سلامة زيادة
كدتُ أحسبه مدقوقًا في الشارع، كصارٍ حُشَّ من منتصفه، حتى كادت رايتُه أن تلامس الأرض، وربما لو تركتُ العنان لجنوني لقستُ المسافة من بيته إلى بائع الجرائد، المرابط على ناصية الشارع، أفرد كفي وأضع الشِّبر جوار الآخر، أقيس فتصبح المسافة في متناول عقلي، خمنتُ أنها مائة متر تقريبا، يمشيها يوميا حاملا حقيبة جلدية سوداء صغيرة، معلقة بمعصم يده القابضة على عصا خشبية متآكلة من أسفلها..
لم أبالِ باصطدام عربتين تسابق قائداها على الفوز بمسافة بين العربات، أو باحتكاك أكتافٍ لبشرٍ زائغي النظرات عن أهداف مستحيلة..
بقيت واقفًا مكاني على الرصيف، أنا الذي أراه يوميا فيمتلئ قلبي بالأسى.. حاولت مرة أن أساعده.. آخُذ بيده إلى مبتغاه.. أشاح بيده الخالية والمرتعشة قائلا بصوت يشبه الحشرجات: “كنت أسرع من كارل لويس*”. وراح يهش صغارًا، يتحوَّطون حوله، يجعلونه ستارًا لألاعيبهم الصغيرة.. لم يكن في جيوبه شيء يعطيه لهم، وهو الذي اعتاد ذلك.. كي يبعدهم عنه هذه المرة، أخرج جيبي بنطاله فبانت بطانتها البيضاء.. كاد يقول: “لم يعد معي شيء، لم يعد لي وقت”.
أسأل نفسي بعد أن أشعل سيجارة، هاشًّا عن عقلي وسواس المآل، كم من وقت ليقطع المسافة يوميا، بالكاد ينقل القدم جوار الأخرى. يا إلهي!.. أراه لا يسير، ربما قبل أن يصل يكون بائع الجرائد قد فرغ.. ضحكت عندما تخيلتُ أن بائع الجرائد سينتظره كل يوم، يضع في يده الجريدة، وعلى رأسه تاجًا.
كان الوقت يدفعه من خلفه..
وكان كارل لويس بقامته المشدودة كفرع زان، وذراعيه اللتين تنتهيان بكفَّين تشبهان المخالب، يشد الوقت شدًّا وهو يندفع كسهم، وإلى جواره خيول فُك وثاقها وتُركت للريح..
الوقت يفر كمطارد من ذئاب جائعة، وهم يسرعون خلفه عند النهاية.. رفع كارل لويس يده مزهوا ينتظر إكليل الغار.. كان قد قبض على عشر ثوان..
في هذا اليوم قبض عبدالحميد الدكروري على تسعين عاما..
في هذا اليوم لم يشترِ الجريدة.
………………………..
*كارل لويس: عدَّاء أمريكي شهير