محمود عبد الدايم
«أن نُصاب بالسعادة عندما نسقط»، وضع من الممكن أن تتفق الغالبية على استحالة حدوثه، فلطالما ارتبط السقوط بـ«الألم» والمحاولات الفاشلة، والذكريات الحزينة، غير أن هذا المنطق لم يجد صدى لدى الكاتب الإيطالي إنريكو جاليانو، الذي كشف لنا أن «السقوط» له أبعاد آخرى، وإن كانت أبعاد لم تخلُ من ألم، لكنه كان ألمًا قريب الشبه – إن لم يكن متطابقًا – مع الطعم المُر للدواء الذي نتجرعه ونحن ندرك جيدًا حجم مرارته، لكننا في لحظة معينة نتجاهل المرارة هذه طمعًا في الشفاء، وبهذا المنطق كتب «جاليانو»، روايته المُدهشة «إلا أننا نسقط سعداء».
«إنريكو»، أصبح كاتبًا وهو بعد ابن السابعة، عندما كان درس في الصف الثاني الابتدائي، بدأ رحلته في الكتابة شاعرًا، ويروي أنه كتب لأمه بيتين من الشعر خالدين: «ماما، كل يوم يمر تصبحين فيه أكثر بدانة»، مؤكدًا أنه لم ينس رغم مرور السنوات الذكرى التي لا تمحى من آثار ضربات «الحذاء» يومها.
بداية عادية جدًا اختارها الكاتب الذي يُدرس الأدب الإيطالي، والذي رُشح من قبل قائمة أفضل مائة مدرس في إيطاليا عام 2015، ليفتتح بها رائعته الإنسانية «إلا أننا نسقط سعداء»، فـ«إنريكو»، كتب في افتتاحية الرواية التي قسمها إلى ثلاثة أجزاء، وصدرت ترجمتها عن المجلس الكويتي الوطني للثقافة والفنون والآداب، للمترجمة أماني حبشي، وقال: «الحب مثل العطر، سهل وضعه، صعب نزعه، مستحيل نسيانه»، ليكتشف القارئ بعد أسطر قليلة، أن العبارة السابقة مكتوبة على جدار أحد دورات المياه في مدرسة البطلة «جويا سبادا»، الفتاة المنبوذة، صاحب الجملة الأشهر في مدرستها «حقًا.. إنه كوكب قذر».
وسريعًا جدًا يجذب «إنريكو» عقل القارئ، وتبدأ مرحلة «التورط» في حياة الفتاة صاحبة السبعة عشر عامًا، بشعرها الأحمر الطبيعي، وأمطار النمش التي تنزل من أنفها حتى عظمتّي وجنتيها، وعيناها الزرقاوتان وكأنهما بحيرتان متسعتان، ليس هذا فحسب، لكن من الصفحات الأولى، يدفعك «إنريكو» إلى الوقوف في صف الفتاة المنبوذة، التي يطلق عليها زملائها في المدرسة اسم «مايوناجويا»، والذي يعني «ليست فرحة على الإطلاق».
الكاتب الإيطالي، لم يلجأ في تحديد ورسم حياة «جويا» إلى تعقيد الأمور، لكنه – وبطريقة شرح الدورس، اختار «الحكاية البسيطة»، فخرجت «جويا» من رحم أسرة مفككة، ، الأب «سكير»، والأم لا حول لها ولا قوة، والجدة ملاذها الوحيد في عالمها الغريب هذا، حتى وإن كانت أمراض الشيخوخة جميعها اجتمعت على جسدها، إلا أنها كانت «عرابة السعادة» لحفيدتها، التي اعتادت أن تكافئها في أيامها السعيدة بـ«تسجيلات الأوبرا» التي تعشقها الجدة.
منحنى آخر تأخذه الأحداث، عندما يمنح «إنريكو» بطلته «جويا» مساحة لـ«الحكي»، ولأنها فتاة منبوذة، فلم يكن غريبًا أن تظهر «تونيا فينشينزي»، البالغة من العمر سبعة عشر عامًا، التي تعرفت إليها «جويا» في اليوم التالي منذ أن انتقلت هي وأمها وجدتها «جيما».. «تونيا» الصديقة المتخيلة لـ«جويا»، الفتاة التي صنعتها مخيلة «جويا»، فخرجت نحيلة، شعرها قصير، تلعب الكرة الطائرة، ودائما هناك مواعيد مباريات تتيح لـ«جويا» الخروج من المنزل،
كانت «تونيا» صديقة «جويا» المتخيلة المفضلة، أكثر وقاحة من رقيب في البحرية- هكذا يصفها «إنريكو»، إلا أنها مستعدة دائما أن تمنح «جويا» النصائح الجيدة، وأن تساعدها في اللحظات الصعبة, وهي الوحيدة القادرة، تقريبًا، على أن تُضحك «جويا». إنها الصديقة المكتملة الخصال، مخلصة، مباشرة، لا تلوي الكلمات.
ويبرر الكاتب حاجة «جويا»، إلى «تونيا»، بالإشارة إلى أنها منذ فترة المدرسة الابتدائية، كان لديها ميل إلى فتح قوسين بعيدًا عن العالم، وأن تلقي بنفسها داخلهما، فلا تضطر إلى مشاهدة ذلك الذي ستراه بمجرد أن تعبر عتبة المنزل. أمها ممدة على الأريكة. تقريبًا نصف مخمورة تشاهد التلفزيون، والحوض ممتلئ تمامًا بالأطباق المتسخة، وفوقه تتطاير بضع ذبابات، جدتها «جيما» في الحجرة الخلفية بجهاز الإطعام الوريدي المتدلي، والقسطرة التي لا بد من تغييرها، و«جاكو»، القط الشبح الذي يجول في مكان ما مدمرًا الأثاث.
وسط هذا كله كان لا بد أن يظهر «الفتى»، المراهق الذي تقودنا حياة «جويا» إليه، ولأنها «جويا» المختلفة، فلم يكن عاديًا أن تسقط في الحب مع مراهق في مدرستها، من هؤلاء الذين يخشون الاقتراب منها، أو الذين يتحرشون بها في طرقات المدرسة، أو الذين يتقنون جيدًا السخرية منها، هنا ظهر «لو»، فتى الأسهم الذي ألقى إليها «طوق النجاة» من المشاجرة الاعتيادية للأب «العاطل السكير»، والأم المغلوبة على أمرها.
«إلا أننا نسقط سعداء»، يشير «إنريكو» إلى أنها جاءت من فكرة عبثية بعض الشيء، فعندما كان يقود سيارته في إحدى الليالي بينما يتحدث مع صديقة له، وجد نفسه تحدثه بأنه يرغب في كتابة قصة حب لا يُفهم فيها إذا كانت هذه القصة ثمار خيال بطلتها أم واقعية، وفي تلك الليلة ولدت «جويا»، ثم معها «لو»، والقصة، كلها، التي – بطبيعة الحال، اتخذت منحنى مختلفًا جدًا عن ذلك الظهور الأوَّلي.
«كان شيئا كضربة، كأن أحدهم يضرب الجدار بكرة بلاستيكية، إلا أنه كان صوتًا مكتومًا وقويًا.. تك.. تك.. تك.. تك..» لترى «جويا» بعد ذلك صبيًا يرتدى سترة يلعب لعبة رمى السهام بمفرده، يلقي بسهم، ثم يذهب ليلتقطه، ثم يلقي بسهم آخر، ثم يذهب ليلتقطه. إنه ماهر، يسدده دائما في مركز الهدف أو على رقم 60.
التورط في «إلا أننا نسقط سعداء»، لا تتوقف متعته عند حد متابعة «جويا» وحياتها بعدما سقطت في فخ «محبة لو»، لكن الكاتب يسحبك إلى منطقة جديدة، منطقة ستجد نفسك تسرع للاستعانة بـ«قاموس»، فبطلتنا الغريبة تعشق الكلمات الغريبة، تبحث عنها، الكلمات ذات المقاطع الطويلة والمعاني الغريبة، وهو ما أرجعه «إنريكو» إلى أن «جويا» تكره الطريقة التي يتواصل بها الناس، الذي يستخدمون دائما المترجم، وتدرك أنه يوجد قليل جدًا من الأشخاص الذين يقولون الأشياء كما تخطر في أذهانهم، لأنهم إما غريبو الأطوار جدًا، أو صعب فهمهم جدًا، لهذا هي تحت جدًا الكلمات التي لا يمكن ترجمتها، ويمكنها بمفردها أن تعبر عن مشاعر عميقة جدًا.
«لو»، «تونيا»، لم يكونا طوق النجاة الوحيد في حياة «جويا»، فهناك «بوفه» أستاذ الفلسفة الذي يمكن القول أنه «المنطق» في حياة «جويا»، أو «صوت الحياة كما يجب أن تكون»، ففي كل مرة يظهر فيها تلاحقه أسئلة «جويا»، وهو الذي يدرك الاختلاف المُدهش في شخصية الفتاة التي ينبذها بقية تلاميذه، فيمحنها النصيحة تلو الآخرى، لكنها لم تكن أبدًا نصائح من نوعية «نصائح الكبار» المصحوبة دائما بـ«ذكريات مضت» و«تحذيرات قادمة»، وما إلى ذلك، على العكس تمامًا، «بوفه» الشخصية التي تساعد وتشجع «جويا» على فتح قوسين بعيدًا عن العالم.
ويظهر انحياز «إنريكو» لأستاذ الفلسفة في العديد من مقاطع الرواية، وهو ما برره بقوله: «كل المشاهد الدراسية الموجودة في الكتاب هي مشاهد من الحياة الواقعية، شهدتها أو حكاها لي تلاميذي، ودروس الأستاذ بوفه هي الدروس التي أقوم بها أنا كل يوم. بالطبع، هو يبلغ من العمر سبعين عامًا، وأنا في الأربعين، هو يدرس الفلسلفة وأنا أدرس الآداب، لكن كثيرًا من الأشياء التي يحكيها أخذته من دروسي».
«دروس بوفه»، لم تكن الشيء الواقعي الوحيد الذي استعان به الكاتب في روايته، فـ«جويا» إلى جانب هواية جمع الكلمات الغريبة كانت تعشق التصوير، وهي هواية يشاركها إياها «إنريكو» الذي يحب التصوير، وتحديدًا «الأبيض والأسود».
أخيرًا.. «إلا أننا نسقط سعداء»، رواية تقرأ في أي مكان، فأصوات أبطالها ستغطي على أصوات الازدحام المعتاد في وسائل المواصلات، وأسئلة «جويا»، ستكون خير وسيلة للتغلب على «ملل» ساعات الانتظار الطويلة، وإجابات «بوفه»، ستجعلك دائما على أهبة الاستعداد لأن تضع خطوطًا حمراء تحتها، لأنك ستجد نفسك في واحدة منها، إلا لم تكن جميعها تعبر عنك بطريقة أو بآخرى، ووقتها ستجد لديك ميل «أن تفتح قوسين بعيدًا عن العالم».