دعاء إبراهيم
الساحراتُ يمتلكن أنوفًا كبيرةً كالمناقير، مناقير طيور ماهرة في التحليق من سماءٍ إلى أخرى، تلمس بأجنحتها أبواب السماوات، لكنها لا تطرُقها، ربما لأنها طوال الوقت مشغولة بالبحث عن طعامها بين خَشَاش الأرض، تُنقِّب في الطين عن الديدان، أو عن ضِفْدَعة تائهة، الساحرات طيور بمناقير طويلة كبيرة تحمل بين طيَّاتها شبكاتٍ للصيد، فهي ماهرة بالقنص، ولا تعرف الخسارة. الساحرات شرِّيرات في الحكايا، سِحرهُنَّ أسود. منبوذات. لا أحد يُحبُّهنَّ. الساحرات في الحكايات يمتلكن أنوفًا حمراء كبيرة.
طوال الوقت أشعر أن ما حلَّ بخالتي لعنة، تحمل لعنتها على وجهها وتسأل مرآتها: “يا مرايتي يا مرايتي… مَنْ أجمل مني؟” تجيبُها أَنِ الجميع. لكن الجميع لا يسكن معها في نفس الغرفة ولا يُشاطرها الملابس، عُلب المكياﭺ الرخيصة، والفِرَاش، الأحلام والكوابيس أيضًا. الجميع لا يتمتع بوجوده الدائم الطاغي الحاضر ليلَ نهار. في الصباح حين تستيقظ، وفي الليل قبل أن تُغمض عينها لتنام.
أمي تذكُرها دائمًا بلعنتها، ذنبُها الذي تكفِّر عنه، الذنب الذي لا تعرفه على وجه التحديد، لكنها بالتأكيد مذنبة، فأنفُها الذي صار أقربَ لمَغْرفةٍ كبيرةٍ لا بد أنه عقابٌ إلهي. كما أن أمي كانت عقابَها الإنساني. تذكُرها دائمًا أو بالأحرى تجعلها لا تنسى.
أنا أيضًا لن أنسى الفتاة التي دخلت قسم الاستقبال بأنفٍ تحمله أمُّها داخل كيسٍ بلاستيكيّ. الفتاة صغيرة لم تتجاوز العشرين، ربما كانت جميلة. لا أعرف، لا يمكنني أن أعرف. فما أراه لا يختلفُ كثيرًا عن أفلام الرعب.. مَسْخ بلا أنف، وأُمّ مذعورة، وأنف مقطوع. كنت صغيرًا، أمضي سنة الامتياز بين أقسام المستشفى المختلفة. أحمل أحلام الطب كفارسٍ على جَوَادٍ سِحْريّ. عندما رأيتُ الساحرةَ التي فقدت أنفَها، شددتُ اللجام وانسحبت بعد أن ناديت نائب الجراحة. تذكَّرتُ أحد أساتذتنا حين كان يسخر منَّا أثناء سنة الامتياز فيقول: “دكتور في امتياز يشوف واحد جاي من حادثة قطر يجرى ويقول؛ دكتور.. أومَّال أنت إيه؟”.
” إِحِم.. إِحِم دكتور “.. تغيرنا بعد ذلك. على الأقل تصبح أمور مثل تلك مميزة، لكنها ليست غريبة… عاديَّة، ربما. مع الوقت نتعامل باعتيادية مع أمورٍ أصعب. لكن الأمر كان صدمةً لي في بداية مراوغتي للمهنة العَصِيَّة. كنت طالبًا فقط من شهر، واليوم أنا طبيب مُتدرِّب ولا يجوز لي الهرب. سنة الامتياز هي سنة التحوُّل ما بين الطالب والطبيب الذي كان منذ أيام طالبًا، لا فائدة لها غير ذلك. كرهتُ الجراحةَ والتجميل. وكل ما يَمُتُّ للأيدِي المقطوعة والسكاكين المنغرسة في الحنجرة.
تخيلتُ خالتي حين سألها الطبيبُ الذي أجرى لها العمليَّة: “ما الذي لا يعجبك في وجهك؟” فأشارت إلى أنفها. رأيته يمسك المشرَط ويقول هذا، ثم يقطعه. ببساطة. ويضعه في كيس بلاستيكي وينفجر ضاحكًا. الضحك الذي يشبه البكاء. ضحكتُ حين سمعتُ الممرضة تجري نحو الأُمِّ المكلومة وتسألها بفضولٍ وقلق: “مين اللي عمل فيها كده؟” فترد باستسلام: “أبوها”.
ضحكتُ كي أمنعَ نفسي من البكاء. لا يصحُّ لبالطو ناصع البياض، يحمل أحلامًا ورديَّة ساذَجة أن يبكي، في استقبالٍ ينزُّ بالدم، والبول، وطلقات الخرطوش، والجروح القَطْعيَّة، والأصابع المنهرسة. لا يصحُّ أن يبكي وسط تلك الفوضى على أنفٍ صغير. عقابٌ إنسانيٌّ آخر. عقابُك يكمُن في تلك القطعة الملتصقة بوجهك، بين عينيك، في المنتصف تقريبًا. ماذا فعلتِ يا طفلتي ليغتالَكِ أبوكِ بهذا القَدْر من الغدر والخِسَّة؟
فهمت وقتها أن أمي كانت بمثابة هذا الأب بالنسبة إلى خالتي. رغم أنها حذرتها من عملية مهمة تُجرَى في مستوصف فقير، لكن ذلك لم يشفع لها. ولن يفعل. ربما ذلك ما دفع خالتي لأن ترتدي منقارَها السحرِيّ، وتجول في الحقول باحثةً عن تفاحةٍ مسمومة، تقدمها إلى أمي. قالت: “اتجوِّزيه.. ما تْخِبِيش خِبْتِي.. إسكندرية واسعة وجميلة”.
– هو أكبر مني!
– احمدي ربنا.
رحلَتْ أُمِّي بزفَّة وكُوشَة، لم تَكُن خالتي ساحرةً شرِّيرة، تفاحتُها لم تجعل أمي تنام في انتظار قُبلَةِ حُبٍّ حقيقية. وإلا ما كانت استيقظت ولو انتظرت للأبد. فقط جعلتها ترحل عن عينها لترتاح قليلًا. تسأل مرآتها في الصباح: “يا مرايتي يا مرايتي… مين أحلَى منِّي؟” تجيبها أَنِ الجميع. فتغلق الباب في وجه الجميع.
الساحراتُ في الحكايا يَعشِنْ لمئات السنوات، ويتمتَّعن مع ذلك بجمالٍ ملحوظ، جمال مسروق من فتياتٍ في العشرينات بتعويذةٍ سحريَّة. يتحول جمالهُنَّ من هيئةٍ إلى أخرى، يُحلِّقن فوق مكنسة سحريَّة. أو يركبن على جَنَاح طائر عملاق. لكن الحقيقة أن الساحرات على مَرِّ العصور كُنَّ بائسات. لم يَكُنَّ سوى فتياتٍ صغيرات. اتَّهمهن الجميع بالشعوذة، والهَرْطَقة، والكفر.
في كُلِّ قريةٍ فقيرةٍ ساحرةٌ صغيرةٌ منبوذة، مُطارَدة؛ ربما لأنها تفوَّهت بما هو محرَّم، أو لأنها وُلِدت بلعنةٍ غريبة، أو بوَصمٍ من الآلهة، وصَكّ الشيطان.
الساحراتُ يسكُنَّ الخرائب العَفِنة، والحمَّامات المشتركة، لا يتمتعن بأية قوة حقيقية. وغالبًا ما يمُتْن بإشعال النار في أجسادهن للمباركة وتقديم القربان. تمامًا كما ماتت خالتي. ولأن القرية كانت فقيرةً كَسُولةً فضوليَّة لم تتحمل عناء تخليص خالتي من حياتها البائسة. لم تُشعل النار في جسدها، كما يليق بالساحرات. خالتي هي مَنْ فعلت مصادفة. في الحمَّام المشترك الذي بقيَتْ فيه حتى بعد الموت. انزلقت قدمُها، وهي تحمل الماء الساخن اللازم للاستحمام، لو أنها كانت تملك سخَّانًا مُعلَّقًا على الحائط، لما ماتت.
عندما علمتُ بميتةِ خالتي العجيبة، لم أستطع أن أُخفي فرحتي بموتها حتى نهرتني أمي في غضب. سافرنا إلى القرية، مكثت خالتي في المستوصف يومين وثلاثَ ليالٍ. وخرجت منه بكفَنٍ أصفر مُتَّسخ. بدت لي أنها رفضت الحياة بعاهةٍ جديدة. لكنها ارتضتها بعد الموت لإخافتي. لا أعلم كيف عرفت أنني فرحتُ لموتها. كان موتها انتصارًا لكرامتي التي تتعمَّد كسرها في كل مناسبة، كلما اشتكت أمي من شقاوتي وعِنْدِي، اتهمتها خالتي بأنها: “مش عارفة تربِّي” ؛ ثم تطلب مني أي طلب بعد أن تنفخ أنفها، وتُقرِّبه من وجهي، فأستجيب في الحال، فتبتسم في ثقةٍ لقدرتها العظيمة على تحطيمي. كانت تعرف أنني أخاف أنفَها الأحمر، فاستخدمَتْهُ كعصا، وتعمَّدت تخويفي؛ لتُظهر مواهبها الفذَّة في التعامل مع الأطفال. خصوصًا الأولاد. متهمةً أمي بالفشل. نام فأنام.. كُلْ فآكل.. اسْكُت فأسكت.. لم تَكُن تعامل أختي الصغيرة بنفس الطريقة. تثأر من أمي الفاشلة وتستخدمني كسوطٍ لضربها. أمي تفهم. وأنا أفهم. وخالتي تفهم. لكننا جميعًا نبتلع سحرَها الأسودَ في صمت.
كل ما حدث أثناء حياتها شيء، وما حدث بعد الموت شيء آخر. أعلم أن خالتي تكرهني. لكنني لم أتخيَّل أن تكرهني لهذا الحدِّ الذي يجعلها تنتظرني في الحمَّام. تقف جوار المرآة، بأنفٍ كبير، وجلدٍ محترق. تحاول أن تقترب منِّي، وتلصق أنفها في أنفي. أصرخ فلا يسمعني أحدٌ بسبب صوت القرآن في الخارج. أستسلمُ لسحرها وقدرتها على صَمِّ الآذان. أبلع صوتي وأستعيذ باللـه فلا تنصرف، بالعكس تقفز حولي في تَحدٍّ واضح. أهرب من أمامها، فيسقط قلبي في بنطالي، ويبُول.
ضربتني أمي في الليل بعد انتهاء العزاء، حين انتبهَتْ لرائحة البَوْل التي تشعُّ من ثيابي. لكنها توقفت عن ضربي، حينها أخبرتهم وأنا أبكي أن خالتي ترقد في الحمَّام.
في الليل رأيتُها تحوم في الحجرة، تقترب من أنف أمي الدقيق، وتحاول أن تسرقه. تمسُّ جلدها في حسرة، تنظر لها بحقد. ثم تضحك بصوتٍ هستيريّ وهي تشير إلى بَوْلي الذي أغرقَ السرير.
في الصباح نصحَتْ جدَّتي أمِّي بالعودة إلى الإسكندرية:
– سافري. أخاف على الولد يحصلُّه حاجة.
– إزاي أسيبك لوحدك.
– أختك مش هَتسبْنِي.
أتعلمين يا ماما أنني حين رأيتُ خالتي وأبي معًا، صرخ بي أنفها بصوتٍ واضح: “لا تخبر ماما”. ففعَلْت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرواية الثالثة لدعاء إبراهيم، صادرة مؤخرًا عن دار العين ــ معرض القاهرة الدولي للكتاب 2023