محمد مفتاح
المفاهيـم معـالم
أولا: بابل النظريات والمنهجيات:
1 – البُـرج: اختلاف النظريات والمنهجيات الخاصة بالنشاط الأدبي قديمٌ قدم هذا النشاط. وقد ازداد هذا الاختلاف في الوقت الحاضر، ويتجلى في الكتب والمقالات والملتقيات والندوات الخاصة بالنظريات الأدبية والمناهج النقدية بصفة عامة. ويحتل فيها التنظير للخطاب الشعري مكانةً مهمة. وذكر ما هو شائع من النظريات والمنهجيات المتعلقة بالأدب وبالشعر قد تُسوَّد فيه صفحات عديدة. بيد أن أشهر هذه النظريات والمنهجيات هي فلسفة الظواهر، وعلم التأويل، ونظرية التلقي، والبنيوية، والدليلية، وما بعد البنيوية؛ بما فيها من تحليل نفسي وتاريخانية جديدة، ونقد ثقافي، وتفكيكية. وكل نظرية من هذه النظريات، وكل منهجية من هذه المنهجيات، تفرعت عنها تيارات متعددة؛ فهناك تيارات فلسفية ظواهرية، وهناك تأويليات عديدة، وتلقيات متنوعة، وبنبويات منشطرة، وسيميائيات أوروبية، ودليليات أمريكية، وتأريخانيات “حولية”، وتأريخانية “فوكوية”، وضروب من النقد الثقافي والنسائي.
ومع أن هذه النظريات والمنهجيات متداولة بين المختصين، فإن أقربها إلى طبيعة الشعر هي النظرية والمنهاجية اللسانية، والنظرية والمنهجية السيميائية والدليلية. فقد انتشرت المقاربة اللسانية لتحليل الخطاب الشعري، فتناولت الوزن والإيقاع، ورمزية الأصوات، ولغة الشعر، والمجاز، والتكرار، والتوازي، والرسالة الشعرية والوظيفة الشعرية. ومهما تعددت الكتب في هذا الاتجاه اللساني، فإنها استوحت من اللسانيات “السوسيرية” كثيرًا من مقولاتها ومفاهيمها لتطبيقها على النص الشعري، مع افتراض بعض المفاهيم الدليلية لمقاربة البُعد البصري فيه، أو بعض المفاهيم السيميائية لإثبات انسجامه. ذلك أن كثيرًا من الباحثين استغل بعض المفاهيم الدليلية “البرسية” لتحليله، خصوصًا من قبل بعض الكنديين والأمريكيين. هكذا يجد القارئ حديثًا عن الأيقونة، والمؤشر، والرمز، والمؤول، والذات المؤوَّلة، والممثل. كما أن بعض السيميائيين وظفوا الدليل، والدال، والمدلول، والمعنى، ومعنى المعنى، والتشاكل، والنسق، والبنية، والتواصل، والتلفظ، والخطاب، والمؤشرات، والمعينات. وقد هيمنت على هذه المقاربة سيميائيات جريماس ونظرية التلفظ “البنفستية”.
وقد اهتمت المقاربات الأوروبية، بصفة عامة، بإنتاج الدليل، والنص، وآليات الإنتاج، وبكيفية بناء الدلالة بغض النظر عن مرجعية النص الشعري؛ لأنها سلمت بالاستقلال الأنطولوجي للنص، وبدينامية النص، وانتظامه الذاتي، وإحالته على نفسه. وأما نموذج “بيرس”، فهو يشكل كل هذا مع أخذه بعين الاعتبار جميع المرجعيات.
2 – المنـار: في خضم عُباب هذه النظريات وما تفرع عنها من منهجيات، نقترح إطارًا جزئيًّا، أو – إن شئنا – تصميمًا مجملًا لدراسة النص بصفة عامة، ودراسة النص الشعري المعاصر بصفة خاصة. والتصميم إذ يستفيد من برج بابل النظريات والمنهجيات، فإنه تمرد عليها، والتجأ إلى منارة يشرف منها على الخطاب الشعري بدليله ومدلوله وداله وتدلاته – مرجعيته، ويطل منها على الأبعاد الأنثروبولوجية والشروط الإنسانية، ويقترح مفاهيم متدرجة حتى يتجنب الاختزال والإقصاء والإبعاد. وإذا ما وجد القارئ مفاهيم كثيرة، فنرجو منه أن لا ينظر إليها بعين الغضب، وإنما نلتمس منه أن ينظر إليها بعين رضا كليلة؛ لأن المفاهيم معالم تهدي البحث إلى سواء الدقة في الوصف، والصحة في التأويل، وإلى مراعاة طبيعة الشعر العربي قديمه وحديثه ومعاصره. فالشاعر المعاصر يعيش في عالمين: عالم قديم له كونه الثقافي، وعالم معاصر له مناخه الخاص المتجلي في شروط سياسية واجتماعية وثقافية ذات حيثيات خاصة، وهو ينفعل بها ويفعل فيها بخطابه الذي يحمل رؤاه الملتزمة؛ فالشاعر العربي المعاصر – بصفة عامة – ليس عبثيًّا وليس عدميًّا، وليس شعره مجرد إشباع ثقافي، وعلمي، وترف سياسي. وعليه، فإن نقل أية منهجية جاهزة لتحليل الشعر العربي المعاصر بها قد تسلب هذا الشعر رسالته وخصوصيته في مجتمعات ذات خصوصية.
سيتخذ هذا المخطط معالمه الرئيسية من السيميائيات والدليلية، وتدقيقاته من علم النفس المعرفي ومن نظرية العماء؛ ويهدف – بكيفية أساسية – إلى إبراز التعالق بين كل عناصر الكون، ومنها التعالق بين عناصر النص. وإذا كان الأمر هكذا، فإن كل فوضى وراءها نظام، وإن الفوضى نفسها جميلة ومفيدة، وليست قبيحة وحشوية؛ وإنما هناك نقص في المفاهيم لإبراز جمال النص الشعري المعاصر وتماسكه واتساقه وانسجامه.
ثانيًا: منهاجية دليلية: مستندنا الأساسي، إذن، هو بعض مفاهيم الدليلية التي هي الدليل، والمدلول، والدال، والتدلال – المرجع.
1 – الدليـل: سنتبنى تعريف “بيرس” الذي يقول: “الدليل هو شيء ما تسمح معرفته بمعرفة شيء آخر”[1]، وهذا التعريف يخول لنا أن نجعل أي شيء في الكون دليلًا إذا ما ذهبنا أبعد مما هو ظاهر، ابتداءً من الدليل الأكبر إلى أصغر دليل.
أ) الكون الأكبر: منحت الكون الأكبر فلسفات عالمة تراتبًا مبسوطًا في الكتب المختصة، كما أن كثيرًا من الثقافات الشعبية لها تصورات تراتبية؛ غير أن ما يهمنا هو استيحاء روح هذه التراتبية، ورصدها في النص الشعري؛ وهذه التراتبية ذات ثلاث درجات أو بنيات: بنية مجردة متسامية، وبنية إنسانية بما فيها من أنشطة جنسية ولغوية، وبنية طبيعية تتكون من الحيوان والنبات والجماد والمائع؛ على أنه فوق هذه البنيات ما هو متحكم فيها ونابعة منه؛ فهي – إذن – تنتمي جميعها إلى تلك الوحدة التي انبثقت منها. لذلك، فإن هناك علاقات وثيقة بينها وإن تباينت ظاهريًّا، وهي علاقات حاضرة من أرقى الكائنات إلى أحطها. والكائن البشري – في طفولته – كان يشعر أنه مندمج مع كل ما هو موجود في الكون، والشعر الذي هو المعبرعن الطفولة وعن الفكر الشمولي يعكس هذه الإحيائية والطوطمية. وهكذا صار كل ما في الكون حيًّا، وكل ما فيه من مخلوقات وكائنات متوازيًا. وقد تحققت هذه الصفات والخصائص بوسائل تعبيرية مختلفة؛ لعل أهمها هي اللغة الطبيعية. واللغة الشعرية هي من هذا القبيل، فهي تجعل العُرَى والصلات وثيقةً بين كل أثاث الكون جميعها، ووسيلة الجعل هي التشبيهات والاستعارات والمقايسات.
والإنسان – في كل زمان وفي كل مكان – يحاول جهد استطاعته أن ينشئ العلائق والصلات حتى يمكن له أن ينتقل من مجال إلى مجال، وأن يوظف المعلوم للكشف عما هو مجهول، وأن يحقق الألفة بينه وبين محيطه؛ على أن هناك أطروحات أخرى تعتقد في اللانظام، وفي الانقطاعات، وفي التشعبات، وفي التشظيات؛ ومع ذلك، فإن هذه الاعتقادات لا تمانع من وجود مبدأ منظم أو واحدي يتحكم في جميع الكائنات والمخلوقات.
ب) الكون الأصغر: ضمن هذا الروح الذي يسلم بوجود مبدأ منظم وواحدي يضمن التعالق بين الموجودات نظرنا إلى بعض النصوص الشعرية المعاصرة، متخذين من ديواني الشاعر المصري المعاصر سلام اللذين هما: “إنها تومئ لي” و”هكذا قُلتُ للهاوية” أمثلةً للبرهنة على صحة الفرض. وسنوظف مفاهيم متعددة لإثبات التراتب والتعالق تبتدئ بالتحليل بالمقومات وتنتهي بالأيقونات.
1 – مؤشرات التعالـق: من يقرأ ديوان: “إنها تومئ لي” تواجهه عناوين القصائد والمقطوعات؛ وهي عناوين متعددة، مثل: “حان”، و”قتيلا”، و”تهمي”، و”رماد”، و”من”… وهذه العناوين تحتوي على أسماء وأفعال وحروف. وقد يظهر أن لا علاقة بين هذه العناوين. ولكن القارئ حينما يربط العنوان بالقصيدة أو المقطوعة ويضعه في سياقها، يمكنه أن يستخلص دلالةً مشتركةً بين كل القصائد والمقطوعات. والدلالة هي الهلاك. وهي دلالة لها ما يسندها في نصوص “إنها تومئ لي” و”هكذا قُلتُ للهاوية“. فالهلاك والهاوية والخراب والدمار.. هي ما يهيمن على رؤيا الشاعر المأساوية والكابوسية.
2 – درجات التعالـق: إذا ما ثبت أن هناك تعالقات بين النصوص الشعرية، فإن التعالقات – مع ذلك – ليست في مرتبة واحدة، وإنما هي في مراتب متعددة. ومراعاةً لهذه التراتبية، فإننا نقترح عدة مفاهيم تستمد تسميتها من درجات التعالق. وعليه، فإننا سنعتبر التعلق مقولةً يمكن أن نُدرِّج عليها المفاهيم التالية: التطابق، والتفاعل، والتداخل، والتحاذي، والتباعد، والتقاصي. وهذه المفاهيم تهدف إلى إثبات التعالق داخل النص نفسه، وإلى إثبات تعالقه بجاره؛ وهذا التجاور هو ما سندعوه بالتعالق الخطي. على أننا حينما نستبدل بالخطية اللاخطية، فإننا حينئذ مضطرون إلى الجمع بين الأشباه والنظائر.. وتبعًا لهذا، فإننا نقترح مفاهيم أخرى متدرجة، هي: التطابق، والتماثل، والتشابه، والتحاذي، والتشاكل، والمضاهاة.
أ) العلاقـة الخطِّيـة: يحتوي ديوان “إنها تومئ لي” على قصائد ومقطوعات وشذرات، وكل واحدة منها لها فضاؤها ودلالتها، مما يوحي باستقلال كل واحدة منها عن الأخرى؛ ولكن القارئ حين يتجاوز الظاهر والسطحي إلى العميق فإنه يجد علاقةً وثيقةً بينها.
لقد افترضنا من قبل أن هناك ثلاث بنيات مترابطة ومتفاعلة؛ وهي البنية المجردة، والبنية الإنسانية، والبنية الطبيعية؛ وعناصر هذه البنيات لا يخلو منها، كلها أو بعضها، نص. وإذا صح الفرض، فإن العلاقة بين البنيات ثابتة بين النصوص على المستوى الخطي مهما تباعدت المسافات المادية والمعنوية. وإذا ما ثبتت العلاقة بين القصائد، فإن كل قصيدة يمكن أن تفسَّر بأخرى أو تُشرح بها؛ فالقصائد، إذن، “تتشارح” و”تتفاسر”. وعليه، فإن كل قصيدة تشترك مع أخرى في بعض العناصر، وتختلف معها فيها. ومن ثمة وجب تدريج العلاقات وترتيبها. ولهذا نقترح ما يلي:
1 – التطـابق: ونعني به أية قصيدة تتطابق مع أخرى في شكلها وفي مضمونها، وهذا التطابق قد لا يتحقق إلا في الاستنساخ.
2 – التفاعـل: مادمنا اعتبرنا القصائد تتشارح ويفسر بعضها بعضًا، فلا ريب أن هناك تفاعلات فيما بينها. فالقصائد متفاعلة رغم الفضاء الفاصل، والعناوين المتباينة. والقصيدة الواحدة تتفاعل عناصرها فيما بينها. الَّا أن الرؤيا المأساوية والكوابيس جعلت الشاعر يستقي نصوصًا معينةً لخدمة الموضوعة الأساسية. هناك إشارات للحجَّاج ولأهل العراق، وذكر للقيامة والنفخ في الصُّور… الخ؛ ولكن الصناعة الشعرية مارست مهارتها فيها، فوجهتها لخدمة مقاصدها.
3 – التداخـــل: نقصد به – من الناحية الخطية – مداخلة نص لنص يليه، أو قصيدة لقصيدة تليها. ولكن الدخول والمداخلة والتداخل لا تصل إلى درجة التفاعل؛ كما نعني به من الناحية الذاتية – ذات النص، أو القصيدة – تداخل نصوص فيما بينها لخدمة رسالة مركزية. ومقياس التداخل هو إعلان كل “نص” عن انتمائه ووضعه الاعتباري: الاقتباسات والاستشهادات، والأمثال، والإجازات، والإجابات، والمعارضات. والتداخل يحتل حيزًا كبيرًا في الشعر العربي، إلَّا أن الشاعر المعاصر المجيد لا يكاد يشعر القارئ بتداخل النصوص لديه؛ فإذا ما اقتبس أو استشهد أو تمثل… الخ، فإنه غالبًا ما تكون اقتباساته أو استشهاداته أو تمثلاته محورةً ومقلوبةً ومسخورًا منها.
4 – التحـاذي: نهدف منه التنبيه إلى العلائق بين النصوص المتجاورة والمتتالية. والتحاذي إما يكون مُعطًى وإما مستنبطًا؛ فهو معطًى في الشعر العربي المعاصر المعتمد على تفاعل الموضوعات وتداخلها ووحدة الرؤى، وهو مستنبط في بعض الشعر العربي المعاصر والشعر الغربي العمائي الذي يكون مشتتًا ومتشظيًا؛ كما أنه مستنبط في بعض الكتب الأدبية التي تجمع من كل فن طرفًا.
5 – التباعـد: إلاَّ أن هناك من النصوص ما يكون متحاذيًا فضائيًّا، ولكنه يكون متباعدًا بنيةً وانتماءً ومعنًى. ويمكن التمثيل للتباعد بكتب الأدب في الثقافة العربية الإسلامية، وببعض شعر ما بعد الحداثة. فكتب الأدب تحاذي النص الديني للنص القرآني، ولكنها تجاور أيضًا بين آية قرآنية أو حديث نبوي وبين نكتة باردة؛ كما قد يحاذي حديث عن النوكي حديثًا عن الحكماء والدهاء… وأما أشعار ما بعد الحداثة، فتحتوي على تشظيات وعماءات وهباءات.
6 – التقـاصي: قد يبلغ التباعد بين النصوص أقصاه، بحيث يكون هناك تباعد فضائي، وتباعد انتمائي، وتباعد دلالي ورسالي، كما هو شأن المسافة بين “التطابق” و”التقاصي”؛ إلا أنهما ليسا إلَّا درجتين من سُلم للمعاني وللقيم نابعة من “واحد”. ومع افتراضنا التطابق أول درجات السلم العليا المتصلة بالمنطلق، والتقاصي آخر درجة منه، فإننا ننفي التقاصي الذي هو معنى الإبعاد والتناقض.
ب) العلاقة اللاخطِّيَّـة: إذا تأكدت العلاقة الخطية بين النصوص ذاتيًّا وغيريًّا، مهما كان الكتاب أو الديوان، فإن هذه العلاقة قد تبرز أكثر حينما يتبنى المحلل طريقةً لاخطية؛ بحيث يجمع بين الأشباه والنظائر بعد التحليل الدقيق. وعملية إثبات التعالق تتم عبر اقتراح بنية ذات عناصر ستة، وسندعوها بنية التطابق؛ وهي بنية مرجعية نقيس عليها. فإذا احتوى المقيس على ستة عناصر كان متطابقًا، أو على خمسة كان متماثلًا، أو على أربعة كان متشابهًا، أو على ثلاثة كان متحاذيًا، أو على اثنين كان متشاكلًا، أو على واحد كان متضاهيًا.
هذه العملية التدريجية لدرجات التعالق اللاخطِّي تصح إذا روعي منطوق النصوص فقط. وأمَّا إذا روعي المنطوق والمسكوت عنه – بقيام الباحث باستنباط عام، أو باستنباط استصحابي – فإن البنية المقيسة تصير متطابقة مع البنية الوالدة، إن لم تكن بالفعل فبالقوة. إلَّا أن الشعر المعاصر الذي ينبع من التجربة الفردية الأصيلة لا يسمح بهذه الإجراءات الآلية التي توظف بنجاح في المجالات المنطقية والميادين الرتيبة.
والبنية التي نقترح بعد التوليف بين البنيات الثلاث؛ هي:
البنيةاسم القصيدة |
المجردات |
الإنسان |
الحيوان | النبات | الجماد | المائع | نوع
العلاقة |
هكذا قُلت للهاوية | + | + | + | + | + | + |
التطابق |
حان | + | + | + | التحاذي | |||
قتيلا | + | + | + | + | التشابه | ||
تهمي | + | + | + | + | التشابه |
تلك أمثلة من استخلاص العلائق ودرجاتها. ويمكن للباحث أن يعدد التطبيقات حتَّى يتمكن من إيجاد كل الدرجات وكل العلائق، وهو واجدها فعلًا.
ج) درجــات الدليـل: يتبين مما اقترحناه من مفاهيم لإثبات أنواع العلائق بين النصوص ودرجاتها أنه قام على نوع من القراءة والتأويل؛ وهما قراءة وتأويل لم يكونا على درجة واحدة من حيث الجهد لاستخراجهما من الدليل؛ فهناك الدليل الواضح، وهناك الدليل المعتم. ولذلك، يخطئ من يسلم بأن اللغة شفافة، وكذلك يخطئ من يعتبر أن اللغة عماء، وأن الخطاب حجاب. وتجنبًا للأخذ بأحد الطرفين دون سواه، فإننا نقترح درجات الدليل من حيث طبيعة معناه؛ وهي الدليل الواضح، والدليل البين، والدليل الظاهر، والدليل المحتمل، والدليل الممكن، والدليل العمَى؛ على أننا لن نقصر الدليل على معناه المتداول، وإنما سنجعل القصيدة دليلًا، بل النص الطويل دليلًا.
النص الواضـح: نقصد به ما لا يقبل التأويل من الكلام بإطلاق، مثل الأوامر والنواهي، مهما كان مصدرها؛ ولتكن أوامر الضباط أو الأطباء أو المدرسين، ولكن حسب قواعد وأعراف وشروط. ومن الشطط في القول أن نعتبر أوامر هؤلاء ونواهيهم ملتبسة أو حاجبة. بل إن النص الشعري يستحيل أحيانًا إلى نص واضح الدلالة لا يحتاج إلى تأويل. والشعر المعاصر نفسه قد يكون معنى بعض نصوصه واضحًا، كأن يدل العنوان عليه، مثل قصيدة “مُراودة” من ديوان “إنها تومئ لي“؛ كما أن المحلل، إذا ما اهتدى إلى رؤيا الشاعر المركزية، فإن نصوصه تصير ذات دلالة واضحة.
النص البَيّـِن: وإذا كان النص أقل وضوحًا، فإننا سنمنحه تسمية “النص البَيِّن”، حيث يدل فيه مؤشر العنوان والمعجم وقرائن أخرى على معناه؛ مثل قصيدة “انطفاء”، وعناوين الدواوين نفسها: “هكذا قُلتُ للهاوية“، “وردة الفوضى الجميلة“، و”إنها تُومئ لي“. ومع أن هذه العناوين تكون محتملةً لمعان أخر، فإن دلالتها تكون أبين في جهة من الجهات دون سواها.
النص الظَّـاهر: قد يتردد المؤول في اختيار معنى هذه المعاني المتعددة، ولكنه – باعتمادٍ على مقتضيات السياق وعلائق المساق – يميل بالمعنى إلى جهة البيان؛ لأن هذه الجهة أظهر من غيرها؛ مثلما هو الشأن في قصيدة “أرق“، فقد تداخلت الدلالات فيها، ولكننا أظهرنا الدلالة الجنسية على ما سواها.
النص المُحتمـل: النص بصفة عامة، والنص المعاصر بصفة خاصة غالبًا ما يُعتم على بعض الدلالات المؤسسة للنص نفسه، خصوصًا الدلالة الجنسية؛ ولعل قصيدة “بيننا” تصلح مثالًا في هذا الصدد. فقد أبرزت الدلالة الحيوانية والدلالة المائعة، والدلالة اللغوية، وغطت الدلالة الجنسية التي لا يتوصل إليها إلا بعد التأويل، وإلاَّ بعد الغوص في أعماق اللغة، ولربما كانت هي المتوخاة في القصيدة.
النص الممكن: غير أن استخراج المعنى من النص، أو منح النص معنًى مشروعًا، قد يكون أعسر مما تقدم؛ فقد لا يظهر في القصيدة إلَّا مؤشر واحد قد يوجه نحو دلالة ما في قراءة، وقد يوجه نحو دلالة أخرى في قراءة ثانية. وقصيدة “دينا” مثال لهذا؛ فقد يحتار القارئ في ضبط عنوانها، فإذا ضبط الدال بالفتح كان للقصيدة دلالة على بعض أنشطة الإنسان الدنيوية، وإذا ضُبط الدال بالكسر كان للقصيدة دلالة على بعض أنشطة الإنسان الدينية؛ ولكن ورود كلمة “النبي” مؤشر يرجح الدلالة الدينية المصاحبة بالدلالة الحيوانية.
النص العمَى: إلَّا أن هناك حالة قصوى من النصوص تقابل حالة النص الواضح، وهي “النص العمَى”؛ وهذا النص يقدم مؤشرات عديدة تتداخل فيما بينها وتتشابك، حتَّى تصير عبارةً عن متاهة متعددة المسالك، فلا يدري الذي يريد أن يخرج منها أية طرق يسلك. والنص نفسه يكشف عن حاله بكلمة “عماء”، أو “هباء”، أو “فوضى”، كما في “الأبيات” التالية:
- صَرْخَةٌ صَخْرِيَّةٌ مَغْرُوسةٌ فِي مَفْرِقِ العَمَاء.
- أنَا سَيِّدُ الهَبَاء.
- متَاهَة.
مَسْكُونَةٌ بِالغَامِضِ المُضِيء.
- مَنْذُورَةٌ لِلرَّمَادِيِّ الصَّفِيق.
- مِسَاحَةٌ مَنْذُورَةٌ لِلْغَامِضِ الرَّمَادِي.
المدلُـول:
(أ) آليَّات التَّأويل: نلاحظ – من خلال هذا الترتيب – أننا تدرجنا من طرف أول، هو النص الواضح، إلى طرف أقصى، هو النص العمَى؛ وقد اقترحنا هذا الترتيب والتدريج لأن النصوص اللغوية – من حيث دلالتها على معناها – ذات مستويات متعددة، وهذه المستويات موجودة قديمًا وحديثًا؛ ومع ذلك: فكل نص معرض للتأويل وقابل له، ومن ثمة وجب اقتراح إستراتيجيات لتأويل النص قد توظف كلها أو جلها.
نعلم أن هناك تيارين متقابلين في النظر إلى تعابير اللغة الطبيعية؛ أحدهما تيار ما بعد الحداثة، وثانيهما تيار علم النفس المعرفي والذكاء الاصطناعي؛ وما بين هذين التيارين اتجاهات أخرى. لقد أنبأ تيار ما بعد الحداثة الناس بموت الاستقراء والاستنتاج؛ لأنهما يتطلبان اتجاه التاريخ نحو خلاصة – وجهة – معينة، ويقتضيان تراكمًا للمعلومات. اي إن “الاستقراء والاستنباط ناتجان عن توال للقضايا عبر الزمان”[2]؛ بمعنى أن اتجاه التاريخ وتراكم المعلومات يتحققان في النصوص التقليدية الرتيبة التي تكفي معرفة نماذج منها ليمكن التنبؤ بمضمون النصوص المماثلة لها، ومعرفة عنصر واحد منها يؤدي إلى استنباط العناصر الأخرى. وأما النصوص المعاصرة، فهي فردية تقول ما لم يُقل قط. ونظرًا لفردانيتها، فلا يصح فيها الاستقراء والاستنباط؛ لأن قراءتها وتأويلها يعتمدان على التجربة الفردية أيضًا؛ إلَّا أن هذا التيار لم يقدم آفاقًا للقراءة والتأويل، وإنما استند إلى التذوق، وإلى مفاهيم فلسفية ظواهرية، أو مفاهيم علمية تقول بالتفرد، وبالانقطاع، وباللعب اللغوي.
وأما التيار الثاني، فهو معياري تجريبي يستفيد من علم النفس المعرفي والذكاء الاصطناعي لقراءة النصوص وتأويلها. وهذا التيار يوظف إستراتيجية الاستقراء والاستنباط؛ وقد صاغ مفاهيم عديدة مثل الأطر والمدونات والخطاطات والنماذج الذهنية. وهذا التيار يهيمن في العمليات التعليمية وفي مجال المعلوميات بصفة عامة. بين هذين التيارين مواقف قرائية وتأويلية متعددة؛ مثل السيميائيات والدليليات والتأويليات، تستفيد من التفكيكيات حينًا، ومن المعرفيات حينًا آخر، ومن نظرية الكوارث، ونظرية العماء حينًا ثالثًا.
لقد انطلقنا من استنتاج هو أن هناك ثلاث بنيات مندغمة يتمحور حولها أي نص: بنية فوق إنسانية، وبنية إنسانية، وبنية طبيعية. وهذا الاستنتاج لم يوضع وضعًا، وإنما استُنبط من النصوص نفسها بعد عناء القراءة والتأويل، وتجميع الأشباه والنظائر. حقًّا، إن الشعر المعاصر يوحي بموت الطرق التقليدية في الإبداع، وفي القراءة والتأويل معًا؛ إذ قلما يكون عنوان القصيدة دالًّا على مضمونها ودلالاتها، وقلما يكون المعجم حقولًا دلالية منسجمة؛ وإنما تكون هناك مفردات مبعثرة ومبددة تجعل الموضوعات تتداخل وتتراكم؛ إلَّا أن من يريد أن يستخلص النظام من الفوضى، وأن يضفي على الظواهر صفات المعقولية، فلابد له أن يوظف الآليات المؤدية إلى النظام والانتظام والمعقولية، وأن لا يكتفي بشعار موت الاستقراء والاستنباط؛ فإذا كان هذا الشعار يريح من عناء التفكير والتدبير، فإنه لن يقدم البحث العلمي، وينمي الرغبة في الكشف عما وراء الظاهر، ولن يتجاوز لذة القراءة إلى لذة التنظير.
(ب) إستراتيجيات التأويـل: تجنبًا لما يطرحه الاستقراء والاستنباط من حمولة منطقية، فإننا سنتجنب استعمالهما، ونستبدل بهما تسميات أخرى شائعة في علم النفس المعرفي والذكاء الاصطناعي؛ وهي الإستراتيجية التصاعدية، والإستراتيجية التنازلية؛ ويضاف إليهما الإستراتيجية الاستكشافية، والإستراتيجية التقييسية.
1 – الإستراتيجية التصاعدية: تبتدئ هذه الإستراتيجية من فهم الكلمات والجملة، ثم إلى فهم جملة أخرى تليها، ثم ربط الجمل بعضها ببعض إلى نهاية النص. وقد توظف هذه الإستراتيجية في فهم القصيدة الواحدة، ثم قد تتخذ هذه القصيدة بمثابة الكلمة أو الجملة تفسر في ضوئها القصيدة والقصائد الأخرى؛ أي اعتبار الديوان كله نصًّا شعريًّا، وهو كذلك.
في ضوء هذه الإستراتيجية، يمكن قراءة قصائد ديوان “إنها تومئ لي” مبتدئين بالأولى، فإلى ما يليها. والقصيدة الأولى تتحدث عن الصرخة التي هي بمثابة كائن طائر رامز للهلاك. ودلالة الهلاك أكدتها قصيدة “قتيلا”، ثم “تهمي”…
2 – الإستراتيجية التنازلية: تبعًا لتعبير قصائد ديوان “إنها تومئ لي” عن “الهلاك” و”الموت” وما رادفهما، فإن أية قصيدة منه نعتبرها تدل على هذه “الموضوعة” وعناصرها؛ أي إننا نستعمل الإستراتيجية التنازلية باعتماد على المعارف المخزنة في ذاكرتنا. ومفاهيم علم النفس المعرفي اقترحت لهذه الإستراتيجية مفاهيم عديدة، مثل الأطر والمدونات والخطاطات والنماذج الذهنية؛ ويمكن التدليل على نجاعة هذه الإستراتيجية بأية قصيدة من الديوان المذكور دون سابق اختيار. وهكذا، فإن قصيدة “أرق” تتكلم عن “الطيور” و”الصقر”؛ ونذكر أن قصيدة “صرخة” تتحدث عن طائر؛ فهما – إذن – تشتركان في هذه الموضوعة على الأقل؛ ويفترض هذا الاشتراك في باقي قصائد الديوان.
3– الإستراتيجية التقييسية: بيد أن الإستراتيجية التصاعدية إذا كانت مكلفة في فهم قصيدة ما، فإنه يمكن التخلي عنها؛ وبالتخلي عنها لا يمكن أن تستجمع عناصر ثابتة تكون أساسًا لانطلاق الإستراتيجية التنازلية؛ ومن ثم يجب اللجوء حينئذٍ إلى الإستراتيجية التقييسية. وتعني هذه الإستراتيجية توظيف ما هو معلوم لفهم ما هو مجهول، والخبرات السابقة لفهم الأوضاع المستجدة.
يمكن التمثيل لها بقصيدة “برئ“. ليس في هذه القصيدة ذكر لأي طائر، ولكنها مادامت تنتمي إلى النص نفسه، ومادامت هناك خبرة في تحليل قصائد من النص نفسه، وهي قصائد تحتوي على بنيات إنسانية وطبيعية ومتسامية، فإن هذه القصيدة تقاس – لفهمها – على القصائد السابقة. وهذا التقييس ليس خاطئًا؛ إذ هناك عناصر كثيرة جامعة بينها وبين غيرها من القصائد في نص الديوان، وهي الحديث عن الإنسان، والمائع، والنبات، والزمان.
بيد أن هذه العملية التقييسية تكون سهلةً حينما تنتمي القصيدة إلى النص نفسه، ولكنها تصير صعبةً إذا كانت القصائد من نصوص مختلفة؛ إلَّا أن هذه الصعوبة يمكن التغلب عليها باعتبار نصوص الشاعر جميعها نصًّا واحدًا. وهكذا، مادامت هذه الإستراتيجية مؤسسةً على ما عُلم. وعليه، فإذا ما تعسر على قارئٍ ما فهم قصائد “هكذا قُلتُ للهاوية“، فإنه يمكن أن يستثمر تجاربه التي اكتسبها من قراءة “وردة الفوضى الجميلة“، ومن “إنها تومئ لي“، أو من تجاربه مع الشعر المعاصر أو الشعر بصفة عامة لحل مشكلة.
الإستراتيجية الاستكشافية: إلّا أن القياس يبقى مجرد قياس. فهو إذا كان يجمع بين الأشباه والنظائر، فإنه يبعد عناصر من المقيس أو المقيس عليه؛ وقارئ النص مطالب بأن يتعرف الاختلافات أيضًا. وقد تكون هذه الاختلافات هي جوهر النص. كما أن المقياس قد يكون سطحيًّا، وقد يكون خاطئًا. لذلك، لا مفر من اللجوء إلى الإستراتيجية الاستكشافية، ولعلها مطلوبة للولوج إلى عالم الشعر المعاصر. قد يكون من الحيف اقتصار القارئ أو المؤول على التقييس لإدراك أبعاد قصائد “هكذا قُلتُ للهاوية“؛ حقًّا، إنها تشترك مع غيرها في البنيات وفي الموضوعة العامة، ولكن لها خصوصيات واحتمالات يجب الكشف عنها والاهتداء إليها، والترجيح بين تلك الاحتمالات؛ ومع ذلك، فيمكن اعتبار الإستراتيجية التقييسية بمثابة فروض للإستراتيجية الاستكشافية.
الإستراتيجية الاستلزامية: تلك إستراتيجيات أربع: اثنتان تشتركان فيما يمكن أن نسميه بالإستراتيجية الاستلزامية، ونقصد بها أن فهم النص يستلزم فهم جملة، وفهم جملة يستلزم جملة سابقة، وفهم الجملة يستلزم فهم الكلمة؛والإستراتيجيتان هما التصاعدية والاستكشافية. وقد فرَّقنا بين الإستراتيجيتين باعتبار أن التصاعدية تتعلق بما وضح من الكلام أو غمض، في حين أن الاستكشافية خاصة بالنصوص المحتملة.
الإستراتيجية الاستنباطية: وأما الاثنتان الأخريان، أي التنازلية والتقييسية، فإنهما تشتركان في الإستراتيجية الاستنباطية، إذ يشترك كل منهما في توظيف ما يُعرف لإدراك ما يُجهل، أو وضع أوضاع وإرجاع النصوص إليها؛ مثل وضعنا للبنيات الثلاث، وجعلها متحكمةً في النصوص الشعرية.
(ج) درجات التأويل: إن ما هدفنا إليه من وضع مفاهيم تثبت علائق القصائد الشعرية، ومفاهيم ترصد درجات معاني النص، ومفاهيم تضبط إستراتيجيات القراءة، هو أن نستخرج الدلالة العامة للنص؛ وهذه الدلالة العامة سنفترح تسميتها بـ”القلب”، قلب المعاني السائدة، وقلب القيم المتداولة، وقلب تراتب جُمل القصيدة؛ إلَّا أن هذا القلب درجات، وباعتبار تدرجه فإننا سنقترح مفاهيم خاصة بدرجاته “المنطقية”، ومفاهيم متعلقة بالدرجات الدلالية.
1 – الدرجات “المنطقيَّـة”: تتبنَّى المنهجيات السيميائية الحديثة علاقات منطقية إنسانية، وهي علاقات تناولها الباحثون من حيث انتمائها، ومن حيث عددها، ومن حيث أدوارها. وما يهمنا نحن هو أن نوظفها في النص الشعري، وأن نجعلها تقوم بأدوار”طبيعية”. وهذا التوظيف الدينامي اضطرنا إلى بعض التعديل لقانونيتها؛ والعلائق هي:
- ما فوق التناقـض: ونفترض أنها تكون بين تيارين ثقافيين متناقضين. فالشعر المعاصر، خصوصًا الشعر المنتمي إلى ما بعدالحداثة، قلَب أو نقض كل القيم والمعاني المتداولة في أشعار من سبقوه، حتى إذا كانت قيم ومعاني الشعراء الرومانسيين.
- التناقـض: ولكن هناك درجة أقل من “ما فوق التناقض”، هي التناقض؛ وهو يتجلى على مستوى الفقرة ومستوى الجمل ومستوى المفردات. ومن الأمثلة التي يمكن أن تتخذ مثلًا للتناقض قصيدة “لي” من ديوان “إنها تومئ لي“، حيث يقع التناقض بين: الليل- الصباح. تقول القصيدة:
فِي اللَّيْلِ
يَنْبُتُ لِي جَنَاحٌ مِن غُبَار.
……………
وَفِي الصَّبَاح
أبْتَنِي بَيْتَ الفَرَار.
كما يوجد تناقض بين الصباح / المساء، في قصيدة “نهاية”:
كُنْتُ فِي الصَّبَاحِ حَجَرًا،
أو شَجَرَة.
………………
وَفِي المَسَاءِ:
أقْتَفِي نِهَايَتِي المُنْتَظرَة.
وأما التناقض على مستوى الجمل، فهو متعدد، نمثل له بما ورد في قصيدة “التقاء”:
يَلْتَقِيان
لاَ يَلْتَقِيَان.
وأكثر منه ما يحدث من تناقض بين المفردات.
ج) التضـاد: نقصد به أن طرفين يشتركان في بعض الصفات، ويختلفان في أخرى. وإذا كان الأمر هكذا، فإن كل جملة أو قصيدة تتضاد مع أخرى. وينتج عن القصد الذي توخيناه أن هناك تكاملًا بين الطرفين (طرف + طرف)، أو أن هناك رفعًا للطرفين. في ضوء هذه التكاملية، يجب أن ينظر إلى الجمل وإلى القصائد. وإذ إنهمن السهل الإتيان بأمثلة، فإننا سنكتفي ببعض الأبيات:
وَخَلْفِي قُطْعَانٌ تُرَتِّلُ أوْرَادَهَا الشَّجِيَّة
خَلْفِي أشْجَارُ أُفُولٍ تُثْمِرُ النُّعَاسَ وَالبُكَاء.
د) شبه التضـاد: وهناك علاقة أخرى غير علاقة التكامل أو الرفع، تلك هي علاقة الشوب، وتدعى اصطلاحًا بـ”شبه التضاد”، وتعني الشوب بين طرفين، أو الامتزاج بينهما، وقد تؤدي إليه الطبيعة أو الثقافة. فمما تؤدي إليه الطبيعة الاحتضار الذي يكون فيه الكائن الحي بين الممات والمحيا.. او تؤدي إليه الثقافة، مثل الجمع بين البياض والسواد. ويسود الشوب والخلط والامتزاج في الأوضاع الموفقة والغامضة. وقد ألمحت كثير منقصائد ديوان “إنها تومئ لي” إلى هذا الوضع؛ جاء في قصيدة “تأويل”:
بُرْهَةٌ غَامِضَة.
مِسَاحَةٌ مَنْذُورَةٌ لِلْغَامِضِ الرَّمَادِي.
هــ) الانتماء إلى التناقض: ونعني به ما كان معناه أدخل في “التناقض” من غيره من الحدود. وإذا كان “التناقض” من أقوى درجات القلب، فإن ما ينتمي إليه يحتوي على نسبة كبيرة منه. يمكن أن نتخذ أمثلةً له من قلب تعابير معينة، أو قلب بعض مكوناتها. وبطبيعة الحال، فإن التعابير المقلوبة تكون سابقةً على القالبة. جاء في “هكذا قُلتُ للهاوية“:
هَكَذَا
قُلْتُ لِلْهَاوِيَة انْفَتِحِي لِي،
وَامْنَحِينِي خُيُولَكِ الذَّهَبِيَّةَ،
وَاتَّسِعِي لِي
…………………
هَكَذَا
قُلْتُ لِلْهَاوِيَةِ اتَّسِعِي لِي،
وَامْنَحِينِي خُيُولَكِ الذَّهَبِيَّةَ،
وَاتْرُكِينِي فِي العَرَاء.
مثال آخر: أمشِي خُطوَاتٍ مِن نِسْيَان.
لاَ يَصْحَبُنِي أحَد: أرْفُسُه إلَى وَرَاء.
وَأُشْعِلُ النَّارَ فِي المَسَافَاتِ السَّابِقَة.
…………………………
لاَ بَأسَ– إذَن – أن أُشْعَلَ النَّارَ فِي الأغْصَان،
وَأمشِي خُطوَاتٍ مِن نِسيَان.
و) الانتماء إلى التضـاد: وهو ما يكون معناه أدخل في “التضاد”، لكنه أقل درجةً من “الانتماء إلى التناقض” من حيث قوة المبنى والمعنى، مع أنه يعتمد على آلية القلب نفسها؛ ومثاله: قُلْتُ لَهَا: أنتِ هُوَّة
وأنَا حَجَر
…………………
أنتِ هُوَّة
أنَا طَلْقَةٌ عَابِرَة.
ومثال آخر: أقْتَفِي ظِلِّي عَلَى مِيَاهِ النُّعَاس
عَلَى مِيَاهِ النُّعَاسِ أقْتَفِي أثَرِي
2 – الدرجات الدلالية: تلك علائق منطقية “ضبابية” اقترحناها على النص الشعري فتقبلها؛ وهي ما فوق التناقض، والتناقض، والتضاد، وشبه التضاد، والانتماء إلى التناقض، والانتماء إلى التضاد، وقد اقترحنا ما يضاهيها من درجات معنوية، وهي:
- الاحتقـار: إن ما يهيمن على الشعر العربي المعاصر هو احتقاره غيره: احتقار الفاعلين والإيديولوجيات والشعارات، وكل ما أدى إلى الهاوية؛ أي احتقار لثقافة كاملة شاملة. والأمر أوضح من أن يمثل له.
- الاستصغـار: ولكن إذا كان الاحتقار عامًّا شاملًا، فإن هناك درجةً أقل منه، هي “الاستصغار”؛ إذ هو متعلق ببعض الفاعلين المجتمعين، وببعض الممارسات الفكرية: “الثِّيرَان اللَّيْلِيَّة”، “الكِلاَب السَّعْرَانَة”، “الملْتَصِقُونَ بِحِذَاءِ المُؤَسَّسَة”؛ ولعل ديوان “هكذا قُلتُ للهاوية” يحتوي منه حظوظًا وافرة.
ج) الاستهـزاء: إلاَّ أن هناك مقطوعات وأسطرًا وجُملًا تكون أقل حدةً من الاستصغار؛ وهذه الدرجة من القلب دعوناها بـ”الاستهزاء”؛ وأمثلته كثيرة؛ منها:
وَأعبُرُ الأطْلاَلَ وَالرُّكَامَ مَرِحًا:
– عِمْتُم مَسَاءً أجْمَلَ الفُرْسَان
أيْنَ رَاحَت خُيُولُكُم الشَّاهِقَة؟
يَا لَهَا مِن ذِئَابٍ عَارِمَة.
د) السخريـة: كما أن “الاستهزاء” قد تقل حدته فيتحول إلى “سخرية”. ومع افتراضنا لترتيب السخرية هذا، فإنها هي الأكثر على مستوى التعابير الشعرية المعاصرة؛ إذ لا يكاد تعبير يخلو منها، ولكنها تحصل في مستوى التعابير الجزئية، لا على مستوى المقاطع أو الرؤى؛ ومن أمثلتها:
حَجَرٌ مِن المَاءِ اللَّذِيذ
حَقْلٌ مِن السَّهر
مَرْأةٌ مِن حجَر
وَرْدَةُ الخَطَر
إنها تعابير جمعت بين مقولات لغوية مختلفة وحقول دلالية متعددة؛ فارتكبت قلبًا في الأعراف اللغوية والدلالية والقيمية. وقد تنبه قدماؤنا إلى مثل هذا فأسموه بـ “الاستعارة التهكمية”، وأتوا لها بأمثلة: (فبشرهم بعذاب أليم)، و(ذق إنك أنت العزيز الكريم).
هــ) الهـزل: وقد تتدانى درجة السخرية فتصير هزلًا جامعًا بين ما هو جدي وما هو لعبي، كالتعبيرات التي هي من هذا القبيل:
يَمْشِي مَرحًا يُغَنِّي لِلْخَسَارَاتِ القَادِمَة.
يُصَفِّرُ النَّشِيدَ الوَطَنِي
وَهوَ سَادِرٌ فِي النَّشِيد
هَاهُم المُلُوكُ الغَابِرُون جَاءُوا فِي العَرَبَاتِ الذَّهَبِيَّةِ ذَاتِ الأجْرَاسِ بَعْدَ
أن ذَهَبُوا حُفَاةً عُرَاةً مَنْبُوذِين.
و) الدُّعابـة: وقد يمزج الشاعر بين الهزل والاستهزاء، مع قسط وافر من الهزل، فيكون أقرب إلى السخرية. وقد يأخذ حظًّا مهمًّا من الاستهزاء فيكون المعنى أقرب إلى الاستصغار، ولكن غالبًا ما يتمم المزج بين الطرفين فينتج معنًى مشوبًا مزيجًا من السخرية والهزل، مكتسبًا كيانًا خاصًّا، وسندعوه بـ”الدعابة”. والشعر العربي ملئ بها، وكذلك الشعر المعاصر. يتبين مما تقدم أن ما يهيمن على دلالة الشعر العربي المعاصر هو هذه الرؤيا القدحية الشاملة ذات الدرجات المختلفة، وهي رؤيا لا يدل عليها المضمون وحده، ولكن الشكل يرسم قسماتها أيضًا.
3 – الدَّال: إن الشكل دال على مدلوله، وهما قصديان في الشعر عمومًا، وفي الشعر المعاصر خصوصًا؛ إذ القصائد أيقونات ومؤشرات ورموز تصير أيقونات بدرجةٍ ما؛ وإن قارئ دواوين “وردة الفوضى الجميلة” و”إنها تومئ لي” و”هكذا قُلتُ للهاوية” يلفت انتباهه شكل إخراج القصائد، ومهما كانت وراء الإخراج ضرورات الطبع، وأيدٍ وأفكار غير يَدَي الشاعر وفكره، فإن القارئ لا يعبأ بذلك، و”يقتل” الشاعر والمخرج، ولا يكترث بالضرورات المتعددة، وينظر في النص على ما هو عليه ليؤول دوالَّه. لحسن الحظ، فإن الدال يتحدث أحيانًا عن نفسه، فيصف نفسه بـ”الفوضى الجميلة”، أو بـ”الإيماء”، أو بـ”الهاوية”. وقد ورد فيه ذات مرة:
مَتَاهَةٌ
مسْكُونَةٌ
بِالغَامِضِ المُضِئ.
وهذه الازدواجية هي التي تحكم النص الشعري على مستوى الشكل أيضًا، فهو يكون أحيانًا منظَّمًا، ويكون أحيانًا أخرى مشتتًا، ويكون منتظمًا تارةً، ويكون مبدَّدًا تارةً أخرى، وقد يكون عبارةً عن عماء، ولكن يمكن استخلاص نظام من ذلك العماء.
(أ) البياض / السَّواد: تتجلَّى هذه الازدواجية في البياض والسواد، وفي التفاوت بين طول الأسطر وقصرها، وبين دقة الحرف وغلظه. وسنركز على جدلية البياض والسواد؛ وجريًا على عادتنا، فإننا سنضع مفاهيم لضبط هذه الجدلية، والمفاهيم هو السواد الكبَّار، والسواد الأكبر، والسواد الكبير، والسواد الصغير، والسواد الأصغر، والسواد الصغَّار. ويقابلها البياض الكبَّار، والبياض الأكبر، والبياض الكبير، والبياض الصغير، والبياض الأصغر والبياض الصغَّار.
نقصد بالسواد الكبَّار السطر الذي يتجاوز ست كلمات، وأما ما كان خمس فأكبر، وأربع فكبير، وثلاث فصغير، واثنتان فأصغر، وواحدة فصغَّار. وإن الأمر بعكس ذلك في البياض، فالسطر الذي فيه كلمة واحدة يهيمن فيه البياض الكبَّار، والذي فيه اثنتان يسيطر فيه البياض الأكبر، والذي فيه ثلاث كلمات البياض الكبير، والذي فيه أربع كلمات البياض الصغير، والذي فيه خمس كلمات البياض الأصغر، والذي فيه ست كلمات البياض الصغَّار. ويمكن التمثيل لكل ما سبق بقصيدة “قتيلا“:
عَلَى خَاصِرَةِ الأرْضِ، أمْضِي
جَمِيلاَ.
كَفَّـاي: فَارِغَتَان.
قَلْبِي: شَاسِعٌ لِلطَّعْنَةِ المُفَاجِئَة.
فَكُلُّ شَيْءٍ يُشْبِهُ الشَّبَقَ المُرَاوِغَ: لِي.
وَلِي: شَجَرٌ أُعَلِّمُه الكِتَابَةَ وَالغِنَاء.
ثُم
أمْضِي عَنْه
– عَلَى خَاصِرَةِ الأرْض –
قَتِيلاَ.
ولعل الديوان الذي يمثل جدلية البياض والسواد هو “هكذا قُلتُ للهاوية“؛ إذ تبتدئ القصيدة الأولى فيه بكلمة واحدة فكلمة واحدة أخرى، ثم تتوالى الجُمل الشعرية يفصل بين بعضها وبعض بياض، ثم يعيد الكلمة الثانية المنطلق منها:
قَتَلُوني،
فَانْفَرَطْت:
قِطَارَاتٌ تَعْوِي………………
…………………………….
…………………………….
وَانْفَرَطْت
ثم يأتي بعد هذا جُمل قصيرة مكتوبة بخط غليظ، وكأنها عبارة عن خلاصة مركزة:
تِلْكَ آيَتِي
وَلاَ غُفْرَان
وقصائد هذا الديوان مليئة بهذه التقنية؛ أي البداية بكلمة واحدة ثم تنفرط الجمل الشعرية، ثم يأتي التركيز في فضاء ضيق، ثم يتلوه انفراط، ثم يردفه انكماش وتركيز. وهكذا في تناوب مستمر.
وقد قلنا: إن القصائد تكشف عن مضمونها وشكلها، وقد قدمنا أمثلةً، وها نحن الآن نأتي بمثال آخر؛ تقول قصيدة “مسافة”، من ديوان “إنها تومئ لي“:
مَسَافَةٌ شَائِكَة:
دَمٌ، وَصَدِيدٌ، كِسْرَةٌ حَامِضَةٌ مِن سَمَاءٍ، جِنِّيَّةٌ تعْدُو عَلَى مَاءٍ،
وَأسْرَابُ الوَسَاوِسِ تَكْسِرُ النِّسْيَانَ، فِي المَاضِي سَتَتَّسِعُ اللَّيَالِي…
…………………………………….
…………………………………….
دُخَانٌ جَرِيء.
هكذا وظف الشاعر دال البياض والسواد، ودال الطول والقصر، ودال الدقة والغلظ. كما أنه وظف التشتت والانتظام على مستوى الجُمل ومستوى المفردات ومستوى الأصوات؛ وأغلب قصائد الشاعر محكومة بهذه الثنائية؛ فقد تناوبت هذه المظاهر في “وردة الفوضى الجميلة“، وجاءت بعد القصائد والمقطوعات في “إنها تومئ لي“، شذرات “مرأة الظل.. مرأة.. لي”، وتلت القصائد المتراكمة في “هكذا قُلتُ للهاوية” أسطر نحيفة أو غليظة، وجاء على إثر تبعثر الأصوات تجميعها، كما هو الشأن في المثالين التاليين:
مثال أول: وَلاَ لِي طَلَلٌ طَائِلٌ أطْوِيه فِي طَيَّاتِ طَاعَتِي الوَطِيئَة.
مثال ثانٍ:
وَأرْمِي لَكُم قَافِيَةً سَهْلَةَ الهَضْمِ وَأسْتَلُّ سِينِيَّةً سُمًّا وَسَيْفًا وَسَوْطًا وَسَهْمًا لأَسُومَكُم سُوئِي وَسَيِّئَاتِي أُوَسْوِسُ لَكُم وَأسُوسُكُم بِسُخْطِي فتَسْتَسْلِمُونَ لِي سنَةً مِن سُهَادٍ أو نُعَاس. |
(ب) التوازي / اللاتوازي: قد يكون من الغريب الحديث عن التوازي في النصوص الشعرية المعاصرة التي تظهر مشتتةً أو مبعثرةً أو متراكمة بعضها فوق بعض، وخصوصًا إذا ما أخذنا في الاعتبار التعريف الشائع للتوازي؛ أي تشابه البنيات واختلاف في المعاني. ولكن علينا أن لا ننخدع بالظاهرة، وأن نبحث عن النظام والانتظام في الفوضى والتشتت، وتجلياتها في التوازي وفي اللاتوازي. وللجمع بينهما علينا أن لا نأخذ مفهوم التوازي بالاعتبار المتقدم، وإنما علينا أن نقترح مفاهيم متدرجةً؛ وهذه المفاهيم هي التوازي الظاهر، والتوازي الخفي.
1 – التوازي الظاهر:
نقصد به التوازي الذي نراه بأعيننا في فضاء الصفحة. وسنحدده بأنه ما تكافأت بنيته ومعناه تكافؤًا كليًّا أو جزئيًّا. ان هذا التحديد يحتم التدريج والترتيب.
التوازي “المتطابـق”: وهو ما “تطابقت” بنيته ومعناه من جهة النظر البصري، وأما من جهة النظر الفكري والواقعي، فإن التطابق عسير المنال وعزيز الوجود؛ ومن أمثلته:
– عَلَى خَاصِرَةِ الأرْضِ
– عَلَى خَاصِرَةِ الأرْض
…………………..
– أهُشُّهَا
– أهُشُّهَا
……………………
– قَطْرَةً
– فَقَطْرَة
…………………….
– أنْتَظِر
– فَأنْتَظِر
(ب) التوازي المتماثل:
وهو ما تماثلت بنيته واختلف بعض معناه؛ مثل:
– تحُطُّ فَوْقَ شَعْرِي
– تَحُطُّ فِي قَلْبِي
…………………
– صَفْصَافُهَا يَمُوءُ فِي جَسَدِي
– صَفْصَافُهَا يَغُوصُ فِي صَدْرِي
……………………
– وَلِي– فِي كُلِّ آنٍ– جَلْوَةٌ
– وَلِي– فِي كُلِّ آنٍ– صَبْوَةٌ
(ج) التوازي المتشابه: وهو ما اختلفت بعض بنيته وبعض معناه؛ مثل:
– كُنْتُ ألْهُو بِرَمَادِ الوَقْتِ وَقْتًا.
– وَألْهُو فِي سَمَاءٍ مِن هَشِيم.
– طَائِرٌ مِن الهُرُوبِ وَالكَلاَم.
– طَائِرٌ مِن الفخَّارِ يَهْوِي مِن سَمَاءٍ مُرَّة …
(د) التوازي المتشاكه: وهو ما اختلف في كثير من بنيته، وفي كثير من معناه؛ مثل:
– بَيْنَنَا احْتِضَارٌ مُرْجَأ
– بَيْنَنا عَصْفٌ وَبِيل
…………………..
– تَأوِي إلَى جَسَدِي طُيُورُ البَحْر …….
– تَرْتَوِي البِحَارُ مِن دَمِي
(ه) التوازي المتشاكل:
وهو ما اختلفت بنيته واتفق في بعض معناه؛ وهو كثير جدًّا، إذ يمكن التعبير عن معنًى واحد بأشكال مختلفة؛ ومثاله:
– خِنْجَرٌ يَرِفُّ – فِي الهَوَاءِ رَفَّتَيْن.
– يَهْوِي عَلَى سَهْوِي.
……………………………..
– تَأوِي إلَى جَسَدِي طُيُورُ البَحْر، وَالصَّبَايَا.
(و) التوازي المتضاهي:
وهو ما اختلفت بنيته ومعناه، وهو عزيز ونادر إذا التُمس ضمن القصيدة الواحدة، أو النص الواحد؛ ونعني به ما كانتت فيه درجة ضئيلة من التكافؤ؛ مثل:
– كَفُّهَا فِي كَفِّي اليُمْنَى
– وَسَمَاءٌ تُمْطِرُ الأرَقَ النَّحِيل
………………………..
فَكَيفَ شَبَّ بَيْنَ كَفَّيْنَا
نَخِيلٌ مِن عَوِيل.
تلك هي درجات التوازي الظواهر؛ وهي التوازي المتطابق، والتوازي المتماثل، والتوازي المتشابه، والتوازي المتشاكه، والتوازي المتشاكل، والتوازي المتضاهي. وهذا التدريج يؤكد جدلية النظام والفوضى، والانتظام والتشتت في الخطاب الشعري. فما يضمن النظام والانتظام هو وجود درجة ما من التكافؤ، وغير وجود تكافؤ حق يوحي بشيء من الفوضى؛ إلَّا أن التكافؤ قد يبرز إذا التجأنا إلى التقديم أو التأخير أو التقدير، وحينئذ لا تراعى الخطية، أو تُزال اللاخطية. ولنضرب بذلك ثلاثة أمثلة:
- صَرْخَةٌ تَحُطُّ – فِي الصَّبَاحِ – فَوْقَ شُبَّاكِي
(صَرْخَة) تحُطُّ ( – فِي الصَّبَاحِ – ) فَوْقَ شَعْرِي
(صَرْخَة) تَحُطُّ ( – فِي الصَّبَاح – ) فِي قَلْبِي
أهُشُّهَا
أهُشُّهَا
أقُول
- قَطْرَةٌ مِن الصَّمْتِ تَفْصِلُ بَيْنَ نَافِذَتَيْن عَلَى هَاوِيَة
وَهَاوِيَةٌ مِن اخْتِلاَفِ الوَقْتِ تَفْصِلُ بَيْنَ سَمَاءَيْن عَلَى جُثَّةٍ عَارِيَة
وَجُثَّةٌ مِن اشْتِعَالِ الوَقْتِ تَفْصِلُ بَيْنَ مُنْتَظِرَيْن عَلَى مَقْبَرَةٍ خَالِيَة.
يَلْتَقِيَان.
لاَ يَلْتَقِيَان.
- وهذا مثال أزيلت خطيته بإعادة كتابته:
قِطَارَاتٌ تَعْوِي
قَبَائِلٌ مُدَجَّجَة
جَرَّةٌ مَقْلُوبَة
2 – التوازي الخفي: إلاَّ أن رؤية العين غير كافية لإثبات توازي تحليل الخطاب الشعري، ولذلك لا بدمن إعمال عين الفكر أيضًا، وإعمال هذه العين يحتم تجاوز ما هو ظاهر إلى ما هو خفي، وما هو سطحي إلى ما هو عميق، حتى يمكن إثبات النظام والانتظام الكامن وراء بنية الشعر المعاصر المعقدة. ولاكتشاف الخيط الناظم العميق، فإننا نقترح بنيةً مجردة تتكون من ستة مكونات؛ وعناصر البنية هي: المنفذ، والمعاني، والآلة، والمصدر، والهدف، والزمكان. وبحسب الدرجة التي تتحقق بها البنية يمنح لها اسم؛ وهكذا، إذا احتوت بنية ما على العناصر الستة، فهي تواز خفي متطابق، وإلَّا فهي تواز خفي متماثل، أو تواز خفي متشابه، أو تواز خفي متشاكه، أو تواز خفي متشاكل، أو تواز خفي متضاه، ولنوضح هذا بمثال قصيدة “دوني” من ديوان “إنها تومئ لي“؛ تقول القصيدة:
- رِيَاحٌ تَكْنُسُ الشَّارِعَ مِن بَقَايَا العَابِرِين
- لَم أكُن وحْدِي
- نُبَاحٌ مَارِقُ فِي اللَّيْلِ يَحْتَمِي بِالسَّيْسَبَان
- لَم أكُن وَحْدِي
- جِرَاحٌ تَتَّكِي عَلَى مَسَاءٍ بَارِد
- وَلَم أكُن وَحْدِي
- فَظِلِّي كَانَ يَتْبَعُنِي كَشَيْطَانٍ رَجِيم
- ثُم
- يَسْبِقُنِي إلَى الحَانَة
- يَحْتَسِي دُونِي،
- يتْرُكُنِي إلَى وَقْتِ الحِسَاب.
المنفذ |
المعاني | الآلة | المصدر | الهدف | الزمكان | نوع التوازي | |
1 | الرياح | الشاعر | الرياح | الرياح | بقايا العابرين | الليل | تواز خفي مطابق |
2 | وحدي | متضاه | |||||
3 | النباح | السيسبان | في الليل | متشاكه | |||
4 | وحدي | متضاه | |||||
5 | براح | على مساء | على مساء | متشاكه | |||
6 | وحدي | متضاه | |||||
7 | ظلي شيطان رجيم | الشاعر | متشاكه | ||||
8 | تواصل | ||||||
9 | الظل | الشاعر | الحانة | متشابه | |||
10 | الظل | الشاعر | الحانة | متشابه | |||
11 | الظل | الشاعر | وقت الحساب | متشابه |
يتضح من هذا المثال: أنه يمكن إدماج بعض الحالات في بعضها البعض. وتبعًا لذلك، فإن الحالات الأساسية هي المنفذ والمعاني والزمكان، ولكن عددتُ الحالات حتى يمكن وصف مجمل الوقائع اللغوية.
- أن أغلب درجات التوازي موجودة في هذه القصيدة، وأن أي سطر لم يخل من حالة معينة، مما يؤكد العلاقة بين الأسطر على المستوى العميق؛ وهذه العلاقة هي النظام الذي وراء الفوضى والانقطاعات والتشتتات.
- أن “حالة” بنية تقوم بالصلة بين الأسطر والحالات، وتبعًا لوظيفتها منحت اسم “تواصل”.
- تكامل مفهوم التوازيين: قد يلاحظ القارئ وجود تطابق بين مفاهيم التوازي الظاهر ومفاهيم التوازي الخفي، ولكن هذا التطابق ليس من كل الجهات. فلو كان من كل الجهات لكان التقسيم باطلًا، ولكنه تطابق من بعض الجهات دون غيرها؛ إذ هناك اختلاف في الوظيفة المسندة إلى مفاهيم التوازي الظاهر عن الوظيفة المسندة إلى مفاهيم التوازي الخفي. ذلك أن المفاهيم الأولى ترصد ما ظهر من تواز باعتماد على حاسة البصر والسمع والفؤاد، إلا أن هذه الحواس والملكات قد لا تحيط بتصنيف كل الظواهر التعبيرية؛ فتبقى متبقيات. وأما المفاهيم الثانية المستندة إلى عين الفكر، فتذهب إلى ما هو أعمق، وإلى ما هو أكثر تجريدًا، فتتدبر أمر المتبقيات؛ إلا أن الحالات القليلة تتغلب عليها اللغة الطبيعية الملتبسة والمحتملة، فتتداخل؛ مما يصعب ترجيح إحداها على الأخرى. ومع كل ذلك، فإن مفاهيم التوازي الخفي ليست إلا وجهين لعملة واحدة: هذه العملة هي إثبات النظام والانتظام واستخلاصهما من اللانظام والفوضى.
4 – التدلال المرجعـي:
(أ) قصدية التدلال: إذن، هناك نظام وانتظام وراء ما يظهر أنه نظام وفوضى على مستوى الدال، كما يبين ذلك مفهوم: التوازي/اللاتوازي؛ وأن هناك نظامًا وانتظامًا وراء ما يظهر أنه لانظام وفوضى على مستوى الدليل؛ كما أوضح ذلك مفهوم: التعالق الخطي/ التعالق اللاخطي؛ كما أن هناك نظامًا وانتظامًا على مستوى المدلول، كما بين ذلك مفهوم: الدرجات المنطقية/ الدرجات المعنوية. وهذا النظام والانتظام يعنيان وجود تدلال معنوي؛ وهو أمر لا شك فيه. ولذلك علينا أن نجاوزه إلى البحث عن التدلال المرجعي.
إن الكشف عن تدلال مرجعي يحتم علينا افتراض قصدية الخطاب الشعري؛ أي أن علاقته بمرجعيته علاقة ضرورية وطبيعية وليست اعتباطية؛ ومع ذلك، فإننا سندقق – في هذه العلاقة – بوضع مفاهيم متدرجة؛ وهذه المفاهيم هي الأيقون المتطابق، والأيقون المتماثل، والأيقون المتشابه، والتعالق، والتعاقد والتواطؤ.
(ب) أيقونية التدلال:
1 – الأيقون “المتطابق: تكون العلاقة في الأيقون المتطابق مؤسسةً على تطابق البنيتين، بعضهما مع بعض؛ أي أن عناصر النص متطابقة مع عناصر البنيات المرجعية. وقد وضحنا من قبل أن هناك بنيات ثلاثًا: بنية متسامية على البشر، وبنية إنسانية تتجلى في الحياة وفي الممات وفي اللغة وفي التدين وفي الملكية، وفي بقايا الحاجات الأخرى من أولية وثانوية، وبنية طبيعية تتجلى في الحيوانات وفي النبات وفي المائعات وفي الجمادات. وتطبيقًا لذلك الوضع، فإن القصائد لن تأتي إلا متطابقةً مع هذه البنيات، أو فلنقل: إنها تحاكيها محاكاةً تامة؛ ومن ثمة تأتي البنيات اللالغوية منعكسة في البنيات اللغوية؛ إذ هذه مرآتها، كما أن تلك مرآة هذه؛ أي إنه انعكاس متبادل.
2 – الأيقون المتماثل: إلا أن هذا التطابق ليس خاصًّا بالنص الشعري، وإنما هو ينعكس في كل نص؛ وأي نص لا يستطيع التعبير – بإحاطة – عن كل تلك البنيات، وإنما يعبر عن كثير منها أو عن بعضها. وإذا كان النص الشعري ذا طبيعة خاصة، فإن له أدواته التعبيرية المميزة. ولذلك سنطلق على تمثيلات النص الشعري “الأيقون المتماثل”. ومن طرق التمثيل التي يعبر بها النص الشعري الأحلام وأحلام اليقظة والكوابيس والهلوسات؛ أو يمكن أن يقال إن هناك تجليات لهذه الآليات النفسانية في القصائد الشعرية المعاصرة؛ وهي آليات ناتجة عن المحيط الثقافي والاجتماعي والسياسي. وفي إطار هذه الآليات يمكن أن تُقرأ قصائد “إنها تومئ لي“، و”هكذا قلت للهاوية” وغيرها؛ ففي هذه القصائد تمثيل بالجنس وبالحيوان، وبالماء، وبأفعال الإنسان، وبالزمان والمكان.
(أ) التمثيل بالجنس: مادمنا افترضنا أن أية قصيدة تحتوى على عنصر الجنس، فإن الإتيان بأمثلة لهذه الموضوعة يصير تحصيل حاصل؛ ومع ذلك، فإننا ملزمون بالتمثيل حتى يتجلى ما خفي من أمور. وهكذا، فإن قصيدة “ربما” تتحدث عن المرأة الشمالية ذات الورد الثلجي التي همَّ بها الشاعر الذي لم ينل أربه منها؛ وقصيدة “مراودة” تعبير مباشر عن الجنس، بما يقتضيه من مراودة ونعاس ورغبة.
إلا أن هذا التمثيل بالجنس هو أيقون على الفحولة المنهزمة أو على الرجولة ذات البُعد الشبقي، وعلى الإحباط والفشل الذريع؛ وبتعبير آخر إنه أيقون لا على واقع حقيقي، ولكنه أيقون على الأوهام؛ إذ لما همَّ لم تتحقق المباشرة، بل استحالت المرأة من “قطرة” إلى “حجرة”، وتحول الشاعر من جذوة الاشتهاء والرغبة إلى “حجر انطفاء”.
(ب) التمثيل بالحيوان: ويأتي التمثيل بالحيوان لتتميم هذه الصورة – صورة الأوهام والمتاهات. والحيوانات تنتمي إلى أنواع عديدة؛ منها الثيران، والطيور، والعصافير، والصقور، والوعول، والدببة، والكلاب، والأسود. وهو يعبر بها عن افتقاد العقل والعقلانية، وهيمنة الخرافة والاستيحاش والإفقار والإظلام والتيه. وقلما كان لبعضها دلالة إيجابية.
(ج) التمثيل بالنبات: وهو أنواع عديدة؛ مثل الصفصاف الذي يمُوء، وحقول الأرجوان، وأشجار النحيب والتوت المنكر، وغابة السيسبان.. وأغلب ما مثل به هو نباتات وأشجار ضارة غير نافعة، ليس فيها من ثمار إلا ثمار الوهم والأشواك المؤذية.
(د) تفاعل العناصر: يعثر القارئ في قصيدة واحدة على عنصر المرأة، وعنصر الحيوان، وعنصر النبات، وعنصر الماء؛ وكثير من القصائد تمثل هذا التفاعل الظاهر؛ ولعل أظهرها قصيدة “برهة“. ففيها تفاعل الماء والمرأة والحيوان والنبات:
لَم يَكُن نَهْر.
كَانَت امْرَأَةٌ تُفَتِّشُ فِي رَمَادِي
……………………
بِحَارٌ مِن نُوَاح
مِنْقَارُه يَمْتَدُّ فِي دَمِي
وَرْدَةٌ مِن بَرَاح
(هــ) طوطمية المجتمع: في هذا الكون الذي امتزجت فيه البنيات، وتجاذبت فيما بينها وأثر بعضها في بعض، يمكن القيام بموازاة وتطابقات بين البنيات الثلاث؛ إلا أن ما نريد التنبيه إليه هو إمكان الموازاة بين مجتمع الإنسان والمملكة الحيوانية، والمملكة النباتية؛ وهكذا، فإن المجتمع غابة، والمدن مراع:
يَارَا غَابَـةٌ مِنَ الضَّحِك
………………
الثِّيرَانُ اللَّيْـلِيَّة
………
ذَاكِرَةٌ أَهَبُهُا لِلكِلاَبِ السَّعْرَانَة.
……………
وَخَلْفِيَ قُطْعَانٌ ذَبِيحَةٌ تُرَتِّلُ أَوْرَادَهَا الشَّجِيَّة،
خَلْفِيَ أَشْجَارُ أُفُولٍ تُثْمِرُ النُّعَاسَ وَالبُكَاء.
3 – الأيقون المتشابه: هو أيقون يُشبه بالأحلام المزعجة، وبالرؤى الكابوسية وبالهلوسات؛ إنه أيقون يتجلى فيه انفصام الشخصية التي تعيش في عالمين: العوالم الواقعية بكل إحباطاتها ونكساتها وخساراتها، والعوالم الممكنة، التي هي امتداد للعوالم الواقعية. الأمثلة كثيرة:
حِينَمَا استَيْقَظْتُ كَانَ مُنْتَصَفُ اللَّيْل
…………………
أَيُّهَا النَّوْمُ الجَبَان
لِمَ جَعَلْتَنِي ضَحِيَّةَ اللُّصُوصِ وَالقَتَلَة
…………………
وَغَيْمَةٌ مِنَ الحُلْمِ الطَّفِيف
……………
وَكُنْتُ نَوْمًا فَوْقَ مَاءٍ،
كُنْتُ مَاءً نَائِمًا عَلَى خَرِيف
وقد جاء شكل القصائد شبيهًا بهذا الوضع الوجودي المضطرب؛ إذ كل قصيدة تشابه وضعًا أو حالةً أو موقفًا مع درجات من التشابه. فقصائد “إنها تومئ لي” ليست مشابهتها إلا إيماءً. فقد استغلت الفضاء، ولكنه استغلال لا يثير الانتباه كثيرًا إلا في قصائد مثل “تأوي” و”يارا” و”مسافة“، وفي الشذرات. ولكننا نجد مشابهةً ظاهرةً في قصائد “هكذا قلت للهاوية“؛ إذ شكلها يدل على الانفراط إلى انتظام، والتبدد إلى تجميع، والانحلال إلى انعقاد، والانقلاب إلى استقامة. وما بين الحالات توالٍ للجمل مفصول ببياض، فالتقاط للأنفاس، فاستئناف، فانقطاع، فتكثيف في حروف غليظة. انها مظاهر شكلية تشبيهية للحالة المرضية، وللحالة السوية، ولما بين الحالات من أطوار.
4– التعالــق: نقصد به الكناية والمجاز المرسل، ولما لهما من معان وعلائق كاللازمية والملزومية والكلية والحالية والمحلية. والتعالق ليس مبنيًّا على المشابهة، وإنما هو ناتج عن ارتباط شيء بشيء، وإيحاء شيء بشيء. ومما يتحقق به التعالق العناوين بصفة عامة. وهكذا، فإن العناوين التالية تعالقات: “وردة الفوضى الجميلة“، و”إنها تومئ لي“، و”هكذا قلت للهاوية“. هناك فوضى، وهي فوضى المجتمع، وهناك إيماء إلى الهلاك والاحتضار والعجز، وهناك أسباب مؤدية إلى الواقعة وإلى الهاوية.
بالإضافة إلى المؤشرات العنوانية، فإن هناك مؤشرات أخرى تتجلى في بعض الكلمات المعجمية المحورية والحروف الغليظة، وطول الأسطر وقصرها؛ فالكلمات مثل الانفراط والهباء والوليمة واللحد.. والتشديد وطبيعة الكتابة مثل:
قَتَلُونِي
………
أَنَا سَيِّدُ الهَبَاء
…………
هَل آنَ آنِي الآن؟
5– التعاقــد: إلا أن هناك مؤشرات لا تعود إلى القرائن اللغوية، ولكنها ترجع أساسًا إلى تعاقد تم بين مجموعة من الناس لإسناد مدلول ودلالة لدليلٍ ما، مثل تعاقد مجموعة من الناس على أن يرمزوا للعدل بالميزان، وبالصليب للديانة المسيحية، وبالهلال للديانة الإسلامية.. وتعاقدهم على إصدار أحكام على بعض الحيوانات والوظائف والمهن والمظاهر الثقافية. وهكذا حينما تذكر الثيران والوعول والكلاب والدببة، والصقور والأسود والعصافير، والقراصنة والبرابرة والانكشارية، وأصحاب النياشين والأوسمة، فإنها ترمز كلها إلى معنًى خاص حسب ما تم من تعاقد بين المستعملين.
بيد أن التعاقد ليس على درجة واحدة، فقد يكون عامًّا، وقد يكون خاصًّا، وقد يكون ما بينهما. فإذا ما استطاع الناس أن يدركوا العلاقة بين الإنسان والحيوان بسهولة لاستمرار البقايا الطوطمية فيهم، فإن قليلًا منهم هو الذي يعلم مرجعية استعمال الزمان بما فيه من فصول وأوقات، وما وقع به من تشبيهات، كما أن أقل القليل هو الذي يفهم تعبير “سهم الزمان”.
وقد استعمل الشاعر التعاقد العامي المبتذل والتعاقد الخاص؛ وقد أشرنا من قبل إلى بعض التعاقدات العامة والمبتذلة، وأما الآن فسنمثل لبعض التعاقدات الخاصة:
كُنتُ فِي الصَّبَاحِ حَجَرًا،
أَو شَجَرَة.
أَمْشِي
…………
وَفِي المَسَاءِ
أَقْتَفِي نِهَايَتِي المُنْتَظرَة.
إلا أن ما يثير الانتباه هو اتجاه سهم الزمان. فقد تقرر لدى الأنثروبولوجيين وعلماء الاجتماع وعلماء الفيزياء على الخصوص أن اتجاه سهم الزمان تقدمي، ولكن الشاعر يوجهه نحو الوراء؛ أي إلى الزمان الماضي؛ يقول:
سَنَلْتَقِي فِي الأَمْس
حِينَ يَنْفَجِرُ الفَضَاء
إِلَى عَزَاء.
إنها رؤيا تضاد بعض علماء الفيزياء الذين يعتقدون أن سهم الزمان متجه نحو المستقبل، في تطور فوضوي ينتج عنه “الموت الحراري”، ولكن رؤيا الشاعر أيضًا سائرة إلى انفجار في الفضاء وإلى الموت المادي والمعنوي؛ ولذلك فهو يريد أن “يتخلى” عن هذا الماضي، ويتجه نحو المستقبل بهبة ذاكرته للكلاب السعرانة، وبتمنيه سيده النسيان أن يدركه؛ إلا أن المستقبل نفسه ليس ملكًا له، وإنما غيره هو الذي يملكه؛ ومادام المستقبل ليس ملكًا له، فلن ينال إلا الفجيعة والتشتت والتبعثر:
لَكَ اختِيَارُ المَكَانِ أمَّا الزَّمَانُ فَلِي
………………
لِيَ المَكَانُ وَالزَّمَانُ لَيْسَ لِي
…………………
فهناك ماضٍ موتور ومستقبل مأمول، لكنه غير مأمون، وفصول يهيمن فيها الخريف، ونهار خامل، وليل نشيط بأحلام اليقظة والكوابيس المزعجة:
أَنْشَعُ الزَّمَن.
يَأوِي إِلَى جَسَدِي وَيَبْنِي عُشَّه بِاتِّسَاعِي،
قَشَّةً فَقَشَّةً مِنَ الفُصُولِ البَائِدَة.
لَهُم جَسَدِي – فِي النَّهَارِ– سَرِير،
وَلَيْلِي – لَهُم – يَقَظَةٌ حَاقِدَة.
أَزْمِنَةٌ تَتَقَاتَل.
………………
- التواطـؤ: قد يستند بعض الناس إلى مفهوم التواطؤ فيطعن في كل ما قدمناه من مفاهيم متعلقة بالتدلال المرجعي، بدعوى أن اللغة اعتباطية وليست قصدية، وبدعوى أن الشعر المعاصر هو ضد المحاكاة. يصح هذا الطعن لو نُظر إلى اللغة باعتبارها مفردات منعزلة غير مركبة، ولكنها بمجرد ما تُركب تصير ذات دلالة قصدية وطبيعية، كما أنه يصح لو لم ندرج المحاكاة.
لقد درجنا المحاكاة فابتدأنا بأقواها درجةً وهو الأيقون “المتطابق”، وانتهينا بأقلها درجةً في المحاكاة، وهو التواطؤ. فالتواطؤ، إذن، فيه درجةٌ ما من الأيقونية. ونستند إلى مسلمة هي أن أي نص شعري مهما كانت تجريديته ولاعقلانيته وتشظياته، له درجة من الإحالة على “الواقع” والوقائع، ومن ثمة تشبهه بها بعض التشبه. ولعل من نفي المحاكاة عن الشعر المعاصر إنما كان يقصد محاكاة “الواقع” والوقائع والمعاني المتعارف عليها والمتداولة بين كثير من الناس، ولا يقصد أن الشعر المعاصر لا يخلق محاكاةً جديدةً ناتجةً عن تواطؤ مجموعة من الناس؛ فلو قدمت هذه الدعوى لكانت منقوضة من أساسها. فقد بينا أن الشعر المعاصر هو شعر حكائي بامتياز، ولكنها حكاية ساخرة من مؤسسات وقيم وأعراف.. وحكاية معززة لقيم جديدة.
ثالثًا: تضاهيات:
1ـ ما بعد الثنائية: لدراسة هذه الحكاية وضعنا مخططًا صيغت خريطته من بعض المفاهيم السيميائية والدليلية وعلم النفس المعرفي ونظرية العماء، مع تعديلات وتحويرات. ولهذا وسعنا مفهوم الدليل فجزأناه إلى دال ومدلول وتدلال معنوي وتدلال تداولي ومرجعي؛ وكل مفهوم احتوى على درجات؛ إلا أن توسيع مفهوم الدليل وتدريجه ليس إلا خطوة لتوسيع المفاهيم الأخرى وتدريجها.
وقد سعينا من خلال هذا التدريج إلى مجاوزة البنيات الثنائية باقتراح تقسيم سداسي، وهو تقسيم مستقًى من السيميائيات، أساسه الثنائية البنيوية والتقابل المنطقي. وقد أبعدنا الروح المنطقي وتبنينا استرايتجية علم النفس المعرفي ونظرية العماء، إذ كل منهما يتحدث عن الانتظام التراتبي، وعن تحليل الهدف الكبير إلى أهداف صغرى، وعن الدوامات والحلزونيات.
في ضوء هذه المفاهيم عالجنا العلاقة بين الأدلة باقتراح مفهومي: الخطية/اللاخطية، ومعنى الأدلة بمفاهيم: النص الواضح/النص العمَى، والاستلزام/ الاستنباط. وقاربنا الدلالة بمفاهيم: ما فوق التناقض/ شبه التضاد، والاحتقار/الدعابة. وشخصنا خصائص الدال بـ: السواد/البياض، والتوازي الظاهر/ التوازي الخفي. كما اقترحنا تدريجًا للتدلال المرجعي. والخطاطة التالية توضيح لما سبق:
2 – ما بعد الفوضى: يظهر من خلال هذه الخطاطة أن هناك نظامًا وانتظامًا وراء الفوضى والعماء، وأن الباحث ملزم بأن يذهب إلى ما هو أبعد من الظاهر، ليستخرج القوانين العامة الشمولية التي تحكم ظواهر الكون. فالظواهر بينها علاقات مهما تبينت مختلفة الأجناس والأنواع والأصناف. وإن استخلاص النص الشعري وانتظامه من الفوضى و”العماء” ليس إلا مثلًا مضروبًا لما يمكن أن تعالج به ظواهر أخرى. لذلك، فإن ما أقترح ليس إلا من قبيل الإستراتيجية الخاصة بحل المشاكل؛ والنص الشعري ليس إلا مشكلًا من بين المشاكل.
…………………….
مراجــع
James Gleick, La Théorie du chaos, vers une nouvelle science, Paris, Albin Michel, 1989.
سامي أدهم، ما بعد الفلسفة، الكابوس، التشظي، الشيطان الأعظم، بيروت: دار كتابات، 1996.
رفعت سلام:
- وردة الفوضى الجميلة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987.
- إنها تومئ لي، القاهرة، هيئة قصور الثقافة، 1993.
- هكذا قلت للهاوية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1993.
…………………………
[1]انظرMichael Riffaterre,Sémiotique de la poésie, Paris, Seuil,1983, pp. 112
[2]انظر:William Frawley, Text and Epistemology, Albex Publishing Corporation,1987, p. 55.