ممدوح التايب
يوفرُ فيسبوك للشعراءِ نافذةً متاحة ومجانية للنشرِ، وإن أصابت تلك المجانية المشهدَ الشعريّ بالميوعة والترهلِ. يكتفي بعضهم بما تقدمه من مميزات، كالتفاعل الآني والسريع، كبديلٍ للنشر الورقي، والبعض يجمع بين الأمرين. يرى عددٌ كبير منهم أن هذا التفاعل خداعٌ بطبيعته ويفتقد غالباً للمصداقية، إما بسبب المجاملات أو الكسل أو لمجرد رد الجميلِ بلايك. يحدث معي هذا الأمر، وإن كانت قائمة أصدقائي تضم أسماء أثق في ذائقتهم ومصداقيتهم في التفاعل، لكن ما أحصل عليه من قلة التفاعل يحرضُ صدري قليلاً بالغيرة، لكن تعليقاً من صديقٍ من أهل الثقة، وليس أهل الشلة، يمنح بعض الرضا. أذكر أن نصاً لي سرقهُ أحدهم ونسبه لنفسه، وحين دخلتُ صفحته وجدت التفاعل معه بالآلاف، من بينهم بعضٌ من أصدقائي الافتراضيين، بينما لم يحقق النص على صفحتي تفاعلاً يذكر. ابتسمتُ وتفاعلتُ مع نصي المسروق بقلبٍ كبيرٍ ومتسامح، فرد عليّ سارقي بوردةٍ وقلبٍ أخضر لا يقل تسامحاً. ماذا يحدث عندما يفتح الشاعر عينه على كثير ولا يرى أحداً؟
يرى الشاعر العراقي عامر الطيب أن مفهوم النشر على الفيس بوك إشهاري، فهو يشبه الطريقة القديمة إذ يطلع الشاعر رفاقه على كتاباته. ينشرُ عامرُ نصوصه على فيسبوك لاطلاع من هم موجودين على ما يكتبه محبة بهم وبما يصنعه، لكن الأهم، حسب قوله، هو إعجابه الآني بما يكتبه.
يضيف صاحب ديواني “أكثرُ من موتٍ بإصبع واحدة” و”الأفعال الماضية إلى الأبد”:
“أعتقد أن قصائدي تستحق متابعة أكثر، لكنني أتعايش بمرح مع ما تناله من إعجاب يعززه النوع لا الكم. تهبني بعض التعليقات طاقة محفزة لمعاودة النشر و التفكير بجدوى الشعر. أبتهج عندما تحقق قصيدتي تفاعلاً هائلاً. و أقول لا بأس، عندما تخفق، للقراء أشغال و أذواق معقدة. أثق بمصداقية العديد، مصدر ثقتي هو أن الناس ليسوا مجبرين على مجاملتي. أقرأ الشعر يومياً و أتفاعل معه، وأعتذر عما يبدر مني من تقصير تجاه قصائد لم تقع عليها عيني بسبب الأشغال والمزاج. لم أحظر أحداً لأسباب تتعلق بالشعر وباختلاف الرؤى .أبتهج لمن يحذفني بسبب عدم متابعتي له، وفر علي معرفة كنههِ، وينبغي أن يعلم الجميع أننا موجودون كأصدقاء لا كشعراء فحسب.”
ينشر الشاعر السوري وفائي ليلى،مثل عامرٍ، نصوصه على صفحته الشخصية. تكون المتابعة محكومة بسياسة الفيس بوك ومن يرى منشوراتك، وبالتالي هناك رضى متوسط على متابعة تلك النصوص، حسب قوله. يذكر بطرافة أنه لو وضع نصوصه في صفحة لكاتبة من الصديقات فإنها ستنال لايكات واهتماما اكثر مما لو نشرهُ في صفحته!
يقول صاحب ديواني “اسمي أربعة أرقام ” و”رصاصة فارغة”:
” النشر على فيسبوك ليس بديلاً للنشر الورقي، لكنه ضروري في هذا العصر أو المرحلة الراهنة من الحياة، والتي من خلالها نحصل على تجاوبٍ آني ومباشر من جملة متابعين، يمتلك بعضهم قراءة نقدية جيدة، وعمقا نقديا يصعب العثور على أصحابه عبر النشر الورقي. تدخل عوامل كثيرة في التفاعلات على المنشورات لها علاقة بالتوقيت أو المواضيع المطروحة في النص ذاته. هناك ايضا التماس المباشر مع الجمهور ورهبة ذلك الأمر وراهنيته، كما لو كنت على خشبة المسرح في الحياة الواقعية. اتجاوب مع النصوص التي ينشرها الشعراء الآخرون لأني لا أملك إلا التصفيق لنص يؤثر بي. لم أحذف أحدا لأنه لا يتفاعل معي منشوراتي، ولكني أفعل ذلك حين يكون هناك من لا يحترمني كإنسان ويحاول الاساءة الشخصية لي أو لأحد أعرفه، وهذا نادراً ما يحدث”.
” إن النص الجميل لديه علاقة عكسية مع عدد المعجبين به”
يقتبس الشاعر والروائي الليبي سراج الدين الورفلي عن أدونيس جملته. يقول سراج أنه كان يكثر من النشر على الفيس، لكنه لم يعد يكترث .عرف أنه نوع من الاستنزاف يحتاج الى ادارة المجاملات والطبطبة، وهذا ما يفشل فيه، على حد قوله. لا يهتم الورفلي بحجم التفاعل، مشيراً لمدى السطحية الذي يتطلبه الامر للحصول على تفاعلات كثيرة، وكيف أن الامور تستمر حتى يتحول الشخص الى مهرج ،فليست لكل التفاعلات مصداقية.
يقول الورفلي صاحب ديواني “أراقب رامبرانت ثم أصغي إلى زوال الأشياء” و”كاريزما الموت“:
” يهمني أشخاص بعينهم لديهم رؤية نقدية وذائقة جمالية معينة، وخاصة أن هناك الكثير ممن يضعون اللايك دون أن يقرأوا النص. هناك علاقة عكسية بين طول النص وعدد المعجبين به، ومؤثرات مثل الصورة او الموسيقى او الفيديو قد تربك وتشكك الناس في ذائقتهم . إن أزمة النشر والطباعة وأحيانا اجراءات الرقابة الدينية او الاجتماعية او السياسية تفرضُ عليك أن تضرب بالنشر الورقي عرض الحائط ،حيث يكون همك الاول هو حرية التعبير وليس الشعر، فأنا اتعامل مع الفيس بوك كمختبر حقيقي، ككشكول للمسودات الاولى من الكتابة. أتفاعل مع نصوص الآخرين حسب مايقابلني ومدى ملائمتها لذائقتي،لكني متابع غير جيد سواء لصفحات أو لأشخاص. لم أحظر أحداً لعدم تفاعله،لكن أحظر الغباء البشري، النقاشات التي ليس في محلها، حراس الاخلاق، الملائكة اللعينة، مسببو الصداع، اصحاب الذائقة المجتمعية المتدنية، الذين لا أعرف من أين يجلبون هذه الطاقة المستفزة “.
“أن تجد من يشاركك نظرتك للحياة هو شيء حميمي”
تقتبس الشاعرة اللبنانية حنين الصائغ، صاحبة ديوان “وليكن” و”روح قديمة”، من الفيلسوف الفرنسي آلان دي بوتون. وتضيف أن الشاعر الذي يكتب فقط من أجل المتابعة والاحتفاء لديه نقص في حياته يحاول أن يعوضه بكتابة الشعر وجذب الانتباه. على كل شاعر أن يصارح نفسه بغايته من الكتابة. فغاية الشعر، حسب حنين، هي التعبير عن الذات وتقديم جانب من أنفسنا للآخرين لا يمكن رصده بالملاحظة والنظر، ولذلك تنشر حنين نصوصها الشعرية على فيسبوك.
تقولُ الصائغ: “تحقق تلك النصوص، في معظم الأحيان، تفاعلا لا بأس به، ولكن غياب التفاعل لا يعني غياب المتابعة، ولا كثرة التفاعلات دليل على جودة النص. لا أنكر أنني أستمتع بالقارئ الذي يتلقى قصائدي بحماس، لأن هذا يعني أن شخصاً آخر يشاركني نظرتي للحياة، ويوافق على الطريقة التي تفاعلت بها مع تجاربي. هناك الكثير من المتابعين الصامتين يفضلون القراءة دون أن يتركوا حتى إعجاب، و لا أجد مشكلة في ذلك. لكنني أستنكر شعور الاستحقاق عند بعض الشعراء الذين يهددون المتابعين بالحذف إن لم يتفاعلوا! فمصداقية التفاعلات تتوقف على نوعية المتفاعلين ومعرفتي بهم. أعتز بالتعليقات التي تأتي من شاعرات وشعراء أحب كتاباتهم، وهناك تعليقات مكررة وفارغة تأتي من أشخاص بهدف المجاملة أو غايات أخرى. أنشر دواويني ورقيا كنوع من المكافأة لنفسي ولحفظ الملكية الفكرية، وأعي أن هذه النسخ لن تسوق أو توزع أو يتم شراؤها إلا من عدد محدود من القراء. أتفاعل مع النصوص التي أحب بإعجاب. نادرا ما أترك تعليقا لأنني بطبيعتي قليلة الكلام. لا أستطيع أن أجامل حتى بوضع علامة إعجاب على نص لم يصلني ولم يؤثر فيّ”.
تفضلُ الشاعرة المصرية رضا أحمد، ومنذ بداياتها، نشر نصوصها على الفيسبوك باستمرار وكثافة. اختلف الأمر منذ عامين حيث قللتْ النشر إلا بعد توثيق النصوص في الدوريات الأدبية أو الدواوين، بعد نصيحة أصدقاءها لحمايتها من السرقات. لقد قدمت منصات التواصل لرضا نافذة مجانية للنشر، افضل من النشر الورقي محدود التوزيع المرتبط بمزاجية الدوريات الأدبية ودور النشر، حسب رأيها.
تضيف رضا أنها تحقق متابعات لا بأس بها، لكنها لا تعول على اهتمام البعض. إذ يتواجد أصدقاء لا يقرأون إلا لشلتهم او لإقليمهم أو لنوعية الكتابة. البعض يقرأ فقط لزملاء تخصصه الجامعي !كما اكتشفت رضا لاحقاً.
تقولُ صاحبة ديوان “لهم ما ليس لآذار” “الاعتراف خطأ شائع” :
” تخيفني الأضواء لو أعجب الكثيرون بنص معين. لا استطيع التعامل مع كلمات الإعجاب. اختفي بعض الوقت إلى أن أكتب نصا جديدا، مما يفرحني أكثر. لا أحزن ولا أغضب في حال التفاعل القليل مع أحد النصوص. صرت في مرحلة أدرك فيها أن للكل حساباته وذائقته وهمومه الشخصية. وأن البعض يعتقد أن مجرد وضع “لايك” فهو دين علي أن ارده. أتفاعل مع ما يعجبني من نصوص الشعراء الآخرين، وهي قليلة. أحب السيولة في الكتابات على منصات التواصل. أعتقد انها خطوات هامة في مشروع شعراء كبار؛ لو التزموا بالعمل عليها. لا أحظر أحداً لا يتابع، لكن البعض فعل معي هذا، وللأسف أهانني قبل أن يحظرني! واتهمني بالغرور كأنني مجرد مستقبل للأحداث في حياته”.
تنشرُ الشاعرة المصرية الآء فودة، صاحبة ديوان “بحة في عواء الذئب” و”شامة أعلى الرحم” نصوصها أيضاً على صفحتها الشخصية، وتحظى بمتابعة ترضيها، فالنشر على فيسبوك هو مقابل جيد وغير مكلف، كما أشارت.
تقول الآء ” أعي أن خوارزميات الفيسبوك تتدخل في رواج نصوص واختفاء نصوص أخرى دون تفاعل، فالحقيقة أنني أظن أن الأمر متفاوت من وقت لآخر، وهذا لا يعني جودة النص من عدمها. أثق أحيانا في هذا التفاعل، وأحيانا أشعر ببعض المبالغة لو أن النص يحتاج إعادة كتابة. “
وعن تفاعلها مع نصوص الآخرين تضيف الآء :
” أتفاعل من كل قلبي مع النصوص الجيدة وأفرح لها كأنها نصوصي الشخصية تماما. في الحقيقة أنا لا أحظر أحدًا، وحين ألاحظ أن أحدهم لا يتابع نصوصي أفترض أن ما أكتبه لا يتماس معه مثلما لا أتماس أنا مع نصوص كثيرة رغم كونها جيدة”.
على غرار الورفلي، لم يعد الشاعر والروائي التونسي سفيان رجب ينشرُ نصوصه الجديدة على صفحته الشخصيّة. يعمل على تجميع النّصوص في كتاب لنشره ورقيّا، ثمّ يقوم بعد ذلك بنشر بعض النصوص منه على صفحته في الفيسبوك. يرى أن للنشر الورقي سحره ومهابته التي لا يرتقي إليها النشر الالكتروني، رغم أنّهما تداخلا بطريقة يصعب فصلهما عن بعضهما، فالكثير من المجلات الورقية اليوم تُنشر بصيغة إلكترونية موازية، والكثير من الكتب متاحة بصيغة الكتب الإلكترونية.
يقول سفيان رجب صاحب رواية ” مصنع الأحذية الأمريكية” وديوان ” ساعي بريد الهواء ” :
لم أعد أهتمّ كثيرا بالمتفاعلين مع نصوصي مثلما كنت من قبل، أصبحت أتعامل ببرود مع الفيسبوك، وبتوجّس أيضا. أثارت بعض النصوص التي أنشرها مشاكل مع أصدقاء يظنّون أنني أقصدهم. بعض النصوص يساء فهمها وتأويل معناها بغير ما أقصد. سأسعد، بطبيعة الحال، بتوسّع مقروئيّة نصوصي، فهذه غايتي بنشر النصوص، لكني لست مهوسا بهذا الأمر، كما أنني لست زاهدا في ذلك. أنظر إلى هذه المسألة بتوجّس أيضا، فثمّة من يتفاعل مع النصوص كأنّه قرأ خبرا عن زواجك أو عن موت أحد أقاربك. فبمجرّد أن يقرأ جملة تتحدث فيها عن غربتك مثلا، يضع لك هذا التعليق “سلامتك”، ويضعك في حرج حقيقيّ، بما ستجيب عن تعليقه؟ أحيانا أثق في هذه التفاعلات، وأحيانا لا. فالمسألة ترتبط بالشخص وبالتعاليق وبمدى عمقها ومسّها لمعاني النصّ. يمكنني الادعاء أنني شفيت من العماء النرجسيّ. فأنا أقرأ النصوص المتجدّدة، وأترك تعاليق لأصحابها، وفي أحيان كثيرة اكتفي بالقراءة، وأبخل عن كتابة التعاليق. لم أحظر أحداً أبدا لقلة التفاعل، فلم أسقط في هذا القاع. أحترم كلّ أصدقائي في الفيسبوك، ولا أطرد منهم سوى المزعجين والتّافهين، أو بعض الذين لا ينشرون على صفحاتهم غير صورهم، فلا أرى جدوى من بقائهم في قائمة أصدقائي”.
.
إذن فلا جدوى من الغيرةِ على نصوصي من محدودية تفاعلِ أصدقائي الافتراضيين معها بما يرضيني. فالأمر محكوم بالخوارزميات والأذواق والحالة المزاجية والمصالح والرغبات الشخصية والمكائدِ الصغيرة، والهدفُ أولاً هو الكتابة لا غير. ورغم ميوعة المشهدِ الشعري بسبب منصاتِ التواصل إلا أنها تغذي الشكَ بداخلنا في تجاربنا، وتجعلنا نتراجع قليلاً لنراجعَ أنفسنا حول الكتابة وأحقيتنا في الظهورِ كشعراء، ويرى الشاعرُ (الحقيقي) أن ذلك حسنٌ. ومثلما أكد الأصدقاء أنَّ الأمر لا يحتاجُ غير أن تنتقي من تثقُ به وبرأيه وتفاعله، وأن تلتمس العذر لمن مروا كراماً، فلا يهم أن يفتح الشاعر عينه على كثيرٍ ولا يرى أحداً، فلا مريدين هنا، بل أن يستمتع بالنظر من شرفتهِ تلك ليغني للعالم، دون انتظار صدى لصوته أو لايك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر مصري