نادي الصيد السرّي .. فصل من رواية “المساخيط”

المساخيط
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عبد العاطي 

نقلا عن موقع (المفاتيح)

نادي صيد المساخيط هو نادٍ سري، أسسه أربعة من الرجال الأثرياء. بدأ الأربعة بتنظيم رحلات لصيد المساخيط على سبيل الترفيه وقتل الوقت وربما الرياضة، لكنهم بمرور الوقت حولوا الأمر إلى قضية، فصوروها وسوقوا لها على أنها ذات هدف نبيل، وبدأوا يدعون الآخرين للانضمام لهم، وبالفعل انتشرت الدعوة واتسع النادي.

وفي مجموعتهم المغلقة على الفيسبوك، واسمها B.A.H.C، (اختصارا لـ Blue Aliens Hunt Club) كتبوا في الوصف:

“ظهور المساخيط فجأة على كوكب الأرض سيؤثر سلبا على التوازن البيئي بالكامل باعتبارهم جنسًا دخيلًا من خارج النظام البيئي لكوكب الأرض، وتواجدهم وتكاثرهم بهذا المعدل الخرافي سيشكل تهديدا حقيقيا على موارد الكوكب، وسيؤدي إلى اختلال النظام البيئي بالكامل، وقد يؤدي إلى انقراض بعض الكائنات وإلى ظهور أخطار غير محسوبة أو متوقعة.

والحل الوحيد هو التعامل معهم كأي فيروس أو آفة أو وباء يواجهنا، بإبادتهم بشكل منظم ومستمر”.

وكان بعض الذين جذبهم الفضول لدخول المجموعة لمعرفة المزيد عن النادي قد تحفّظوا على هذه الأفكار، وتركوا النادي من البداية وهاجموه بشدة، وسعوا إلى فضحه وإيقاف أنشطته، لكن القانون لم يكن يدينهم بشيء.

اختارت المجموعة المؤسِّسة للنادي هذه الفيلا المملوكة للسيد حسين عجيز (أحد الأعضاء الأربعة المؤسسين) مقرا لها.. هنا كانوا يجتمعون ويتشاركون الصور والفيديوهات التي يلتقطونها لبعضهم أثناء الصيد. وكذلك يتبادلون الخبرات والأفكار والتدريبات والحيل في الصيد والأدوات كذلك.

وعلى مجموعة الفيسبوك التي دخلها محرر الموقع، وجدنا عشرات المنشورات التي يناقش فيها أعضاء النادي أمورا مثل: أفضل الأدوات لصيد المساخيط.. أفكار لصناعة فخاخ للمساخيط.. أنواع وجرعات المخدرات التي يمكن إطلاقها عليهم للإمساك بهم أحياء.. أنواع المناورات الأرضية والجوية مع المساخيط..

وبعضهم طرحوا أسئلة مثل: كيف يمكن صيد المساخيط أحياء؟.. من أي مسافة يمكن إطلاق حقنة المخدر؟ هل من الآمن أن تلتقط المسخوط بعد سقوطه مخدرا؟ كيف تبعد رفاقه عنه وترهبهم حتى تلتقط الجثة المخدرة؟

أما عن مقر النادي، (فيلا حسين عجيز)، فقد رأينا من الصور والفيديوهات التي شاركها الأعضاء على مجموعة الفيسبوك بعض تفاصيلها.. ففي قبو تلك الفيلا كانوا يحتفظون بالمساخيط الأسرى في أقفاص، ربما تمهيدا لبيعهم أو ذبحهم فيما بعد.

وفي مكان الاجتماعات لاحظنا وجود رأس مسخوط محنط ومعلّق على الحائط، كما يفعل بعض الصيادين برؤوس الأسود والدببة والذئاب.. وفي القاعة نفسها كان هناك جسد كامل لمسخوط محنّط ومثبّت كالتمثال، وهو واقف في وضع قتالي وكأنه يتأهب للانقضاض.

ببعض البحث عرفنا كذلك أن النادي من المصادر المعروفة التي تقوم بتوريد المساخيط أحياء، للراغبين في الشراء، لأغراض الخدمة في البيوت، والمساعدة في الأعمال الشاقة، لكننا توصلنا إلى حالات متكررة لاستقدام إناث المساخيط لأداء أعمال الخدمة المنزلية، كغطاء لاستغلالهم جنسيا.. والبعض وظفهم صراحةً في أعمال الدعارة المنظمة. 

……………………………..

منى

هذا النسق اللغوي هو ما أثار اهتمامي.. فتنني وخلب لبي.

تناولت أوراقًا فارغة ورحت أحاول تقليد كتابة سيرين.

ضحكت سيرين بشدة.. كانت أول مرة أراها تضحك وكأنها تطرقع شيئا في فمها، وضاقت عيناها الواسعتان واكتسب وجهها الأزرق صبغة وردية خفيفة فمال إلى البنفسجي! كانت تضحك وهي تشير لبعض الكلمات التي كتبتُها.. لم أفهم بالضبط ما المضحك في الأمر.. حاولَتْ سيرين أن تشرح لي بالإشارة، ثم أشارت إلى بابا، لكنه لم يفهم منها بدوره ما المضحك في الأمر.. المهم أنها صحّحت لي بعض الكلمات..

أخذتها منها بعد التصحيح، مع الأوراق التي كتبتْها هي بنفسها، وذهبتُ بها إلى غرفتي، وسهرتُ أتدارسها وأتاملها..

أنا لست حمقاء ولا غبية، أنا فقط حسنة النية ربما كنت قليلة الخبرة.. وأحيانا لا أكون حذرة بما يكفي..

لهذا لم أجد غضاضة في أن آخذ هذه الأوراق معي إلى الكلية، وأتجه بها إلى دكتور عزيز وصفي.

الدكتور عزيز هو دكتور بارع ذو كاريزما آسرة، بهرتني شخصيته منذ أول محاضرة.

كنت أنتهز أية فرصة لأتوجه له بعد كل محاضرة لأسأله وأتحدث معه أو أحيانا أقف هناك أمامه، وسط تزاحم الطلاب والطالبات حول مكتبه.. أسمع أسئلتهم وأجوبته وحديثه اللطيف المرح حول الكتب والمحاضرات والمذاكرة والامتحان، حتى ينتهوا جميعا وينصرفوا واحدا بعد الآخر، فينظر لي أخيرا في تساؤل، لأكتشف أنني هنا بلا سبب محدد، فأضحك بحرج وأقول إنني كنت أتأكد من أنه لن يقول شيئا مهما قد يفوتني!

لهذا، عندما تحدث الدكتور عزيز بشكل عابر في إحدى محاضراته عن المساخيط، واهتمامه بفكرة التواصل اللغوي معهم، شعرت أن لديّ شيئا يثير اهتمامه. ولم أقاوم. توجهت لمكتبه فوجدته يتحدث مع أستاذ آخر.. انتظرته حتى فرغ، ثم تقدمت منه وأخرجت الأوراق وأطلعته عليها.. لم يبدُ عليه الاهتمام، فأخرجت المزيد من الأوراق، وقلت له بحماس إن هذه هي لغة المساخيط المكتوبة.. وهنا لمعت عيناه في ظفر..

ملأني الزهو وقتها بهذا الاهتمام، خاصة أنه هو الذي راح بعدها يطلب التحدث معي بعدها في مكتبه، وكأننا صرنا صديقين.. وفي إحدى المرات، كنت أغادر مكتبه مبتسمة، حين تبددت ابتسامتي أمام ابتسامة عمرو. رمقني بابتسامة خبيثة، وتجاوزني وواصل طريقه إلى الداخل، إلى مكتب دكتور عزيز.

***

ما أثار ريبتي أكثر أن دكتور عزيز أبدى اهتماما متزايدا بسيرين يتجاوز الاهتمام العلمي بالأوراق التي قدمتُها، وراح يلح ويضغط علي في أن “نسلمه” سيرين.. لم أفهم ماذا يقصد بالضبط بكلمة “نسلمه” هذه.. وكنت غبية بما يكفي، فلم أسأله وقتها.

في ظروف أخرى لو كان الحوار بين طرفين متكافئين ربما كنت لأعترض أو أستنكر، ولربما هاجمتُ هذا الذي يحدثني لاستخدامه هذا التعبير “نسلمه سيرين”، وكأنها حيوان أو مجرم في حوزتنا. لكن الحوار والتعامل بين طرفين غير متكافئين يختلف تماما.. بين مدير وموظف، أو بين أستاذ وطالب، ثمة سلطة ورهبة حاضرة بقوة ولا يمكن تجاهلها.. سلطة تمنح لصاحبها الكثير.. رهبة تسلب الطرف الأدنى حتى قدرته على الاعتراض أو المناقشة، فضلا عن الرفض..

لهذا لم أبدِ أي اعتراض.. اكتفيت بهمهمات غامضة، وتملصت في سرعة وابتعدت.. تبخر الزهو والإعجاب وحل محله شك ممزوج بالغيظ..

رحت أراجع الحوار وأحاسب نفسي وأنا لا أفهم سر لهفة دكتور عزيز المفاجئة..

ثم إنه لم يتركني. راح يطاردني ويحاصرني بمكالماته وبسؤال زملائي عني، حتى لم أجد بُدًّا من أن أهرب منه تماما.. تغيبت عن محاضراته، وتجنبت المرور من أمام مكتبه، وتجاهلت رسائله واتصالاته، وأنا ألعن (فريدة) زميلتي التي أعطته رقمي ببساطة.. أغلقت هاتفي تماما وانتقلت إلى رقم جديد أعطيتُه لبعض صديقاتي فقط..

لكنني في قرارة نفسي لم أستطع إدانة دكتور عزيز، وفكرت أنه ربما فقط أساء اختيار اللفظ.. ولعله معذور فهو لا يعرف سيرين وعلاقتنا بها..

ثم إنني رحت ألوم نفسي على تصرفي الأحمق من البداية. ولماذا ذهبت إليه أصلا؟ هل كان طلبا لمساعدته؟ أم رغبة في إثارة اهتمامه وجذب انتباهه؟ ولماذا؟ ماذا أريد منه؟

ماذا تريدين منه يا (منى)؟

وما علاقة عمرو بالموضوع؟

خطأ! كان هذا خطئي أنا بلا شك، وعليّ أنا أن أعالجه..

نعم، سأختفي من أمامه تماما، وعندما أعود للظهور بعد فترة سيكون قد نسي الأمر برمته.. ولو سألني عن المسخوطة سأقول إنها رحلت أو أننا فقدناها..

المشكلة الوحيدة هي عمرو! عمرو قد يخبره!

ثم ماذا عن محاضراتي؟

كثرة الغياب عن المحاضرات قد يؤدي إلى رسوبي.. لا بد أن أستمر في حضور المحاضرات، في المواد الأخرى على الأقل.. لكن ماذا لو عرف أنني أحضر المحاضرات الأخرى وأتغيب عن محاضراته هو عمدا؟

ربما لن يعرف.. لكن.. قد يخبره عمرو!

هواجس وتساؤلات أغرقتني وأنا أدخل البيت عائدة من الجامعة.. لا بد أنها ستقضي بصحبتي سهرات كاملة، تتقلب وتتصارع في رأسي وتمنع اقتراب النوم حتى دائرة قطرها عشرة أمتار من سريري.. لا بد أنني سأحفظ تفاصيل السقف شبرا شبرا..

لكنني حين دلفت إلى غرفة المعيشة وجدتُه هناك جالسا مع أبي..

هتفتُ في ذهول:

-أنت؟

نهض بابا في حرج وقدمني للموجودين.

كان هناك رجلان آخران بالإضافة إلى دكتور عزيز، أحدهما رجل ضخم، والآخر يبدو أجنبيا.

قال دكتور عزيز بلهجة بدت رسمية:

-الآنسة منى طالبة عندي في الكلية.. واضح أنها استغربت من وجودي هنا.

أومأتُ برأسي موافقة في حرج، وأنا أعجز عن النطق، فأضاف الدكتور عزيز مفسرا لي:

-هي زيارة ودية للوالد يا منى.. خبراته مهمة جدا لفريقنا.

لهج أبي بعبارات المجاملة والتواضع المتوقعة هنا، وانسحبت أنا.. لكنني كنت أعرف البقعة المناسبة للاستماع في الطابق العلوي، من فوق الدرابزين، خلف صندوق ألعاب خشبي يخص ليزا.. من هناك لن يراني أحد وسيمكنني سماعهم.. لم يقل أحدهم شيئا عني أو عن سيرين.. كانوا فيما يبدو يحاولون استنطاق بابا.

سألهم بلباقة عن صفتهم فقال أحدهم إنهم فريق بحثي من الجامعة مكلف رسميًا بالبحث في كل ما يخص المساخيط..

أدار أبي عينيه فيهم في شك..

– رسميًا؟ كيف؟ من كلفكم بالضبط؟

– التكليف ليس رسميا بالضبط، لكن.. هل سمعت عن الوكالة الدولية لأمن الكوكب؟

– أظن أنه كيان دولي لم يُعلن تشكيله رسميا بعد.. لكن ما علاقتنا نحن هنا بهذا؟

ابتسم عزيز بحكمة وانتفخ وقال بلهجة المحاضر الخبير:

– هذا تنظيم عالمي يا سيد فؤاد والاتفاقية الدولية بتشكيله سوف تعلن قريبا.. هذه مسألة وقت لا أكثر.

قاطعه بابا بإصرار:

– وما شأننا نحن به هنا؟

كل دول العالم الأعضاء في الأمم المتحدة ستوقع على الاتفاقية، وتعترف بالوكالة وتسمح لها بالتواجد والتحرك على أراضيها.. الموضوع خطير ولا يحتمل التهاون، لا مفر من الاتحاد والتعاون لمواجهة هذا النوع الجديد من المشاكل والتهديدات الأمنية.. المشاكل القادمة من خارج الكوكب.. أنت تفهمني طبعا.

– عظيم.. وأنتم، ما دوركم هنا؟

غمز دكتور عزيز وقال بابتسامة ذات معنى:

– نحن جزء من الفريق البحثي الدولي التابع للوكالة، والمسؤول عن هذه المسألة يا أستاذ فؤاد.

وأضاف فيما يشبه التهديد:

– ونحن طبعا نعمل بدعم مباشر من الوكالة..

– طيب.. وما المطلوب مني؟

– التعاون بكل شيء تقدر عليه..

– مثلا..؟

– واضح من حلقاتك أنك تعرف الكثير وأن عندك مصادر سرية..

ضحك بابا..

– لا سرية ولا غيره.. أنا عندي مصادر فعلا، لكن أغلب معلوماتي قلتها في الحلقات، و…

– أغلبها.. ها!

كنت سأكمل كلامي.. ما لم أقله بعد هو ما أحضّره في الحلقات القادمة..

– أستاذ فؤاد! نحن لدينا معلومات تؤكد أنك على اتصال ببعض أفراد المساخيط، و…

ضحك بابا مرة أخرى..

– وهذا ليس سرا.. ولستُ الوحيد الذي على اتصال بهم..

– مساخيط ممن تورطوا في أعمال تخريب وعنف…

نهض بابا وقال في حدة:

– هل هذا اتهام مباشر؟

قال الدكتور عزيز بسرعة:

– لا.. مطلقا، لكن تعاونك سيفيدنا حقا..

– لحظة.. أأنتم فريق علمي أم أمني؟

– علمي وبحثي كما قلت لك.

– عظيم وأنا أعلن كل ما عندي في حلقاتي.. يمكنكم متابعتي على القناة!

تبادلوا النظرات ثم قال دكتور عزيز:

– اسمع يا أستاذ فؤاد نحن جئنا بشكل ودي، وصدقني هذا أفضل لك.. لا تجعل الأمر يصل إلى الجهات الأمنية.

هنا هب أبي غاضبا:

 – حضرتك تهددني في بيتي؟

نهضوا في هدوء وتبادلوا النظرات. رجال مثل هؤلاء يعرفون متى تنتهي المفاوضات، ولا يضعون أنفسهم في مواقف مهينة. لماذا تنتظر جملا كلاسيكية سخيفة مثل “المقابلة انتهت” إذا كنت تعرف أنها قادمة لا محالة؟

***

لكنهم لم يضيعوا وقتا.

في مساء اليوم نفسه اقتحم فريق عجيب بيتنا. فريق يتقدمه رجال ملثمون بأقنعة غاز وأسلحة مشهرة وعدد من أفراد فريق طبي ما، يرتدون المعاطف البيضاء ومسلحون ببنادق تخدير فيما يبدو، ولا ينقصهم إلا مفتش من اسكوتلنديارد يتقدمهم بعدسة مكبرة. اقتحموا المكان وفتشوه وقبضوا على سيرين من غرفتها وكأنهم كانوا يعرفون مكانها بالضبط.

حاولت التصدي لهم في هيستريا فدفعوني جانبا بقوة.

حاول بابا التفاهم معهم فشهر قائدهم ورقة رسمية ما في وجهه.

هناك جهة ما في مكان ما أعطتهم تصريحا ما، والآن بهذه الورقة صار لديهم الحق لفعل ذلك!

تابعتهم في عجز وهم يحملون سيرين حملا إلى الخارج وانهرت باكية.. أنا السبب.. أنا التي فعلت بها ذلك..

ظل الباب مفتوحا بعد انصرافهم ونحن متجمدون جميعا نتبادل النظرات الذاهلة.. وأمام أعيننا دخل (جادروبيت) من الباب.

لا أحد يعرف كيف عرف..

هل رآهم وهم ينصرفون بها؟

دخل يدير عينيه الكبيرتين في المكان بسرعة وكأنما يبحث عن سيرين أو ليتأكد من أنهم أخذوها هي فعلا، وعندما لم يجدها سقط جالسا على أقرب كرسي مصدوما، ثم أدار عينيه إلى بابا بنظرة اتهام واضحة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روائي مصري، حاصل على جائزة الدولة التشجيعية عن روايته “حارة عليوة سابقًا” ..
الرواية صدرت عن دار نهضة مصر ــ معرض القاهرة الدولي للكتاب 2023

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون