د. إبراهيم منصور
عزت القمحاوي (٦١ سنة) صحفي محترف، نال جائزة سمير قصير لحرية الصحافة، عمله دائما في الصحافة الثقافية، كان مدير تحرير أشهر جريدة أدبية في العالم العربي هي “أخبار الأدب” ورأس تحرير “مجلة الدوحة” من ٢٠١١- ٢٠١٣م. وظل القمحاوي مواظبا على الكتابة الأدبية، فبين عامي ١٩٩٢ و٢٠١٠ كتب مجموعتين قصصيتين، وأربع روايات، ثم نشط في السنوات الأخيرة فأعاد نشر كتابه “الأيك في المباهج والأحزان” مع توسعة في الكتاب، ونشر روايتين “يكفي أننا معا” (٢٠١٧) و”ما رآه سامي يعقوب” (٢٠١٩)
في روايته “غرفة ترى النيل” (٢٠٠٤) قدم لنا حياة عيسى الفلاح المصري من قرية “العش” نشأ فيها، وعاد إليها جثة في عربة مستأجرة، صحبَة صديقه الكاتب رفعت، وعيسى الذي يعمل رساما ومخرجا صحفيا، كان رمزا وعلامة، فقد دفع ثمن التدهور في القيم والأخلاق في الوسط الصحفي، في أجواء ضاع فيها الإتقان وقيمة العمل، فصعد المهووسون بكراسي السلطة، وضاعت هيبة الصحافة المصرية، لكن عيسى الفلاح، كان رمزا وعلامة على شيء آخر اعتنى به الكاتب عزت القمحاوي كثيرا فيما كتب، هو فلسفة اللذة، فكان يعيش الحياة بالطول والعرض، وقد رضي – وهو الفلاح – أن يتزوج امرأة “ لا ترد يد لامس” كانت له في الحياة فلسفة أبيقورية واضحة، إنها فلسفة اللذة، كان ينزف في المستشفى، ولكنه يستحلب طعم النظرة واللمسة وشفطة الشاي مرددا لازمته “عَظَمَة”، كان “عيسى” يستعذب اللذة أو يستحلبها، غير عابئ بأي شيء، لكنه أيضا كان “مَسيحا” مصريا من جانب آخر، جانب الآلام والأحزان، فقد ظل يجرجر رجليه على مستشفيات التأمين الصحي حاملا كيس الأدوية، ثم في المستشفى الخاص في غرفة ترى النيل، مات بتليف الكبد الذي أصبح قبل نهاية القرن العشرين مرض العصر في مصر.
عاد عزت القمحاوي ل”العش” القرية التي خرج منها بطله عيسى، عاد ليكتب حياة العش وأهلها من الفلاحين، حياة أسرة صعدت صعودا واضحا، ثم أخذت تتهاوى اقتصاديا شيئا فشيئا، لكن ذلك لم يكن في حياة جيل واحد من تلك العائلة، بل كان الصعود على مهل، ثم الهبوط بطيئا أيضا، استغرق ذلك كله أجيالا، والأسرة التي تحكي الرواية قصة صعودها وهبوطها، ففي رواية “بيت الديب” (٢٠١٠) نحن أمام عائلة الديب.
ترجمت رواية “بيت الديب” إلى الإنجليزية، بعد أن نالت جائزة نجيب محفوظ للرواية من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام ٢٠١٢م، إنها تنتمي لرواية الأجيال التي كتبها نجيب محفوظ عدة مرات، في الثلاثية الشهيرة، ثم في “ملحمة الحرافيش” وفي “الباقي من الزمن ساعة” أيضا، أرخ محفوظ للطبقة الوسطى في مدينته القاهرة، لذلك عرفت روايته الكبرى ب”ثلاثية القاهرة” أما القمحاوي فقد عاد لحياة الفلاحين، فهو مثل أحمد صبري أبو الفتوح، ومثل عادل عصمت يقدمون في سردهم حياة أجيال من الفلاحين، يتعرضون للتحدي فيستجيبون له.
ففي “ملحمة السراسوة” تتعرض أسرة السرسي للتحدي حين يشرع المملوك “قُفْل” المدلل من محمد علي، في استحلال العدوان على شرف أسرة من الفلاحين في بلدة “سرس الليان” فتقرر الأسرة قتل المملوك ودفنه مع حصانه والهرب، ثم تتكّون الأسرة وتنمو في موضع جديد بين الدقهلية والشرقية، خلال عهد محمد علي وخلفائه، ثم تكبر الأسرة وتتوالى أجيال منها بعد أجيال حتى نصل إلى نهاية القرن العشرين، فيقدم لنا الكاتب خمس روايات تعالج صراعا خارجيا مع السلطة، ومع الأعراب، وصراعا داخليا بين أبناء السرسي أنفسهم، حيث تستجيب الأسرة للتحدي وتنجح في الإفلات من العار ثم من العقاب، وأخيرا تصبح في حالة تماهٍ مع الوضع القائم، وتدفع الأثمان المتوالية ضمن دراما الحياة.
أما رواية عادل عصمت “الوصايا” فتقدم حياة أسرة من الفلاحين تخسر أرضها نتيجة خطأ وحسن نية من الجد، فيقبل أحد أبناء الأسرة التحدي ويعيد بناء الأسرة التي تعرضت أيضا للموت، حين حصد الوباء كبار رجالها، ويصبح هذا الابن هو الجد الذي يحكي لحفيده، ويوصيه، ولا تنتهي الرواية قبل أن تصبح الأسرة عائلة كبيرة، تتعاور عليها عوادي الزمن خلال القرن العشرين بطوله.
في رواية “بيت الديب” مثلما يحدث في الريف حتى اليوم، يطلق الكاتب على العائلة “بيت الديب” ويمتد السرد إلى رقعة زمنية واسعة (تبلغ مائتي عام) تشبه تلك التي نسج عليها صاحب ملحمة السراسوة، لكن طريقة السرد تختلف كلّيا، فهنا فجوات سردية كبيرة للغاية وواسعة، لذلك جاءت الرواية في صفحات محدودة، إنها أقرب إلى “وصايا” عادل عصمت، من حيث الطول، لكنها أيضا تختلف عنها في طرائق السرد من حيث وجهة النظر السردية، والمفارقات الزمنية، وأساليب الحكي، وكثرة الشخصيات.
في “بيت الديب” نتعرف على “العش” الواقعة على حدود محافظة الشرقية أقرب بلدة كبيرة إليها هي “بلبيس” وأقرب حاضرة هي “الزقازيق” ولم تكن الأسرة تختلف في شيء عن بقية الفلاحين، إلا أن أحد أفرادها واسمه “سلامة” لم يقبل إهانة وجهت لأبيه “علي الديب” من “عصمت” العمدة التركي الذي حضر جده “متين أفندي” إلى العش وبنى فيها بيتا كبيرا (سراية). خرج سلامة بنبوت ينوي قتل العمدة، فقُبض عليه وسجن في الدوّار، ولكنه تمكن من الهرب، ثم اتخذ سمت اللص الشريف مثل روبن هودRobin Hood.
يكوّن سلامة الديب عصابة، تتلف الزرع و تسرق المواشي وتذبحها، وتوزع من لحومها على الفلاحين، مما أضاع هيبة العمدة التركي، فباع أرضه وترك العش وبقيت السراي مهجورة، وعادت العش بلا عمدة كما كانت قبل ثمانين عاما. ثم تمادت عصابة سلامة فسرقت مواشي الخديوي من زرائبه في أنشاص، فجردت السلطة حملة للقبض على عصابته، ويموت سلامة أثناء هروبه.
ظل “سلامة” رمزا للمقاومة والشجاعة والبأس، وقد ترك جنينا في بطن أمه سموه منتصر، ربته حفيظة زوجة عمه مع أبنائها من مجاهد: سلامة ونجية وناجي وعلي. وظل منتصر يُنادَى في الأسرة وفي العش عموما ب”ابن الغالي” إلى أن خطف منه عمه مجاهد الفتاة التي أحبها وأحبته واسمها “مباركة” زوجها له أبوها “بدر” حين ذهب يطلبها لابن أخيه، حينها قرر منتصر الهجاج من القرية، ليصبح صورة من أدهم الشرقاوي.
سوف تصبح “مباركة” الفتاة الجميلة عمود الخيمة في بيت الديب، لكن ذلك سوف يستغرق جيلين، فهي ترفض زوجها مجاهد، ثم تقبله على مضض، بعد أن واتتها الفرصة لكي تمارس الحب كما تهوى وتحب، فقد كانت تقيم في بيت مستقل، وحين جردت سلطة الاحتلال حملة للتجنيد الإجباري، فخبأت الأسرة، طوال مدة الحرب، ولدها ناجي لدى زوجة أبيه “مباركة” حينئذ نما الحب الحرام بينهما، فدفعت الظروف بها نحو هذه العلاقة الآثمة، التي لم تندم عليها أبدا، وقد أنتجت ذرية هم أبناء مجاهد في الظاهر، وأخوة ناجي، لكنهم من صلب “ناجي” الذي عشقته “مباركة”
لقد جعل الكاتب من “مباركة” أنثى خالدة، تحب الحياة وتتذوق اللذات غير عابئة بأية عواقب، بل جعل منها رمزا لمصر يشبه الرمز الذي رأيناه في رواية “الباقي من الزمن ساعة” حيث جعل محفوظ من “سنية المهدي” رمزا لمصر في صبرها وصمودها وتحديها للزمن.
لقد قاوم الفلاحون في العش، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، قاوموا الفرنسيين أولا، ثم بقايا المماليك، والأتراك الذين تسلطوا في عهد محمد علي وأسرته من بعده، ثم قاوموا الإنجليز، وصحيح أنهم هُزِمُوا في الظاهر، وعانوا من كرباج السخرة، والعونة، والضرائب الباهظة، والاحتلال، لكنهم في النهاية، عاشوا على أرضهم يزرعون ويحصدون، ويبنون ويتناسلون.
إن رواية “بيت الديب” قد بنيت على “اللقطات المكبرة” لو استعرنا لغة السينما، فقد عوّض الروائي الفجوات السردية الواسعة، برسم صورة مكبرة واقعية أو نفسية، لبعض الشخصيات من النساء والرجال، جعلتنا نعيش في عالم الفلاحين بمعتقداته وأساطيره، من ناحية، ومع الواقعية المتمكنة الراسخة في تفكير الفلاح وتشبثه بالأرض، فقد استطاع سلامة ابن مجاهد، العائد من الحرب العالمية الأولى أن يقيم مصنعا للنسيج، بعد أن نقل إليه زميله المجند مثله من “أخميم“، خبرته في صناعة النسيج، كما اشتري الأراضي الزراعية، والسراية القديمة في العش لتصبح هو باني الأسرة ومكونها، ولتصبح السراية هي بيت الديب، وذلك في ظني ما جعل المترجمة “نانسي روبرتس” تترجم عنوان الرواية House of the Wolf التي بدت لي ترجمة حرفية.
أما النساء فقد كان لهن دور أصيل في استمرار الاستجابة للتحديات، وبعضهن كانت لها، مثلما لمباركة، غزوات وفتوحات في مجال اللذة، فقد صارت “مسعدة تعلب” مثارا للحكايات داخل الأسرة وفي عموم القرية، حين مضت في معركة الحب الليلية مع زوجها علي، لا تتردد في الشخير والغنج، الذي علا على صوت مؤذن المسجد، فنسبوا للشيخ شكوى من عدم التكافؤ بين صوته وصوت علي، ولكن المقصود صوت مسعدة نفسها. لكن فتاة أخرى كانت علامة على الخيبة، فنتيجة الفكر السلفي، الذي دهم المجتمع في ثمانينيات القرن العشرين، تركت “عطية” دراستها في كلية الطب لكي تصبح زوجة ثانية لرجل يعمل نجارا.
تصور رواية “بيت الديب” حياة أسرة من الشغيلة والمؤجّرين، أصبحت خلال قرن من الزمان تملك البيوت والأراضي، أي أنها ارتقت لتتبوء مكانة الطبقة الوسطى في الريف، كان ذلك تطوراً نمّ عن المقاومة وعن الاستجابة للتحدي، فقد عانت أسرة الديب من الحرب العالمية الأولى، حين جُنّد ابنها سلامة في “الفيلق المصري” لصالح الإمبراطورية البريطانية، ثم دفعت الثمن في نكبة فلسطين عام ١٩٤٨، وفي العدوان الثلاثي عام ٥٦، وحرب اليمن، وحرب ٦٧ ، وحرب ٧٣، وأخيرا في غزوة صدام حسين للكويت، وواكب ذلك كله تطور في الزراعة والصناعة، هدمته القوة البشرية الناتجة عن التناسل، وهدمه تسلط واستبداد في أنظمة الحكم، لم يخل منه جيل من الأجيال.
لقد حارب الضابط “سالم مجاهد الديب” في فلسطين، لكنه صار معارضا لنهج جمال عبد الناصر في الحكم، فأقصي عن السلطة، وتنتهي رواية بيت الديب، عام ١٩٩١، حين يعود شاب اسمه منتصر، يشبه ذلك الحبيب المغدور الذي هجّ من العش قديما، يحمل ملامح جده، إنه مهندس دفن بيديه زوجته وابنته الصغيرة في صحراء الكويت، حين هرب من جحيم الحرب. في مشهد يذكرنا برواية غسان كنفاني “رجال في الشمس“. لقد تراكمت الهموم على منتصر، وكأنه صرّها في “شنطة سمسونايت “كان يحملها بين يديه، حين دخل على الحاجة “مباركة” في العش التي لم يولد فيها، هذا الشاب جده “منتصر سلامة الديب” وأبوه وأمه فلسطينيان، يلخص في لقائه بجدته كبيرة عائلة الديب، علاقات كثيرة داخلية وخارجية.
هذا هو التاريخ الذي عاشه الفلاحون بأحزانه المتوالية: الفيضان، والحرائق، ومقاومة الظلم، والاستعمار الأجنبي المحتل، والصمود للأوبئة: الطاعون ثم الكوليرا، والحروب، والضرائب، فكان الفلاح في القرن التاسع عشر حين تتكاثر عليه الضرائب، يترك أرضه هاربا بليل إلى القاهرة، ليهجر الزراعة إلى الأبد، كما حكى “أحمد أمين” عن جده في كتابه “حياتي“.
السرد في رواية “بيت الديب” يظهر حكام مصر: من محمد علي إلى حسني مبارك، لكننا لا نسمع عن حفر قناة السويس والسخرة، ولا عن أحمد عرابي، برغم أن موقعته التي هزم فيها كانت في “التل الكبير” على مرمى حجر من “العش” ولا ندري هل كان ذلك سهوا أم عمدا من الروائي، الذي ربط بين أحزان الفلاحين وهزائم السلطة أحيانا، وتجبُّرها في كثير من الأحيان.