هانم الشربيني
يتحول المكان فى الرواية الأحدث للكاتبة ميرال الطحاوى “أيام الشمس المشرقة ” ليصبح تاريخ موازى لحياة تلك الشخصيات من المهاجرين ، تلعب المرتفعات الصخرية دور رئيسيى فى الرواية ،وهى هى تكملة لصراع الشخصيات مع الحياة إنها أجسادًا أنثوية وردية وقانية وعملاقة ومخيفة ،فهى مرتفعات صخرية تعكس ما يشتهي العابرون تخيُّله، المكان بالطبع شريك البشر لكنه هنا عنصر مكمل بالمأساة التى أحاقت هؤلاء البشرالذين جاءوا هذه الأرض هاربين من الأحلام .
وجوه بشرية متشابهة لثلاث عجائز
للوقوف على أرض هذه الرواية البديعة التى تؤسس وتضيف سطور كبيرة من الإبداع عن أدب الشتات ،سنجد أن الروائية جعلت من تلك الطبيعة وصورتها كما أنها بشر صامتون ومتفرجون على الشخصيات التى تتحدث عنها الرواية ” نعم الخباز ، أحمد الوكيل ،ميمى دونج ، وغيرهم ، فتطلُّ “الشمس المشرقة” من الجهة الشرقية على ثلاثة تكوينات جبلية صخرية منحوتة بأشكالٍ يصعُب التكهُّن بحقيقتها، يطلقون عليها “أشباح الأخوات الثلاث”، يعتقد المدققون في تلك الأشكال الصخرية البازلتية المتجاورة أنها تعكس في الليالي القمرية ثلاثة وجوه بشرية متشابهة لثلاث عجائز يتربعن بحكمة فوق التلال، ويحتضنَّ بتلك التجاويف والتضاريس ذلك الفضاء الصحراوي المحيط بها.
تصف ميرال الطحاوى خريطة المكان فتصفه أنه من بعيد فقط جميل ومبهج لكن فى الحقيقة أن لتلك المرتفعات الصخريةلا تعكس ما يشتهي العابرون تخيُّله، فلقد اشتهى السكان الأصليون لتلك الأرض رؤية تلك المنحوتات البازلتية بوصفها أجسادًا أنثوية وردية وقانية وعملاقة ومخيفة، وإعتقد البعض بقُدسيَّتها والبعض بخصوبتها؛ لأن الأمطار الصيفية تنزلق من بين ممراتها وتغمر الهضاب الصغيرة تحت أقدامها لتشكل مروجًا عُشبية من النباتات الصحراوية، التي تبدو من بعيد فقط جميلة ومبهجة.
مقابر “الشمس المشرقة”
تخبر د. ميرال الطحاوى التى خاضت نفسها تجربة الهجرة لأمريكا قبل 15 عاما القارئ عن كيف يتسكع المتسللون الجُدد في تلك الهضاب التى تنموبها أشجار المسكيت والصَّفْصاف الصحراوي والسنط والنباتات الشوكية، وتتضخم أشجار الصبَّار وتتعدد أشكالها وتزهر بتلك الأزهار ذات الألوان الأرجوانية التي تجتذب ضحاياها من الكائنات،تحت أقدام هذه الأرض التى تطلق عليها الكاتبة الشقيقات الثلاث وعلى واحدة من تلك الربوات العشبية تنام مقابر “الشمس المشرقة” والتي يطلقون عليها “حديقة الأرواح”، انتثرت القبور على الربوة بلا سياج، فأصبحت المقبرة ساحة مفتوحة تتفتح فيها النباتات الشوكية والصبَّار والأشجار العُشبية وتحتضن تلك الشواهد الصغيرة، والقبور التي يحرص أصحابها على تجميلها بالأزهار البلاستيكية الرخيصة والصلبان، والحجارة الملونة التي نُقش عليها أسماء الموتى، تنام المقابر متجاورة لا يكترث أهلها بالهُويَّات التي انحدروا منها، تتراصُّ القبور إلى جانب بعضها متساوية وعارية وفقيرة وسط نباتات الصبار العملاقة، وهذه المقابر في “حديقة الأرواح” يتسكع المتسللون الجُدد بحثًا عن مساحة ظليلة حول تلك المباني الخدمية الملحقة بالمقبرة، يجلسون تحت ظلال تلك الأشجار الصحراوية العملاقة ويفترشون مساءً تلك الممرات العُشبية وينامون، ففي “حديقة الأرواح” كان “أحمد الوكيل” أحد الشخصيات الرئيسية بالرواية وهو مصرى الجنسية يجول باحثًا كغيره عن مأوى حين عثر على المصلى الذي خُصِّصَ كوحدةٍ خدميةٍ ملحقةٍ بالمقبرة لهؤلاء الذين يحرصون على الدفن وفقًا لطقوس الشريعة الإسلامية، ثم أُضيف إليه مساحة صغيرة لصلاة الجنازة، زودها بعض المؤمنين بالمصاحف وسجاجيد الصلاة وقَنانِيِّ المسك والبَخُور والأكفان والملاحف لتغسيل وتكفين الموتى، ثم أصبح مسجدًا يقصده البعض للصلاة،وفي ذلك المصلى قابل “أحمد الوكيل” الرجل الذي سيصبح صديقه الوحيد في تلك البلاد، الإمام “أبا عبد القادر”، الذي كرَّس حياته للقيام بواجباته الشرعية في رحلة تكريم الإنسان، من هيئته كان يمكن التكهن بأن الإمام ينحدر من سلالة باكستانية أو ماليزية، أو غيرها من تلك البلاد التي يرتدي أبناؤها قميصًا فضفاضًا طويلًا وصدريةً وصندلًا من السيور.
الطابَع الطبوغرافي لأيام الشمس المشرقة .
ستجد أن أيام الشمس المشرقة ليست صفة إنما هى إسم مكان الرواية ، الذى يختفي الناس فيه بسبب الضجر، يرحلون عدة أيام في الجبال القريبة وقد يعودون أو لا يعودون، إذا كنت من سكان “الشمس المشرقة” ووقفت على الخليج ثم رفعت رأسك باتجاه إلى الشمال سترى كيف توسعت “الجنة الأبديَّة” وتلألأت حولها عدة منتجعات سكنية جديدة نُحتت في الجبال الشاهقة، صار سكان السفح ينظرون إلى السماء أكثر لمراقبة الفروق المعمارية التي يمتاز بها كل منتجع جديد، يتأملون الحافة الشرقية التي تطل منها جنة عَدْن، وتلال الجنة، ثم يتحولون إلى الحافة الغربية حيث يطلُّ منتجع وادي الجنة الأبديَّة، وإلى جانبه نسمات الجنة، نعم توسعت “الشمس المشرقة” أيضًا في السفح باطِّراد من دون أن يلاحظ ذلك أحد، تكدست فيها البيوت الخشبية المتجاورة، ولكنها رغم ذلك التوسع استطاعت الاحتفاظ بطابَعها الطبوغرافي الفريد باعتبارها مجرد منخفض قارِّي يتوسط سلسلة من الهضاب والتلال الخفيضة والصخور النارية، ربما كان هذا المنخفض في زمن ما امتدادًا جغرافيًّا للساحل الغربي للمحيط ثم جف، وأصبح مجرد تجمُّع سكني يتدرج على منحدر، تتوسع “الشمس المشرقة” في التلال لكن يظل قلبها النابض بالحياة متصلًا بذلك القاع المتكدس بالبشر، يطلق البعض على ذلك القاع “سُرَّة الأرض” والبعض يطلق عليه “خزَّان الخراء”، فالبيوت تنحدر من السفح المشرف من بعيدٍ على الخليج وتنزلق التربة تدريجيًّا لتصبح أكثر انخفاضًا وصولًا إلى هذا الحي العريق أو “سرة الأرض
معاناة حياة المهاجرين
عبر فضاء الرواية الذى يعكس وجه حقيقى من معاناة حياة المهاجرين لأمريكا ، يتأسس الحي على بيوت خشبية قديمة تتحلق حول قاعٍ رطبٍ أو مستنقعٍ آسنٍ تتجمَّع فيه أمطار المواسم الصيفية الكثيفة لتشكل عـددًا من المسـتنقعات الصغيرة، تلتحم تلك المستنقعات في نقطة أكثر عمقًا لتصبح تجمعًا للمياه الراكدة، يطلقون على تلك النقطة التي تتجمع فيها مياه المستنقعات الضحلة “بحيرة”، على حواف ماء البحيرة الآسن تفرخ أسراب العقارب والنمل الأبيض، ورغم روائح الماء الراكد فما زال سكان “الشمس المشرقة” يحتفلون بامتلاء هذه البحيرة ونضوبها باعتباره أحد طقوس التجدُّد وتغيُّر الفصول، ويعتقد البعض أن تلك البحيرات تلطف حَرَّ الصيف القائظ، وأن الطبيعة لم تحرمهم من بعض المناظر الطبيعية؛ فذلك الماء الراكد يشبه في النهاية بشكلٍ ما تلك البحيرات الصناعية التي تنتشر بين البيوت الجبلية فوق في “الجنة الأبديَّة”.
عدة أزقَّة تزدحم بالوافدين
توسعت “الشمس المشرقة” بطُرُقها العشوائيَّة حول “سُرَّة الأرض”، وأصبح لها عدة جيوب عرقية متباينة، وبعد أن كانت تلك المقاطعة مجرد بيوت متنقلة على المنخفض، أصبح هناك عدة أزقَّة تزدحم بالوافدين، وتكتسب مع الوقت مسميات شمسية متعددة، مثل عين الشمس، والجحيم الشمسي، ووادي الشمس الوردي وغيرها من المسميات التي كانت تحدد هُويَّة سكانها، الذين يتكاثرون ويتغيرون ويتمددون بين الشاحنات والبيوت المتنقلة والأكواخ الخشبية التي تلاصق بعضها البعض وتؤهل سكانها إلى الاندماج القسري.
تعد الرواية “أيام الشمس المشرقة “تأريخ للتاريخ الحقيقى والأرض الحقيقة التى تعكس حياة المهاجرين،إختارت ميرال الطحاوى أرض الحلم الأكبر للهجرة أمريكا،وإستخدمت الخريطة النفسية لأبطالها، وأبعادهم الاجتماعية السابقة حتى على الوصول لأرض المهجر، ووظفت تفاصيلهم اليومية التي تنتقيها بعناية، لتسلط الضوء على حياة لم نكن نعرفها، وعن فئة مهمّشة يظن الجميع، على عكس الواقع، أنها الفئة الناجية،ومنحت الكاتبة لهؤلاء المهمّشين في المجتمع الغربي صوتًا، وحفرت عميقًا فى مأساتهم وأسئلتهم ومصاعب حياتهم وتاريخهم لتقدم أسئلة تخصهم وعالمًا روائيًا هو واقعهم ذاته، قبل أن يتحوّل السرد إلى رواية متماسكة تسرد قصصهم الإنسانية ببراعة تامة حيث تجرى حوادث القتل والإختفاء والتسلل وهزيمة الأحلام ،وإختبار الصدمات وتغير المصائر .
مثقفين رومانسيين سكان تلة سنام الجمل
بين المتسللين الجدد تعكس ميرال الطحاوى حياة متوسطى الحال فى أرض المهجر حيث تصور سكان تلةَ “سنام الجمل” وهم مجموعةٌ من البشر الذين لا يجمع بينهم سوى الغرابة وإن تعددت أعراقهم، يتجاور في تلك المنطقة السكنية بعضُ المدرسين مثل “ليسا”، والممرضات مثل “إيمي”، والموظفين مثل “نجوى”، والعجائز المتقاعدين، والفنانين الذين يحلمون بتلك الفرص التي قد تطرق أبوابهم،فكان ذلك الحي وما زال عامرًا بنقاط جذب لهؤلاء الذين يمكن اعتبارهم متوسطي الحال، مجرد مثقفين رومانسيين اعتقدوا أن تلك المساحة تصلح نموذجًا مثالىًّا لخلق مدينتهم الفاضلة كما يتخيلونها
عبر الأرض أيضا تصور ميرال حياة المتعطلين والفقراء وما أكثرهم فتقول عبر سطور الرواية :”صار المتجر أهم مناطق الجذب إلى جانب المجمع الخيري ومكتب خدمة إغاثة الأُسَر المنكوبة، فمعظمهم يتردد على الحي ليتوقف عند وحدة إغاثة الأُسَر المنكوبة (القلب المقدس لرعاية الأُسَر المنكوبة)، تلك القبلة التي يحوم حولها المتعطلون والفقراء وما أكثرهم، يقوم المركز بمساعدة الأُسَر الفقيرة في النكبات، الحوادث، الحرائق، دفن الموتى غير القادرين على تكلفة الجنازات،و أُلحِقتْ وحدة للرعاية الصحية أو عيادة مجانية صغيرة تعمل فيها “إيمي” أحد شخوص الرواية وهى ممرضة متدربة تقوم بالإسعافات الأوَّلية، وتوزيع بعض أدوية الأمراض المزمنة على غير المشمولين بالرعاية الصحية، وهم غالبية شعب الشمس المشرقة التي لا يملك معظم سكانها أوراقًا شرعية للإقامة أو الرعاية؛ تقوم أيضًا بإجراء فحوص الحمل، ومتابعة الحوامل، ومعالجة بعض الأمراض الجنسية المُعْدِية، وتوزيع الواقيات الذَّكَرية وحبوب الإجهاض مجانًا على المترددين؛ تقوم العيادة الصحية أيضًا بتشجيع بعض النشاطات الخيرية مثل التبرع بالدم والبلازما والتبرع بالبويضات، وتقدم لراغبي التبرع مبلغًا عينيًّا يكفي لاستدراج الكثير من المحتاجين الذين يقفون صفًّا طويلًا للتبرع وقبض بعض القطع النقدية.