حمّاد عليوة
(بسم الله الرحمن الرحيم.. نحيطكم علمًا بأننا في الأيام أو الشهور القادمة سنواجه صعوبة في ركن سيارات العمارة في الجراچ؛ لأن عاملي الجراچ احتالا على الإدارة وبعض السكان، وبدآ في إفراغ المساحات لحسابهما.. ويستطيع رئيس الاتحاد مشكورًا أن يتفقد الجراچ في أي وقت من العاشرة صباحًا حتى الرابعة عصرًا؛ ليتأكد بنفسه من ذلك.. “ياسين زغرط”، بالنيابة عن باقي السائقين).
وقد يسأل سائل: لماذا لم يبلغه بشكل مباشر، وفضَّل الكتابة له؟
والإجابة أن هذا النظام أقره رئيس الاتحاد؛ فلو سمح لكل صاحب مشكلة بعرضها بشكل مباشر، لضج مكتبه كل يوم بالسائقين والخدم وعمال الصيانة.
*
اطلع رئيس اتحاد العمارة على الشكوى، ثم استدعى “مخلوف” وزميله، وقرأها عليهما بصوت عالٍ وهو يحدجهما من وراء نظارته الطبية.. فقال “مخلوف”:
– هذه حقيقة، وأنا لا أنكرها.
تطلع له رئيس الاتحاد باندهاش، وقبل أن يتكلم أضاف “مخلوف”:
– اسمحلي يا سعادة البِك أوضح لسيادتك.
– تفضل يا سيدي.
ـ الزمالك معدتش زي زمان ملك لسكانها؛ دلوقت كل عمارة فيها بنك أو شركة، ولو مسهمناش في حل التكدس اللي حاصل، الزمالك هتتخنق أكثر.. وبعدين إحنا بنستغل الفترة اللي بيبقى الجراچ فيها فاضي زي ملعب الكورة، من غير أي ضرر، وكل سواق لما بيرجع بيلاقي النمرة بتاعته فاضية.. تبقى فين المشكلة؟
انفعل رئيس الاتحاد، وقال له بنرفزة:
– أنت فاكر نفسك مين يا بهيم.. المحافظ ولا رئيس الحي؟ أنت مالك الزمالك تتزحم ولا لأ؛ هي بتاعة أبوك؟ ولأنك جاهل حابب أفهمك إن عمارتنا فيها شخصيات مهمة؛ سواء مصرية أو أجنبية.. مش جايز تكون سيارة من دول ملغمة، فتنفجر وتوقع العمارة على دماغنا.. اسمع، لو كررت الموضوع ده تاني، أنا هضطر أبلغ البوليس وأسجنك.. يلا اتفضل على شغلك.
والحقيقة أن السائقين لم يتضرروا مما فعله “مخلوف”؛ لأنهم عند عودتهم للجراچ كانوا يجدون النمرة الخاصة بكل سيارة فارغة، وأيضًا لم يقصر “مخلوف” في العناية بأي سيارة؛ ولكن بعضهم تملكته الغيرة مما يفعله؛ فهو يستغل كل لحظة في حياته ويحولها لطاقة إنتاجية، أما هم فلا يفعلون شيئًا سوى قيادة السيارات لأسيادهم وتحصيل الطلبات من السوق؛ حتى إن واحدًا من بينهم قارن بين ما فعله “مخلوف” وما يمكن أن يفعله، موضحًا أن “مخلوف” يقوم بتأجير النمر، بينما هو يستطيع أن يؤجر السيارة التي يعمل عليها بالنفر من بولاق للزمالك كل صباح؛ وهذا يوضح لنا أن ثمة ضغينة كانت وراء الوقوف له غير ما جاء في العريضة.
*
وقبل انقضاء فصل الشتاء، استقطب “مخلوف” أحد أقاربه – ويدعى “يعقوب” – للعمل معه في الوردية الليلية، التي تُلزمه بغسل السيارات عقب الشروق مباشرة؛ كان شابًّا تعيسًا أُصيب في طفولته بالحمى الشوكية التي أدت إلى فقدانه السمع والنطق؛ وعلى الرغم من ذلك ظل يعمل بهمة؛ يستيقظ باكرًا ثم يؤدي صلاة الفجر، وينهمك بعد ذلك في التسبيح، وعند الشروق يبدأ في تجهيز جرادل الماء المشبع بالصابون، والفُرش التي يزيل بها الطين العالق بالسيارات.. وما إن يستيقظ “مخلوف”، حتى يستغرقا في التنظيف حتى الثامنة صباحًا.
في هذا الصباح وما إن فرغ من الصلاة حتى شعر بالبرد ينخر في عظامه؛ قبل ذلك بربع ساعة تقريبًا كان الجراچ قد استقبل سيارة لأحد السكان من نوع الجيب العالي، ومثل هذه الحالات تحدث كثيرًا؛ إذ إن بعض السكان أحيانًا يعودون في ساعة متأخرة.. المهم أن وجود السيارة بعث في محيطها الدفء، بعدما تدفقت منها سخونة الماتور الممزوجة برائحة الزيت المحروق؛ الأمر الذي دفع “يعقوب” لإحضار كارتون وفرشه أسفل الماتور؛ لينام تحته تحديدًا.. وما إن استلقى وغمره الدفء حتى راح في نوم عميق، لم يستفق منه بعد ذلك أبدًا.
*
بعدما استيقظ “مخلوف” بحث عنه فلم يجده، ولما خرجت جميع السيارات في حدود العاشرة صباحًا، لاحظ أن ثمة لونًا أحمر داكنًا ينساب بجانب المياه المتناثرة على الأرض، ويتدفق نحو مجرى الصرف، فاتبعه؛ حتى شاهد “يعقوب” مطروحًا على الأرض في ثبات عميق ورأسه مهشم تمامًا؛ حيث لم تبدُ له أي ملامح.
حينئذٍ اندفع نحوه بعدما انتابته حالة من الهلع الشديد، على إثرها أطلق صراخًا حادًّا أحدث دويًّا مفزعًا، وما لبث أن حضر بعض السائقين والبوابين من العمارات المجاورة، واندفعوا جميعًا نحو الجراچ؛ وما إن شاهدوا “مخلوف” يقف فوق الجثة حتى جذبوه وأجلسوه بعيدًا، ثم جاؤوا ببطانية وألقوها فوق الجثة، بعد ذلك انهال الحاضرون على “مخلوف” بسيل من الأسئلة التقليدية عما حدث لـ”يعقوب”، وكيف مات.. كانت الدموع تُذرف من عينيه الضيقتين وتنسال على وجهه المتغضن، وترتعش شفتاه دون النطق بكلمة واحدة.. أخذ البعض يحوقل ويرفع سبابته موحدًا بالله، ولم يلبثوا في ذلك كثيرًا؛ إذ حضرت الشرطة؛ حينئذٍ انفض الجمع وبقي “مخلوف” على حالته، بينما كان “سليم البحر” واقفًا مثل الغرباء تسيطر عليه حالة من الذهول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي مصري، صدر له “الحي الإنجليزي”، “أغسطس”
الرواية تصدر عن دار الرواق .. معرض القاهرة الدولي للكتاب 2023