جمال السعيدي
كان من عادة إمام المسجد – والطلاب يطلقون عليه لقب السّي – أن يعهد إلى اثنين من طلاّبه بالحضور إلى المسجد قبل الفجر ليوقذا الكانون ويضعا عليه برمة الماء، حتى إذا استيقظ السّي وجد الماء ساخنا كي يتوضأ أو يغتسل إذا ما دعته ضرورة ليغتسل في هذا الوقت الباكر جدا. وكانت المسؤولية قد وقعت على عاتقه الصغير في تلك الصبيحة المشؤومة، لينطلق إلى الجامع رفقة جاره القريب، وكان هذا خمولا لا يعول عليه في شيء، حتى أنه كاد يؤخره عن المهمة، فكان عليه أن يقذف بالحصى على نافذة مرقده بعد أن تعب الكلب من النباح ويئس هو من النداء عليه، هكذا ظهر أخيرا عند الباب يجرّذ جسده في خمول.. خرج الولدان تحت جنح الليل وتوجها إلى الجبل حيث يقوم المسجد على سفح عريض، كانت ساعة السحر موحشة حالكة الظلمة، أنجبتها ليلة مطيرة مرعدة، والطريق صخرية وعرة يخبطان فيها على غير هدى فيما الرذاذ الناعم يهطل بلا انقطاع كذرات الغبار. بأقدامهما الصغيرة العارية كانا يدوسان الوحل اللزج ويخوضان في برك الماء الصقيعية. ” لم نكن وقتها مجرد ولدين، جنديان منهكان كنا في ذلك الفجر الأسود..” كذلك فكر الساحلي بإعجاب، وعاد ينظر في شريط ذكرياته :
وصل الصبيان إلى المسجد قبيل الفجر، وإلى ركن قصي من الباحة أسرع الفتى وجاء بكومة من الحطب الجاف. طفق بكل همة يكسر العيدان المتيبسة ويضعها داخل الكانون بعناية، بينما وجد رفيقه مكانا دافئا في تجويفة الباب الخشبي وانكمش على نفسه يراقب في خمول ما يجري بعينين ناعستين. طلب منه الساحلي أعواد الثقاب فلم يجد عنده شيئا كما توقع، وأخرج بيد مرتعشة تصلبت من البرد أناملها لفافة ورق صغيرة من كيس كان يعلقه على صدره، وبينما هو يفتحها بمشقة، انفلتت من بين أصابعه وسقطت بما فيها من وقود داخل بركة صغيرة لا يعلم إلا الله كيف تجمعت تحت قدميه. سقط قلبه مع اللفافة وظل ينظر في يأس حزين إلى الكانون البارد، وظلمة الفجر تغمر الكون بصمت مهيب.. مرت نصف ساعة تقريبا قبل أن يكسر صرير الباب الخشبي العتيق سكون المكان، وامتلأ الفضاء الموحش بنحنحة خشنة يصفي بها السّي حنجرته. وبنظرة خاطفة من حوله لاحظ ظلمة خرساء تسكن موقد النار، وإلى جانبه تجثو برمة الماء في انتظار من يرفعها إلى الأعلى. كنس بعينيه الزوايا فوقعتا على شبحين صغيرين في ركن العريشة لفهما الرعب والبرد فصارا أشبه بكيسين مهملين في أقصى الباحة، وما كان لينتبه إليهما لولا البريق الوحشي في عيونهما الخائفة. توجه الفقيه إلى دورة المياه وأرجأ أمرهما إلى ما بعد صلاة الصبح، كي يشهد الجميع عذابهما فيضمن مزيدا من الولاء والحرص على تنفيذ طلباته دون إهمال من أحد.
على يمين بيت الصلاة كانت حجرة الدروس تطن بالأصوات الرقيقة لصغار الطلاب، بينما وقف الجاني ورفيقه– كما أمر السّي – بأقدامهما الزرقاء العارية على يسار المدخل ترتعش منهما الأطراف بهزات متشنجة تحت وطأة البرد القارس والخوف القاتل ..
تنهّد الساحلي على نحو مرير حين وصل به شريط الذكريات إلى هذا المشهد المهيب، وقال في نفسه “كنا أشبه بأسيرين وقعا في يد عدو لا يرحم”.
عمّ السكون ما إن دخل السّي، وتعلقت العيون بالصغيرين تنتظر بداية حفلة الضرب المرتقبة. اقترب منهما ودنا بوجهه من الفتى الساحلي كما تدنو الأفعى من فأر الحقول و صرخ بعنف :
– ما الذي منعك من إشعال النار..
– … …
عاد يصرخ بجنون و يده اليمنى تلوّح بالعصا فيما اليسرى تعصر أذن الغلام:
– انطق.. تكلّم آ ولد الكلاب ‼
رفع عينيه الرماديتين إلى الوجه الثائر، ومن خلف الدموع لاحظ لأول مرة أن وجه الرجل أملس كوجوه النساء، إن هي إلا شعيرات بيضاء بالكاد تكسو أسفل ذقنه الناتئ، بينما تراقص فوق عينيه الغائرتين حاجبان كثيفان بلون الفحم، وشد انتباهه برغم العذاب الذي ينتظره ما لاحظه من تنافر بين بياض الذقن وسواد الحاجب في وجه الفقيه. حاول بما أوتي من قوة أن يجيب، أن يفسر ما جرى، لكن غصة حادة حزت بلعومه ومنعته من الكلام.. رفع السي عينيه إلى أقصى القاعة، وبإشارة خاطفة من يده اليمنى جاءت زبانيته؛ كانا شابين يافعين يفوقان الطلاب في العمر والجسم، حتى أن زغبا خفيفا كان يلوح بوضوح فوق شفتيهما الطريتين. وبحركة سريعة تنم عن دربة متمرسة وقوة فتية، وجد الصغيران نفسيهما في وضع مقلوب؛ القفا على الأرض والأقدام إلى الأعلى. وبلا شفقة انطلقت يد السّي بقضيب الزيتون المصقول تشوي اللحم الغض، وتقفز من المؤخرتين الصغيرتين إلى بطون الأقدام العارية بلا هوادة.. وخز بغلته يحثها على المسير، ومن أعماق نفسه تردد صوت حزين:
” إييييه.. كانت أياما صعبة‼ “