ميّ هشام
صدرت رواية “أيام الشمس المشرقة” عن الحياة في المهجر، أخيراً، للأكاديمية المصرية ميرال الطحاوي، إذ يمتاز المولود الروائي الجديد بشخصية متفردة، سواء على مستوى السرد الشيّق، أو على مستوى المضمون الذي تطرح شخوصه أسئلة عن الهوية الإنسانية، وتأثّرها بتجربة الهجرة والاغتراب.
والطحاوي ذات الأصول البدوية، تعمل كأستاذة للأدب العربي بكلية اللغات العالمية والترجمة بجامعة أريزونا الأميركية، وحصلت على جائزة الدولة التشجيعية في مصر فئة “الرواية” عام 2002، وجائزة “نجيب محفوظ” الأدبية عن الجامعة الأميركية بالقاهرة في 2011، كما وصلت لقائمة “البوكر” القصيرة.
ومن أشهر روايات ميرال: “الخباء”، و”الباذنجانة الزرقاء”، و”نقرات الظباء”، و”بروكلين هايتس”، وترجمت أعمالها للعديد من اللغات.
دخول مفاجئ
ولا تنتظر الطحاوي كثيراً للدخول في صلب الرواية، ولا تسرف في التمهيد لصعود الشخصيات، بل على العكس، يكاد الأمر يشبه الوصفة السينمائية الهوليودية المحفوظة لقتل الملل واقتناص المشاهدين من اللحظة الأولى، فقارئ الرواية، لا يكاد يتابع بضع وريقات من الفصل الأول، حتى يصدم بـ3 حوادث موت مأساوية في أحداث رواية “الشمس المشرقة”.
ولا تنفصل نقطة التحوّل المبكرة في حياة البطلة “نعم الخبّاز” بوفاة ابنها البكري، عن سلسلة من حوادث الموت المأساوية الشائعة في جيل الشباب أو الجيل الثاني بالشمس المشرقة، ففي كل بيت من البيوت الخشبية في حي المهاجرين فاجعة تعلن عن نفسها، ولا تختلف سوى في تفاصيلها الدراماتيكية.
وفي حديثها لـ”الشرق”، أوضحت الطحاوي، غرضها من ذلك الدخول الصادم والسريع في لب معاناة الأبطال من الأسطر الأولى، إذ تعتبر أن طبيعة الحياة في العالم الروائي الذي تصفه “هي من خلقت حالة التوتر والقلق، ومشاهد الموت المجاني، في حوادث القتل والانتحار والرصاص الطائش”.
وتضيف: “أردت في بداية الرواية أن أصور هذا العالم وكيف تتحول الأخبار المحلية اليومية إلى سلسلة من النكبات الإنسانية التي لا يكترث لها أحد، فبعد موت الأبناء وحوادث إطلاق النار وإغلاق المدارس لأبوابها، سيفتح الجميع أبوابهم ونوافذهم متناسين الفواجع التي أصبحت من فرط تكرارها مجرد خبر”.
أدب الشتات
تتناول “أيام الشمس المشرقة” حياة المهاجرين من شتى بقاع الأرض إلى الشمس المشرقة، التي يظن القارئ في البداية أنها أرض خيالية، تتماس في وصفها مع أكثر من وجهة من وجهات الهجرة، ثم ما يلبث أن يدرك أنها، على الأرجح، تتصل بوجهة الهجرة، الحلم، الولايات المتحدة.
وتنضم الرواية إلى عشرات غيرها اتخذت من حياة المهاجرين بعيداً عن أوطانهم مادةً خصبة، فيما يعرف بـ”أدب المهجر” أو “أدب الشتات”، فكاتبة الرواية ذاتها صدر لها عام 2010 في هذه الفئة رواية “بروكلين هايتس”، التي دخلت القائمة القصيرة لجائزة “البوكر” العربية.
وتفسر الطحاوي شيوع هذا النوع الأدبي أخيراً، قائلة: “كان وما زال هذا النوع من الأدب محوراً مهماً من محاور الكتابة، خصوصاً في السنوات الأخيرة التي شهدت أحداث درامية تتصل بمغامرة الهجرة غير الشرعية، إذ هناك روايات توقفت عند تلك الظواهر، وليس فقط (بروكلين هايتس) أو (أيام الشمس المشرقة)، لكن تظل كل تجربة أدبية تمثل حالة خاصة في الرؤية والطرح والخبرة الإنسانية”.
احتفاء بالمهمشين
بشكل عام تجسد “أيام الشمس المشرقة” احتفاءً كبيراً بالهامش والمهمشين، ويتمثل ذلك على سبيل المثال في جعل نعم الخباز وقصتها، حكاية مركزية في الرواية التي تنطلق منها كل الحكايات، وهي الشخصية التي قد تكون هامشية في أي رواية أخرى.
وتلك الشخصية المليئة بالمتناقضات، عاملة النظافة التي شوّه وجهها إثر حادثة في طفولتها، الصاخبة والبذيئة، والفقيرة حد الفاقة، والمتعثرة في الحب وخائبة الأمل في العلاقات، وحتى في الأمومة، لكن رغم ذلك، تحصد تعاطفاً في نهاية المطاف.
والكاتبة بدورها، تعاطفت مع نعم، بل وقعت في غرامها على حد تعبيرها، ربما لأنها تجسد التناقضات التي يصعب فهمها، فهي امرأة ليست جميلة لأسباب خارجة عن إرادتها، لكنها تفني عمرها بحثاً عن التقبل والمحبة، وأميّة، لكنها قادرة على خلق لغتها، ومجابهة المجتمع بلا خجل، وطموحة حد الشره، ومفعمة بالحياة والأسى والقبح والتناقض”.
وتضيف الطحاوي أن “نعم شخصية موجودة في الحقيقة، ووجودها يلفت نظر أي كاتب، ربما كانت المشكلة الوحيدة لدي كيف يمكن خلق ذلك روائياً، كيف يمكن كتابتها والقبض عليها وتوظيفها في الحكاية دون أن تفرض سلطتها على النص”.
وجوه يجمعها البؤس
بالمضي قدماً في فصول الرواية، يستكشف القارئ عدد من البورتريهات الأدبية لوجوه المهجر القادمين من ضروب مختلفة، فيما يشترك الجميع في الخلفية المأساوية والبؤس.
إلى جانب المأساة الغالبة على تاريخ الجميع، تتمتع الشخصيات في الرواية بطزاجة أدبية، إذ ينقلون نماذج غير اعتيادية أو مطروقة من قبل، على غرار عاملات النظافة اللاتي تنبعث منهن دوماً رائحة هي خليط من مساحيق وسوائل التنظيف، وتترك آثارها على راحات أيديهن، ويمتلكن ذوقاً خاصاً في الأزياء يعكس ارتباكاً واضحاً في الهوية لديهن.
وفي الرواية يتعرف القارئ أيضاً إلى فقيه المهاجرين، الذي تتركز مهمته على تكريم الموتى وإقامة الشعائر إذ تتراجع مكانة الحياة الروحية وتتصل بالموت فحسب، كما يتعرف إلى العاملين في مجال الإخلاء والمتاجرة في كنوز المنازل المهدّمة، وحتى متطوعي وموظفي المجموعات الإغاثية الذين تتناولهم الرواية من زاوية غير اعتيادية أيضاً.
وتعتبر الكاتبة الخريطة السكانية لـ”الشمس المشرقة” نموذجاً لمدن الهجرة واللجوء حول العالم، إذ شهد القرن الجديد ربما أضخم موجة من موجات الهجرة، كما ألقت الحروب والظروف الاقتصادية الصعبة بملايين البشر من العرب والأفارقة والآسيويين و بالطبع المكسيكيين وسكان أميركا الجنوبية إلى الحدود.
وتؤكد الطحاوي أن “على الضفة الأخرى تكونت الكثير من الجيوب العرقية بفعل موجات الهجرة المتتالية، لكنهم جميعاً سيجدون أنفسهم بالضرورة في قاع المجتمع الذي استقبلهم، وباستثناءات بسيطة، فالجميع سيتحولون إلى سكان الشمس المشرقة”.
مشاهدات شخصية
الأبطال الخائبون للرواية شخصيات من لحم ودم، صاغتها الطحاوي أدبياً بعد أن قابلتهم منذ تغربها قبل 15 عاماً، وخلال تنقّلها بين ولايات أميركية عدة، حيث درّست في جامعات كبرى وأخرى صغيرة، وعاشت في مدن مليئة بالمهاجرين، وربطتها علاقات وطيدة بالجاليات العربية التي تحاول التأقلم هناك.
ولا تدّعي الكاتبة أن وضعها كأستاذة جامعية، كان أفضل من الآخرين، غير أنه كان “يمنحها بعض الخبرة والقدرة على تأمل العالم الذي يتكوّن ويتشكّل ببؤس حولها”، والذي يتشابه ويتكرر بصرف النظر عن الخلفية العرقية للوافدين.
وإحدى الخصال المشتركة بين شخصيات “أيام الشمس المشرقة” أنهم عادةً ما يختلقون تاريخاً متخيّلاً لهم ما قبل الهجرة، وتلك الحالة تشخصها الطحاوي قائلة: “لا تخلو تجربة الكتابة عن الشتات والمهجر من صور الرغبة في استدعاء الماضي، الذي لم يكن ربما سعيداً بالضرورة، فعلاقة المهاجر بالماضي علاقة غامضة جداً وإشكالية، إذ يحمل المهاجر معه صوراً ذهنية مشوشة عن ذاته وعن ماضيه”.
وتلك الحالة يتلقفها الراوي، فيتعمد، وفقاً للطحاوي، استحضار واستدعاء ذلك الماضي، لكن الراوي يستحضره مشوشاً، ومتخيلاً أيضاً، لأن الحقيقة غائبة، وربما لأن الشتات والتغرب عن مسقط الرأس يسمح لأبطاله أن يتصوروا أنفسهم بشكل حر وربما مختلق.
ثنائية الشمس والجنّة
غيرَ أن الرواية لا تتوقف عند سرد يوميات سكان “الشمس المشرقة” وويلات الهجرة فحسب، بل تعرض أيضاً ثنائية: “الشمس المشرقة والجنة الأبدية” وعلاقتهما بعضهما ببعض، فبينما الشمس المشرقة ترمز لمجتمع المهاجرين، فإنها تطل بدورها على “الجنة الأبدية”، المقاطعة الغنية التي يمتهن فيها سكان الشمس أعمالاً متواضعة، كالتنظيف وتهذيب الحدائق، ويشهدون عن كثب معيشة سكانها الفارهة، التي تغرّبوا وهم يحلمون بها ولم يحصلوا عليها.
وعبر تلك الثنائية، أبرزت الطحاوي في روايتها حقيقة أن المهاجرين أولئك لم يجدوا ضالتهم في المهجر، وذهبوا هناك ليواجهوا طبقية وبؤساً فوق الغربة.
وتوضّح: “أردت أن أرسم جغرافية بلدة حدودية ساحلية تقع في قلب مقاطعات غنية وبين منتجعات الأغنياء، والحقيقة أن الغرب الأميركي أو حتى الساحل الشرقي الجنوبي للولايات المتحدة، وولايات كثيرة تتماثل في تلك الجغرافية”.
وتعتقد الكاتبة ميرال الطحاوي أن جغرافية الشمس المشرقة ليست متخيلة تماماً، إذ يمكن أن نجدها في أوروبا أو في أستراليا أو كندا، كما أن هذا التجاور بين الجنة الأبدية والقاع، تجاور تاريخي يخلق الكثير من المفارقات، وعادةً ما يصنع واقعاً شديد البؤس والتفاوت الطبقي.