبذها فى العراء لمدة طويلة حتى الموت وهى عارية فتتشكل الشجرة بهيئتها.