أحمد نبيل
تقول الأسطورة إننا مجتمعون هنا اليوم بفضل امرأة أكلت تفاحة منذ زمن بعيد. في سفر التكوين يخاطب الرب آدم قائلا: لأنكَ أذعنتَ لقولِ امرأتِكَ وأكلتَ من الشجرةِ التي نهيْتُكَ عنها فالأرضِ ملعونةٌ بسببِكَ، وبالمشقَّةِ تقتاتُ منها طَوَالَ عمرِكَ، شَوْكًا وحَسَكًا تُنْبِتُ لك، حتى تعودَ إلى الأرضِ، فمن ترابٍ أَخِذْتَ، وإلى ترابٍ تعودُ.. الإصحاح الثالث (3 :17 – 19). لم يرد ذكر التفاح بصورة واضحة في سفر التكوين، ولا في القرآن، وإنما اكتسب ارتباطه بقصة الخروج من الجنة من خلال الموروث الشعبي، الذي استلهم هذا التصور غالبا من الأساطير الإغريقية، ربما لما يتمتع به التفاح في هذه الأساطير من حضور غامض ومنزلة مقدسة. في أسطورة باريس وأفروديت تسببت تفاحة ذهبية في إحداث الشقاق بين الآلهة، حين ألقى باريس بالتفاحة على أفروديت إلهة الجمال والحب، ويشير الدكتور إمام عبد الفتاح إمام في (معجم ديانات وأساطير العالم) إلى عادة الإغريق أن يرمي أحدهم الآخر بتفاحة كدعوة لممارسة الحب.
ورد ذكر التفاح في مواضع أخرى من الكتاب المقدس، حوالي ست مرات، أربعة منهم في نشيد الإنشاد، وقد ورد استخدامها وتوظيفها بشكل جمالي (كَالتُّفَّاحِ بَيْنَ شَجَرِ الْوَعْرِ كَذلِكَ حَبِيبِي بَيْنَ الْبَنِينَ 2/ 3) (أَنْعِشُونِي بِالتُّفَّاحِ، فَإِنِّي مَرِيضَةٌ حُبًّا 2/ 5) (ثَدْيَاكِ كَعَنَاقِيدِ الْكَرْمِ، وَرَائِحَةُ أَنْفِكِ كَالتُّفَّاحِ 7/ 8). يبدو كأننا أمام تفاحة واحدة تعكس عدة دلالات، فهناك دلالة جمالية تستحضر كل ما يميز التفاح من لون وطعم ورائحة، وكلها سمات حسية يمكنها أن تنسحب على النساء أيضا، بشيء من المجاز. وهناك دلالة أخرى ترتبط بالتمرد وحب المعرفة، حيث جعل الموروث الشعبي من شجرة التفاح معادلا لشجرة معرفة الخير والشر المذكورة في سفر التكوين. وبعيدا عن الرواية التوراتية فإذا تأملنا في سيرة التفاح نجد أن كل تفاح العالم يقودنا في النهاية إلى الأرض، حتى تفاحة نيوتين.
وفي العديد من الثقافات تتم الإشارة إلى أمنا الأرض كأنثى، ارتباط المرأة دائما بالأرض والطبيعة والخصوبة والاستمرارية في الحياة أمر مألوف. ثمة قصة طريفة للكاتب صبري موسى بعنوان (مشروع قتل جارة)، تطرح تصورا خياليا لرجل يقرر قتل زوجته لأنها لا تتوقف عن الإنجاب، حتى بعد أن امتنع عن ملامستها بالفعل. بعد أن يقوم الزوج بقتل زوجته وتقطيع جثتها إلى قطع صغيرة يتخلص منها في المرحاض، يفاجأ بقطعة لحم باقية منها، قطعة لحم حية تتقافز ثم تنشطر إلى قطعتين، إلى أربعة قطع، إلى ثمانية قطع، وصولا إلى عدد لا نهائي من القطع تستمر في الانشطار والتكاثر ذاتيا حتى تحتل المكان.
ورد في سفر التكوين أيضا “ودعا آدمُ اسمَ امراتِهِ حواء لأنها أمُ كل حي3 :20”. يمكننا أن نستخلص من هذا أن حواء اختارت الأرض بطريقة ما. وبغض النظر عن خطيئة حواء، في حال حدوثها أو عدم حدوثها، ففي الحالتين يؤكد سفر التكوين على أن آدم خلق من الأرض “فمن ترابٍ أَخِذْتَ، وإلى ترابٍ تعودُ..” وكل ما فعلته خطيئة حواء أن أعادت آدم إلى الأرض مرة أخرى. وجود شجرة الخلود بالقرب من شجرة معرفة الخير والشر ليست مجرد مصادفة، ذلك أن ثنائية الخلود والمعرفة تكشف لنا عن جوهر الاختيار الذي وجدت حواء نفسها في مواجهته. بين الاشتباك مع الحياة واكتشاف معانيها بكل ما تستوجبه تلك المعرفة من تضحيات، في أرض جديدة كل ما فيها متغير ومضطرب، وبين الخلود في سكون دائم يبدأ حيث ينتهي.
وفي هذا الديوان، تحديدا في القسم الأول منه والمعنون باسم (نسائي المضيئات)، نتعرف على مجموعة من الأصوات النسائية، في نصوص متنوعة تدور حول فكرة الاختيار. في قصائد مثل (فرانشيسكا – ليلى والذئب – أين عمري – ذهب مع الريح – أنجلينا – قرط لؤلؤي) دائما هناك اختيار ودائما ما يكون مؤلما.. وهناك في المقابل ندمٌ على خيار آخر مفقود، أحيانا محدد وأحيانا لا. على سبيل المثال قصيدة فرانشيسكا. وهي مستوحاة من فيلم جسور ماديسون، عن رواية الكاتب الأمريكي روبرت جيمس والر التي تحمل نفس العنوان.
في الفيلم تلتقي فرانشيسكا بـ روبرت المصور الصحفي أثناء زيارته لجسور مقاطعة ماديسون، روبرت من وجهة نظر فرانشيسكا يبدو جسرا لحياة أخرى، لا تجرؤ على العبور إليها وترك أطفالها وزوجها. بعد وفاة زوجها تبحث عن روبرت وتكتشف موته وتركه لها رسالة، يوصيها بأن تنثر رماده من فوق الجسر، قبل وفاتها توصي فرانشيسكا أولادها أن ينثروا رمادها أيضا من فوق الجسر بدلا من دفنها في مع زوجها، لم تسمح لها الحياة بالبقاء مع روبرت، لكنها تقرر البقاء معه بعد موتها. أليس ذلك شعرا؟ فقط لو سلمنا بالشعر كحياة بديلة. ففي المسافة بين ما نملكه وما نفتقده، بين ما نحياه وما نتخيله، في هذه المسافة يولد الشعر وكل ما على الشاعر أن يلتقطه، أستعير من حوار الفيلم بعض كلمات فرانشيسكا “من المحزن ترك العالم دون أن يعلم من تحبهم من كنت”. وربما لذلك نلجأ لكتابة الشعر أحيانا. إذا اعتبرنا أن الشعر والأدب والفنون عامة هي الرواية غير الرسمية لحياة البشر. هي مفتاح عالمهم الداخلي الخاص، بكواليسه وكوابيسه وأحلامه ومخاوفه وإخفاقاته.
في قصيدة (ليلى والذئب) – وهي امتداد لقصيدة (لم ألحظ ذئبا يا أمي) الصادرة في ديوان (عدسات لاصقة لعبور نهر) – تكشف ليلى عن اختيارها المغاير للتصور السائد في الحكاية الأصلية. لا تجد ليلى في الذئب ما يستدعي خوفها، في القصيدة الأولى نجد ليلى تتجهز بكل أنوثتها ومفاتنها من أجل ذئب يتخلف عن الحضور كما يبدو واضحا من العنوان (لم ألحظ ذئبا يا أمي)، وفي القصيدة الثانية تجد ليلى في الذئب صديقا وليس وحشا. يلعب الذئب دورا في حياة ليلى لا يمكن لأمها أن تلعبه. فهو يحتفي معها بمظاهر البلوغ (سيقهقه حين يعلمني أن ملامحي الطفولية ستختفي/ يعلمني المزيد من الغناء) هل الغناء هنا هو شكل آخر من أشكال المقاومة والتمرد على السائد، ربما. ولكن الشيء الفاتن في القصيدة في رأيي هو مطلعها. نجد أن أول ما لفت انتباه ليلى في الذئب هو وحدته.. التي تعكس وحدتها. تلك نقطة التقاء.
في قصيدة (أنجلينا) تتجسد فكرة الاختيار بصورة أكثر مباشرة، اختيار أنجلينا جولي للهرب من مواجهة المرض ببتر أنوثتها من جهة، واختيار الشاعرة لمصارعة المرض وجها لوجه من جهة أخرى، وفي المسافة بين الاختيارين فرصة شعرية أخرى لم تتردد بهية طلب في اصطيادها.
في قصيدة (أين عمري) تصحو فتاة من حلمها بثوب العرس، على واقع جاف مع رجل تورطت في اختياره. وإن كانت القصيدة لم تشر إلى ذلك على أنه اختيارها، كما جاء في الفيلم.
(أيها الرجل الذي يقرأ الأوديسا
لماذا تريد للأحصنة أن تتحلى بالفضيلة
ولماذا تسجنني في حجرتك؟
هل أشبه مهرة مثلا ستؤدبها بسوطك؟
أنا قطة لكنها لن تكتفي بلمساتك الخائفة)
بعبارة أخرى: أنا لست مهرة تعكس قسوتك.. أنا قطة تفضح خوفك.
في الفيلم تتراجع البطلة عن اختيارها، لأن خروجها من سجن الأسرة إلى سجن الزوج العجوز لم يكن اختيارا بالمعنى الدقيق. أما القصيدة فهي تبدأ وتنتهي في دائرة مغلقة، بطلتها لا تتصالح مع اختيارها الأول، ولم تنجح بعد في أن تتجاوزه إلى خيارات أخرى، تظل محبوسة وممزقة بين حلم مفقود وواقع تعس. وبهذا البتر الزمني تحول اختيار البطلة إلى فعل قدري أو لعنة لا نهائية. بالنظر إلى مطلع القصيدة وختامها نجد أننا نبدأ من الثوب وننتهي إليه.. ولعنة بينيلوبي مستمرة.
ولكن هل يمكن لاختياراتنا أن تكون موجهة؟ ونكون مجبرين عليها أحيانا؟ أعتقد أن هذا ما تشير إليه القصيدة صراحة، على العكس من الفيلم. ربما نقدم أحيانا على اختيار أشياء وقع اختيارها علينا مسبقا. وربما لم تكن حواء تسعى لأي بطولة حين أقدمت على التهام التفاحة، فلم تتخيل أثناء التهامها أن عيون البشرية كلها ستلاحقها إلى اليوم. هذا التشكك حيال اختياراتنا تعمدت الشاعرة إثارته أيضا في قصيدة (ذهب مع الريح) المستوحاة من فيلم بنفس العنوان. يطرح الفيلم تصورا عن امرأة تدفع ثمن اختيارها بشكل لا يحتمل أي لبس. فقد أهدرت عمرها في انتظار رجل لم يبادلها الحب، ولم تنتبه في المقابل إلى زوج أحبها. أما القصيدة فقد اعتمدت على بعض الحيل المونتاجية التي توحي بوجود سوء فهم يحكم كل هذه المصائر من البداية. ففي الحب والحرب لا توجد خيارات منطقية. بينما يشير مطلع القصيدة إلى وجود حرب أخرى موازية للحرب الأهلية.
(أتدرون ما الجيد في هذه الحرب؟
أنني أخوضها وحدي)
إذن، نحن أمام حرب أخرى، شخصية. وفي ظلال الحرب تعود المرأة لتلعب دور الأرض والطبيعة والاستمرارية في الحياة.
(الحرب غادرة
فقدت حبيبا
وسعيت لرجل أحبني)
تبدو المرأة كما لو كانت مجبولة على التجاوز ولو على حساب مشاعرها. متورطة في الحياة ومدفوعة للاستمرار في معركتها. سوف تنتهي الحرب الأهلية آجلا أم عاجلا، أما حربها الشخصية الداخلية فتظل حاضرة كلما اتسعت المسافة بين الواقع والرغبة. ويمكننا أن نلتمس هذا الأثر في قصيدة (قرط لؤلؤي) بشكل أعمق. هذه القصيدة عن المسافات المحزنة. بين أصابع الصياد وأشواك القنفذ، بين الخادمة وسيدة المنزل، بين قرط اللؤلؤ ومنفضة الريش، وبين منفضة الريش وقلب السيد صاحب المنزل. القصيدة مستوحاة من فيلم، مبني على رواية، مستوحاة من لوحة للرسام الهولندي يوهانس فيرمير. ثمة تواطؤ في علاقة الرسام بالخادمة التي يرسمها، تبحث الخادمة عن تشابه يمكنه أن يجمعها بسيدها، وتتساءل بنبرة استنكارية
(هل لأني متسخة بالأتربة
وأنت متسخ بالألوان؟)
لا شك أن هذا الاتساخ يكشف عن تورط ما، رغم الاستنكار الذي يستر رغبتها في أن تفوز بقلبه. لكنه يرسمها وهي ترتدي قرط اللؤلؤ الخاص بزوجته.
(لماذا يعيد تدويري لأشبه امرأته
إن كان يحبني أنا؟)
أعتقد أن السؤال يحتوي على الجواب. قرط مستعار، يساوي حياة مستعارة، متخيلة، هي لحظة واعدة بوهم بعيد، وجميل بقدر ما هو بعيد، تتكرر في قصائد ذهب مع الريح، فرانشيسكا، وقرط لؤلؤي.. وإذا بحثنا في العلاقة بين عنوان الديوان (نساء التفاح) وعنوان القسم الأول منه (نسائي المضيئات) يمكننا أن نعيد النظر إلى تفاحة حواء كوسيلة للتنوير، وقد سبق أن أشرنا لارتباطها بشجرة المعرفة. وهكذا بعد أن سقطنا أنا وأنتم وتفاحة نيوتن إلى الأرض. لم يعد التمرد فعلا نسائيا أو شيطانيا، كما شاءت الأساطير، بل أصبح الوسيلة الوحيدة للمقاومة لدى كل كائن حي متورط.
(حالات لامرأة حزينة) هو عنوان القسم الثاني من الديوان، وهو أيضا توصيف مناسب لقصائد القسم السابق. ذلك أن كل العناوين والهوامش والانتقالات تؤدي وظيفة فنية في هذا الديوان. على سبيل المثال نلاحظ أن عدم الإشارة لأسماء الشخصيات الذكورية في القصائد والهوامش له دلالتان، قد يبدو لأول وهلة نوعا من التجاهل أو التقليل من شأن الرجل، لكنه في الغالب يحقق هدفا أعمق، فهو يحرر الشخصية من ربطها باسم أي من كان، روبرت أو عزيز، زكي رستم أو كلينت استوود، فثمة رجل آخر في العمق هناك يختبيء خلف أقنعة أبطال هذه الحكايات. ويحق لك يا عزيزي القاريء أن تمنحه أي اسم تشاء. وعلى العكس يأتي ذكر أسماء الشخصيات النسائية ليعكس دلالتين مختلفتين أيضا. فهو محاولة خادعة من ذات الشاعرة للتنكر خلف هذه الأسماء، ومعروف ضمنيا أن النص يعبر عن شيء من روح كاتبه شئنا أم أبينا. والأهم من ذلك أنها محاولة زكية لربط العالم الخاص للشاعرة، بالعالم العام للنساء في نقاط التقاء باقية وأبدية، ليست مرهونة بشخص أو اسم أو ظرف عابر.
من ضمن قصائد القسم الثاني تأتي قصيدة (فأس وغابة وشعر) لتفاجئنا بمشهد شعري لتكاثر الفؤوس، فمن الشجر تتوالد الفؤوس التي تقطع مزيدا من الشجر، لتستولدها فؤوسا جديدة، وهكذا. وكأنها لعنة نسوية أكثر تطرفا من خيالات صبري موسى في (مشروع قتل جارة)، تعود بنا من جديد إلى صدر الغابة الأم.
(سألعن الغابة لأنها ما زالت تنجب بناتها.. لتهبهم للموت)
تلك الغابة رغم وحشيتها ما زالت تعكس شيئا من عواطفنا. وبمجرد أن نبتعد عن الغابة خطوة واحدة وندخل في المقطع الثاني من القصيدة، نشعر بالاغتراب. فـ (في قاعات الشعر لا يشبهنا إلا الشعر).
أحيانا تلعب الانتقالات الزمنية دورا في ترتيب القصائد، كما في قصيدة (ربما يتبدل الشتاء)، وقصيدة (لأمي رائحة الفرح). للوهلة الأولى لا يبدو هناك أي تشابه بين القصيدتين سوى مظاهر الاحتفال. في قصيدة الشتاء نجد امرأة تتجهز لاستقبال رأس السنة وهي تصارع الألم والصداع. وفي قصيدة الفرح تستعيد الشاعرة ذكرى احتفال المولد النبوي من طفولتها.
(في رأس السنة
سأحرص أن أكون في البيت هذه الليلة
من النافذة، وعند الثانية عشر
سأقذف قططا سكنت صدري لأعوام وأبتلع مكانها وردتين
وأقتل كل الضفادع التي أقامت احتفالاتها الحمقاء في رأسي
وأضع تاجا من الأسبرين
ما فائدة الألماس اللامع إن لم يأخذ هذا الصداع)
قسوة الوحدة والألم وأجواء الشتاء الكئيبة على هامش احتفالات الكريسماس أعادت إلى ذاكرتي كلمات أمل دنقل (إثنان لم يحتفلا بعيد ميلاد المسيح.. أنا والمسيح). ولا عجب أن يتحول تاج الشوك في نسخته الحديثة إلى تاج من الأسبرين. وكأن لفظة التاج تضفي على الألم شيئا من التكريم، بنبرة تهكمية مريرة. في قصيدة الشتاء احتفال غائب، وفي قصيدة الفرح احتفال مستعاد. بشكل غير متوقع تعود بنا قصيدة الفرح إلى لقطة خاصة جدا من طفولة الشاعرة، وهي تتقاسم الفرح مع باقي الأطفال المتحلقين حول الأم.
(نلمس السيلوفان وكرمشات الورق الملون
الذي تلفه ثوبا منفوشا على خصر عروسة المولد
ورودا لتاج رأسها)
تخبرنا القصيدة بشكل مستتر أن تاج الأسبرين في قصيدة الشتاء، كان في الأصل تاجا من الورد في قصيدة الفرح. ورغم أنها ورود صناعية إلا أنها طفولية ومبهجة من السوليفان والورق الملون، وهكذا الشعر أيضا. وهكذا الفن حسب تعريف أندريه تاركوفسكي، ليس سوى تعبير عن أشياء حية بواسطة أشياء ميتة. أما بهية طلب فقد أوردت في قصيدة الشتاء تعريفا آخر للشعر.
(سأسكب كل هزائمكم
في نهر يعيد تشكيل الهزائم قطرات ندى مضيئة،
تضحك وتشرق لكم، حين تحتاجون ضوءا)
وأجدني أتساءل مجددا، ماذا يكون الشعر ما لم يكن تحويل الهزائم إلى قطرات ندى مشرقة تجلب الضوء..
اعتمدت معظم قصائد القسم الأول من الديوان على استلهام شخصيات من أفلام يغلب عليها الطابع الرومانسي، معظمها مشهور. ربما لأن السينما أكثر شيوعا من الأدب والشعر. المزج بين أجواء الأسطورة أو الحكاية الشعبية مثل ليلى والذئب، وبين أجواء الفيلم الأمريكي مثل ذهب مع الريح، وجسور ماديسون، كلها ملامح شكلت بيئة الديوان الغاباتية، تلك البيئة التي سمحت للشاعرة باستخدام البنادق في قصيدتين على الأقل. إلى جانب الدور الكبير الذي لعبته الحيوانات في تلك البيئة بحضورها، وأحيانا بغيابها. وقد دفعني ذلك لإعادة النظر في الدواوين الأولى لبهية طلب. وتحديدا ديوانها الثاني (العشق تميمة جنوبية). وهو ديوان ذاخر بحضور الحيوانات أيضا (كالبط والخيل واليمام والقطط المنزلية والعصافير، والمزيد من العصافير) وكلها حيوانات أليفة، أو على حد تعبير الشاعرة في الديوان نفسه (طير بلا أغربة)، كذلك نجد زهور الفل وسوسنات التحدي وفرح الليمون والفراشات والتوت، ومن قبل ومن بعد: العصافير.
أما في ديوانها الثالث (تفاصيل ضد.. تفاصيل مع..) فقد بدأت تتخلص من حيواناتها الأليفة، وقد شهد هذا الديوان غالبا أول ظهور للفئران في مطبخ عالمها الشعري. واليوم وفي ديوانها العاشر، نلتقي بالجانب المظلم من المملكة الحيوانية. في قصيدة (فأس وغابة وشعر) تتخلف العصافير الخضراء عن الحضور، وتموت الأسماك الملونة أما السوداء منها فتبقى. هنا في منزل الشاعرة حيث لا قطط منزلية ولا كلاب، بل صراصير وفئران. انظروا كيف حضرت الصراصير والفئران إلى مجلسنا في قاعة شعر. ولا عزاء للشعراء الذين يكتبون عن الشجرة، الذين تمت الإشارة إليهم في مطلع القصيدة. وفي قصيدة الشتاء قطط متخيلة تنهش صدر الشاعرة، وضفادع تحتفل في رأسها. إلى جانب ضفادع فرانشيسكا، وزوجها الذي يشبه دبا أليفا. وفي ليلى والذئب، تعود العصافير للظهور مع ليلى فقط لتشكل مع الذئب لحظة التقاء عالمين. وتتنافس الحيوانات على الغياب والحضور لتصنع مناخا معاديا. في قصيدة أنجلينا يطول انتظار العصافير الفرِحة. بينما تتواجد النمور حول أنجلينا بالفعل. ثمة خللٌ في التوازن البيئي، يعكس إحساسا بالوحشة والعداء. في قصيدة أشواك طويلة للاحتماء، إشارات إلى غدر القطة، ودناءة السمكة، وبدانة النمور، النمور المعروفة برشاقتها. كأنها عين حزينة تلتقط أسوأ ما في الكائنات. وفي وسط هذه الغابة الموحلة ثمة غزالة وحيدة ترواغ الموت، بل وتفجعه.
وأخيرا تأتي قصيدة (الاحتماء بالجدار) والتي تختبر فيها الشاعرة علاقتها المركبة بالموت، حين تدعوه ليخلصها من الألم، وحين تخشى أن يلبي دعوتها أيضا. وبين العذابين تختتم الديوان، وتترك لنا حرية الاختيار بين تفاحة الغياب، وتفاحة الانتظار.