في أثر الغباء والأغبياء

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سمر مجدي 

إنه لمن اليسير علينا أن نتتبع أثر الأذكياء والعباقرة فتتوضح لنا الطرق التي سلكوها أو أن نلمح ظلالهم فنتبين ملامح شخصياتهم وحقيقة الضوء الذي يستمدون منه، بينما الأغبياء بلا أثر فخطواتهم الخفيفة تبعثرها الريح، ولا نور لهم فتذوب ظلالهم في الظلام، فقط وحده ركام الدمار يخبرنا أنهم قد مروا من هنا دون هدف أو غاية!
 لكن ما الذي قد يدفعنا للتبع أثر غبي؟ الإجابة عند مونتيني حيث يقول “إنه لا يثيرني شيء في شخص غبي, أكثر من كونه راضيًا عن نفسه إلى حد يقف دونه أي رجل عاقل. إنه لمن المؤسف أن الحكمة تحرم عليك الرضا عن نفسك، والثقة في أحكامك، وتطردك من حضرتها دائمًا ساخطًا هيابًا، بينما يملأ الغرور والاستبداد بالرأي  صاحبه بالبهجة والثقة. إنهم فارغوا الرؤوس ينظرون إلى الناس دائما من فوق أكتافهم.

كم مرة التقيت بشخص يتحدث عن شيء يجهله بثقة تجعل السامع يثق به ثقته بالعالم الخبير؟ كم مرة التقيت بشخص يعظمه الناس رغم جهله وغبائه؟ وهل نساهم نحن في صنع هالة مقدسة وهمية حول هؤلاء الحمقى أسكنتهم منازل عالية وصلت في بعض الأزمان إلى كرسي الحكم؟

بدايةً إذا القينا نظرة على المعجم سنجد أن الغبي هو من خفي عنه الشيء بالإضافة لقلة فطنته، واصطلاحًا الغباء هو فشل معرفي ينتج عنه تناول الظواهر بشكل سطحي. فإن اختلط علينا الأمر بين الغبي والجاهل فعلينا بقول الفراهيدي “رجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك الجاهل فعلموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك الأحمق فاجتنبوه.”وها هوالفراهيدي  يعيدنا مرة أخرى إلى ثقة الغبي بنفسه.

لا أحد ينكر أن الثقة بالنفس من أهم أسس النجاح حتى أن مونتيني  نفسه الذي يستشيط غضبًا من ثقة الغبي بنفسه أشار إلى ذلك بقوله “إن عجزنا عن إدراك قيمة أنفسنا هو خطأ لا يقل أثرًا عن أن ننسب إلى أنفسنا فضائل نعلم أننا لا نملكها.” ولكن ثقة الغبي بنفسه غالبًا ما يكون مبالغ فيها تحجبه عن التعلم وتقوده وتقودنا للهلاك؛ الثقة الزائدة بالنفس ينتج عنها غضب وعنف وتحول الأحمق لأفتك الأدوات شرًا.

في أثناء الحرب العالمية الأولى وخلال فترة تعد من أشد فترات ألمانيا دمارًا  وفقرًا كتب بونهوفر من السجن يقول:

“يمكن للمرء أن يحتج على الشر، أن يفضحه، أن يمنع حدوثه؛ لكن أمام الغباء فنحن عزَّل بلا سلاح. فلا الاحتجاجات ولا استخدام القوة يحقق أي شيء هنا. العقلانية تصطدم بآذان صماء.”

فعقل الغبي يخلو سواء من شعارات متوارثة وأحكام مسبقة تسلحها ثقته بنفسه الزائدة والعُجب، وتقف تلك الثقة حائلًا بينه وبين العلم وتقبل الآخر والتواصل معه، ليصبح بذلك أداة خطرة تتخذ العنف والدمار وسيلة وتمارس الشر دون رؤية أنه شر.

شر الأحمق مستمر على الدوام, فآفة الغبي أنه يضر من حوله دون أن يحقق مكاسب لنفسه، فهو لا يمارس الشر من أجل الوصول إلى غاية فينتهي شره ببلوغ غايته,، وإنما هو شر مستمر بدوام الغبي. وعن دوام الغبي فإن لأينشتاين قول شهير “هناك شيئان لا نهائيان الكون وغباء الإنسان، أما عن الكون فأنا لا أزال غير متأكد“.

و يا ليت شر الأحمق يطول من حوله وحسب، انظر كم حرب خسرها قائدها في لحظة واحدة غبية ولك في حصان طروادة مثال، وانظر كم مؤسسة حتى يومنا هذا ترأسها غبي فهلكت، وانظر أيضًا في تاريخ الأمم إلى أين آل حالها حين جلس على كرسي حكمها أحمق ولم تشفع لها عظمتها. ولكن السؤال هنا كيف لأحمق أن ينال مكانة مرموقة؟

هناك العديد من الوسائل التي تساعد الغبي لبلوغ منزلة عالية أو تصنع منه نجم مشهور وقدوة يحتذى بها، بداية من الواسطة والمحسوبية والتوريث  مرورًا بمسنادة حمقى آخرين له، ونحن حين نجامله فنعطي لكلماته القيمة  التي تعزز من ثقته بنفسه أكثر، والغبي يتأثر بتعظيمه ومدحه حتى وإن كان غير مستحق ما قد يدفعه لأن يُحصل من قشور العلم تاركًا  للبه، وكما يقول برنارد شو “إذا قرأ الغبي الكثير من الكُتب الغبية ، سيتحول إلى غبي مُزعج وخطير جداً”, وبذلك يردد منها شعارات جوفاء يقحمها في أي حديث ليجذب آذان السامعين ويضفي على كلامه مسحة علمية تجعل السامع يثق به أكثر.
 وفي ظل غياب العلماء الحقيقين إما لندرتهم أو انعزالهم يزداد الأحمق شعبية “الذكاء يعزل الأفراد, في حين أن الغباء يجمع الحشود”  نيكولاس غوميز دافيلا.

ولاشك أن لمواقع التواصل الاجتماعي فضل لا ينكر في حشد الجماهير خاصة للأحمق الذي يستغل العواطف والانفعالات لحصد التفاعلات غير عابئ بما قد يتكبده المجتمع من خسائر فالغبي لا ينظر في عواقب الأمور.
ولا يحق لنا أن نغفل مخاوفنا التي تدفعنا دفعًا في اتجاه أي شخص يوهمنا بالأمان ويخفف عنا وطأة الحقائق. ولا أن نغض الطرف عن أولئك الأذكياء الذين يساندون الغبي ليضمنوا به مكاسبهم الشخصية. وأخيرًا فهناك نوع من الحكام يعمل على إقصاء الأذكياء والعلماء ليستند على الحمقى في نشر الجهل ويطيل بهم مدة حكمه.

ورغم المكانة المرموقة والثروة والهالة المقدسة للغبي وشعاراته الرنانة التي تزين حديث الغبي إلا أن حديثه دائمًا ما يكون فخ له. وعلى الرغم أيضًا من أهمية الحديث عمومًا وارتقائه لمرتبة الشرف في عهد الأثنين والرومان وجعله حرم مقدس في مدينة أفلاطون الفاضلة فلا يقربه أحمق أو غير مهذب، فإن الحديث هو ما يرفع الحجب عن أعيننا ويكشف عن الأحمق وزيف حكمته.

دائمًا ما كان الأحمق كثير الكلام في ما يعنيه وما لا يعنيه، ما يعلمه وما لا يعلمه، كلام من غير منفعة، دائمًا ما يكون خالي من الحجج والبراهين فقد أدلة موروثة وسطحية لا علم له بحقيقتها ومصداقيتها وكلها علامات تدل عليه، وللزيادة قال الأصمعي ” إذا أردت أن تعرف عقل الرجل في مجلس واحد فحدثه بحديث لا أصل له، فإن رأيته أصغى إليه وقبله فاعلم أنه أحمق“.

وإن واجهت الغبي بالحقائق والعلم محاولًا كشف ضعف منطقه اصطدمت به وزاد بذلك عنفًا، وحده السؤال والحيرة ما قد يدفعه إلى البحث والتعلم، وأخيرًا يعتقد بونهوفر أن التوجيه والوعظ للغبي ليست أدوات فعالة للتغلب على الغباء وإنما التحرر “وهنا يجب أن ندرك أن التحرر الداخلي الأصيل يصبح ممكنا فقط إذا سبقته عملية تحرر خارجي. وحتى يحصل ذلك يجب أن نتوقف عن محاولة إقناع الشخص الغبي.”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية
مراجع:
_ مقال فن الحديث مونتيني.
_نظرية الغباء من رسائل ديتريش بونهوفر من السجن.

_أخبار الحمقى والمغفلين ابن الجوزي.

_القوانين الجوهرية للغباء الإنساني كارلو سيبولا.

_دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ اريك دورتشميد.

_الطاغية  د. إمام عبد الفتاح إمام.

مقالات من نفس القسم